تعيش الجزائر تراجعا يتطابق مع إيقاع الوضع الصحي لرئيس صامت وعاجز عن ترؤس مجلس الوزراء طيلة أشهر عدة. وقد هدف اجتماع الحكومة في 29 أيلول/سبتمبر الماضي إلى وضع حدّ للشائعات حول تدهور صحة عبد العزيز بوتفليقة. وهذه إدارة إعلامية لمسألة صحة الرئيس، وأما البلاد فلم تعد في الواقع محكومة حقاً. فالأمور اليومية تصرَّف تباعاً من خلال صورة رئيس وزراء يسنده كليا «جهاز الاستخبارات والأمن» فائق النفوذ، الذي يحكمه منذ 23 عاماً «توفيق»، الجنرال الصامد في موقعه، توفيق مدين.
وبدوره، فإنّ رئيس الوزراء عبد المالك سلال الذي لم ينل أداءه خلال الاجتماع الأخير لقمة جامعة الدول العربية إعجاب أحد، هو أيضاً محطّ تجاهُل حادّ من قبل بعض وزراء حكومته، ما يؤكد الطابع الدوني للحكومة بنظر الرأي العام الجزائري، وواقع أنّ النظام لم يختر بعد خليفةً لبوتفليقة.
الريع يعوض الكثير من النواقص
وتؤدّي غزارة عائدات الثروة النفطية دوراً في التخفيف من حدّة ضعف السلطة التنفيذية العاجزة عن إطلاق سياسة اقتصادية واجتماعية جديرة بهذا الاسم. وعلى الرغم من انخفاض أسعار النفط والغاز في مطلع العام 2013، التي تشكل عائداتهما 97 في المئة من صادرات البلاد، ما يتيح نوعا من التوزيع العام الزبائني، ومن الاستمرار بالإنفاق العام المبالَغ به وغير الفعّال. وقد سجّلت الجزائر في العام 2012 فائضاً تجارياً بقيمة 27.18 مليار دولار، في مقابل 26.24 ملياراً في 2011، بارتفاع نسبته 3.6 في المئة. واستفادت وقتها الصادرات من الوضعية الجيدة لأسعار النفط الخام. إلا انّ الميزان التجاري لا يكف عن التدهور منذ بداية العام 2013 بسبب انخفاض أسعار النفط التي تدنت عن أسعار الفترة نفسها من العام الماضي. لقد أعلن المصرف المركزي الجزائري أنّ تقلُّص أسعار النفط بنسبة 5.70 في المئة خلال الفصل الأول من العام 2013، ترافق مع تراجع بنحو 9 في المئة في حجم صادرات النفط المصدَّر.
لقد أدّى ترافق هاتين الظاهرتين إلى انخفاض العائدات النفطية بنسبة 14 في المئة، أي أكثر بقليل من 3 مليارات دولار في الفصل الأول من 2013، حيث سجّلت تلك العائدات ما مجموعه 17.53 مليار دولار
في مقابل أكثر من 20 مليار دولار للفصل الأول من العام 2012.
هذا التراجع ليس مثيراً للقلق ما بقيت احتياطيات عملات الصرف ثابتة عند مستوى مرتفع بالنسبة لاقتصاد بحجم الاقتصاد الجزائري، وهي تلامس الـ 190 مليار دولار. بجميع الأحوال، لا ينسى المصرف المركزي الجزائري الإشارة إلى أنه «في ظل مستوى مماثل من الاحتياطات الرسمية بالنقد الأجنبي (وهذا خلا الذهب) في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2012، فإنّ الجزائر مصنّفة من بين أولى الدول النامية لناحية النسبة من احتياطيات النقد الأجنبي على إجمالي الناتج المحلي. إنّها إحدى الدوافع النادرة للرضا لدى إدارة معدومة الفعالية بشكل موصوف، كما تشهد عليه التصنيفات المخجلة للجزائر على جميع الجداول المقارَنة للاقتصاد العالمي، فضلاً عن نسبة النمو البائسة.
استيراد استهلاكي مجنون، وفساد
في المقابل، فإنّ هذه البحبوحة المالية، شديدة الأهمية خصوصا أن الجزائر لا تعاني عملياً من دين خارجي، لا تسمح للبلاد بالتخلص من التبعية المتزايدة إزاء الواردات. يجدر التعاطي مع انخفاض كمية الصادرات النفطية وقيمتها بالمقارنة مع الزيادة المطردة للواردات التي يتوقع أن تصل إلى حدّ غير مسبوق، أي بما قيمته 60 مليار دولار في أواخر العام الجاري. إنّ الريع الناتج عن استغلال الموارد الطبيعية الأحفورية أرسى إدماناً حقيقياً على الاستيراد، الذي فشلت جميع الإجراءات البيروقراطية المتخذة منذ أعوام في كبحه. وتكمن المشكلة في هيمنة السلع الاستهلاكية على هذه الواردات الضخمة على حساب مدخلات الإنتاج التي لا تكف حصّتها عن التقلص إلى حدّ الهزال. تسلك الجزائر طريق اندثار الصناعة، وهي تبدو كسوق استهلاكية خياراتها ضيقة ومحصورة للغاية، وعاجزة عن استخدام النفقات العامة الهائلة (أكثر من 500 مليار دولار) المصروفة منذ نحو عشر سنوات كرافعةً للإنتاج ولخلق الوظائف. إنّ عجز السلطات العامة عن الحدّ من البطالة، وخصوصاً بطالة الشباب، هو بمستوى الانحطاط الكبير في الخدمات العامة، وتحديداً تلك المتعلقة بالقطاع الصحي. فالمستشفيات الجزائرية، التي تعجّ بالأوساخ والتي باتت فريسة لنقص منهجي بالأدوية، تحوّلت إلى أماكن لانتظار الموت. وحين لا ينتمي المرء في الجزائر إلى النخبة المحظية (النومنكلاتورا) المؤهلة للحصول على دعم الضمان الاجتماعي لتلقّي العلاج في الخارج، يجدر عليه أن يصلّي لكي لا يصاب بأيّ مرض. في هذا السياق، فإنّ انتقال الرئيس بوتفليقة إلى مستشفى عسكري في باريس للعلاج، خلف اصداء شديدة السلبية لدى المواطنين، وبات الانترنت يعجّ بصور مروّعة عن اضمحلال الخدمات الصحية الجزائرية. وفي مواجهة الكابوس الذي يعيشه ملايين الجزائريين، تعهدت الحكومة ببناء مستشفيات أخرى... ستعرف حتماً، بسبب الإدارة السيئة لها، مصير المؤسسات الحالية نفسه. ومن المعلوم أن القطاع العام لتشييد المستشفيات هو واحد من أهم حقول الفساد، والتكسب الممكن. فقد تجاوزت التكلفة النهائية لتشييد المستشفى العسكري في وهران 900 مليون دولار (مقابل ما يقدر بـ 160 مليون دولار بالنسبة لهذه الفئة من البنى التحتية)، وقد بنت المستشفى Brown-Root-Condor، وهي شركة جزائرية ــ أميركية تعمل في الحقلَين العسكري والنفطي معاً، وسبق لحلّها في ظروف شديدة الغموض أن أثار فضيحة قبل بضعة أعوام. إنّ التسعير الزائد والدائم على هذا النوع من المشاريع المنجزة على طريقة «تسليم المفتاح» (أي التي تصبح جاهزة فور انجازها) تصل إلى مستويات فلكية في بلد يُعتبر فيه التخاذل عن أداء المهام على أعلى مستويات أجهزة الدولة، من الأمور الرائجة.
وهكذا، كشف القضاء الايطالي أخيراً أنّ شبكة من الفساد المرتبطة بالوزير السابق للنفط، شكيب خليل، المسفّر مذاك تحوطاً إلى الولايات المتحدة، تحصلت على مليار دولار من الرشى لقاء سلسلة من عقود تنفيذ الأعمال لصالح شركة «سوناتراك» النفطية الحكومية. وبسبب الحرج الذي تسبب به ما كشفه القضاء الايطالي، قررت السلطات القضائية الجزائرية رسمياً تولّي الموضوع الذي بات يُرمز إليه بـ«قضية سوناتراك 1و2». وقامت الأجهزة الأمنية التابعة لجهاز الاستخبارات والأمن بإبلاغ وسائل الإعلام بأنّ تحقيقات قد فُتحت، لا تزال نتائجها مجهولة حتى يومنا هذا، تماماً مثلما لا تزال النتائج مجهولة في ما يتعلق بتحقيقات سابقة حول الاختلاسات المالية الضخمة لمسؤولين وضبّاط كبار، على خلفية تنفيذ الطريق السريع الذي يربط المنطقة الشرقية بالغربية من قبل شركات صينية ويابانية. إنّ النظام السياسي الجزائري المبني على أساس مؤسّساتي وهمي، يفتقد للشفافية بالكامل، ولا يرسي أي آلية للمحاسبة ولا يحدّد المسؤوليات المترتّبة على مختلف فاعليه. كما أن الجزائر المشلولة، والتي تسجّل نتائج اقتصادية سلبية، تفتقد أيضاً إلى الصوت على الساحة الدولية. فسواء في ما يتعلق بملف الجارة مالي، أو بما يخص الأزمة السورية الدراماتيكية، فإنّ الدبلوماسية الجزائرية غائبة، وموقفها لا وزن كبيرا له. لقد فقدت الجزائر التي كانت في الماضي لاعباً فعالاً على الساحة الدولية، التأثير والاحترام.
صراع بين الرئيس والأجهزة؟
إنّ التعديل الوزاري الأخير، حيث حصل بعض التبديل في المناصب، هو من علامات هذا الواقع السياسي الجزائري. وقد غطّت عليه بشكل كبير إعادة تنظيم جهاز الشرطة السياسية، أي جهاز الاستخبارات والأمن. إنّ إحكام قفل الساحة السياسية والرقابة الشديدة على الصحافة، غير المستقلة إلا بالاسم، يسمحان بإدارة الرأي العام من خلال الشائعة، وتعيين أكباش فداء يكون دورها تحوير انتباه المواطنين والتغطية على أولئك الذين يتولون السلطة الحقيقية. في هذا السياق بالتحديد، يندرج منذ بضعة أسابيع البثّ بإصرار لفرضية الصراع بين قادة الأجهزة الأمنية من جهة، والرئيس من جهة ثانية. وتفيد الرواية التبسيطية بأنّ الرئيس، المتهالك جسدياً، ومحيطه العائلي، يتحمّلون مسؤولية الحالة المتشنجة التي تعيشها الجزائر. إلا انّ قلةً تُولي مصداقية لهذا الصراع المزعوم، طالما أنه من الواضح أنّ السلطة الحقيقية واستمراريتها لا تزالان تكمنان في أعلى هرم الأجهزة الأمنية التي تهيمن من دون منازع على حياة البلاد منذ 11 كانون الثاني/يناير 1992. وهي أجهزة أمنية أثبتت فعاليتها الكبيرة في خنق الحريات ونشر الآفات الاجتماعية، لكنها، وعلى الرغم من إمكاناتها غير المحدودة، تُعاني بوضوح من صعوبة في حماية البلد، مثلما تكشّف خصوصاً مع العمليات الارهابية في جنوب غرب الجزائر (رغم أنها منطقة ذات كثافة أمنية كبيرة)، وخلال الهجوم على الحقل النفطي في تيغنتورين بأقصى جنوب الشرق. وسواء أكانت هذه الأحداث عبارة عن تلاعب داخلي أو عن سلوك خبيث، فهي أثبتت، رغم كل شيء، أن انعدام الكفاءة ليس محصورا بالمدنيين المكلفين بمهام إدارة البلاد... إلا أنّ انتقاد جهاز الاستخبارات والأمن وقادته هو من المحرمات في الجزائر، وخط أحمر لا يمكن لأي وسيلة إعلامية جزائرية أن تجتازه من دون عقاب. بينما يتداول عامة الناس مثل هذه الانتقادات. يمتلك الرئيس بالتأكيد هامشاً للمناورة، خصوصاً على صعيد العقود المالية الكبيرة، والكوميسونات، غير أنه لا يمتلك صلاحيات سوى تلك التي يسمح له بها قادة الأجهزة الأمنية.
الرأي القائل بتفوق الحيّز الأمني على السياسي، محقّ بالكامل. وعلى أي حال، فمن الواضح أنّ الخلافة في قيادة جهاز الاستخبارات والأمن أهم بكثير من الخلافة في رئاسة الدولة، طالما أن ولاية الرئيس تنتهي في العام 2014. إن النقاش حول التمديد المحتمل لولاية الرئيس لعامين إضافيين ليس محسوماً بعد. أما ولاية قائد جهاز الاستخبارات والأمن، فلا تحدها سوى «البيولوجيا» وميزان قوى يعمل لصالحه منذ أكثر من عقدين. لكن وبغض النظر عن اختيار قادة الأجهزة الأمنية، وعن إعادة تنظيم تلك الاجهزة (وإعادة توجيهها)، فمن الواضح أنّه لا يتوقع حصول أي تطور ما دام يسود نمط حكم بوليسي، خانق للحريات، يفتقد للكفاءة، وفاسد بالكامل.
إنّ تكلس النظام يكاد يهدّد مباشرة دوام الدولة الواهنة إلى حدّ بعيد. والسؤال المطروح علناً يدور حول قدرة النظام على امتصاص صدمة أخرى بحجم أزمة الرهائن في حقل تيغنتورين، خصوصاً وأنه نجح حقاً في إفراغ الساحة من أي صوت فاعل. فمنذ وفاة عبد الحميد مهري، الأمين العام الأسبق لـ«جبهة التحرير الوطني» في كانون الثاني/يناير 2012، لم يعد بالإمكان سماع أي صوت معروف وصاحب مصداقية. كما أنّ معدّل أعمار القادة الجزائريين الحاليين، بدءاً من الرئيس بوتفليقة والجنرال توفيق مدين اللذان يبلغان حوالي 75 عاماً، ونائب وزير الدفاع وقائد القوات المسلحة الجنرال صلاح (أكثر من 80 عاماً)، يجعل من المستحيل الاستمرار في التفريق بين تجديد الأجيال والتحوّل البنيوي للمؤسسة السياسية الحاكمة في البلاد. فلنأمل أن تحصل التغييرات الديموقراطية الملحة قبل الانهيار الكامل للدولة الجزائرية.
[يعاد نشره ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و”السفير العربي“.]