[ هذه المساهمة ضمن ملف خاص حول رسامي كاركاتير عرب في زمن ما بعد موجة الثورات الأخيرة .انقر/ي هنا للاطلاع على جميع مواد الملف، الذي أعده لـ”جدلية“ أوس داوود يعقوب.]
يكاد المشهد العربي بتناقضاته السياسية والاجتماعية والثقافية أن يكون رسماً كاريكاتيرياً. وثمّة تجليات للحراك الجماهيري الذي قاد إلى ثورات الربيع العربي، منها بحكم المؤكد ما يرتبط بفن الكاريكاتير الذي استحال إلى استنطاق ضمير شعبي ارتبط بالمزاج الشعبي. هذا الاستنطاق ترجم إلى علاقة عضوية مباشرة بين الكاريكاتير والحراك المدني. إنها لحظة لقاء تحت خيمة الغضب. في العراق مثلًا، كان لي شرف أن يطبع المتظاهرون رسوماتي بأحجام كبيرة ويرفعونها كلافتات احتجاج. تلك هي اللحظات الفارقة في العلاقة التي تصل حد التماهي على مستوى السخرية المرّة وعلى مستوى المطالبات بالتغيير.
وحين يتداول الناس على مواقع التواصل الاجتماعي وبشكل واسع الرسم الكاريكاتيري الذي يفضح السياسيين ورجال الدين، والذين هم يشتركون جميعاً بالفساد، يتحول الرسم هنا إلى وثيقة بصرية تعزز الإدانة، وتصبح محاكمة شعبية للأنظمة السياسية المستبدة والناهبة لمقدرات الشعوب. لكن الكاريكاتير العربي، وأنا أتناوله هنا من الزاوية العراقية، لم يتقدم على الحراك الشعبي، بل هو يحايثه ويوازيه، قد يقود إلى زيادة زخمه الاحتجاجي، وهذا ما هو مهم في الظرف الراهن.
والحال، قد تتعلق المسألة بالوظيفية السائدة في فترة ما قبل ثورة الاتصالات، حيث ركن الكاريكاتير إلى زاويته على صفحات الجرائد والمجلات. وقد ترتبط بوظيفته المحفوظة بالذاكرة الجمعية وهي النقد الاجتماعي الساخر، لكن حلحلة هاتين المسألتين بدأت فعلياً منذ بداية الربيع العربي، حيث تهشمت "قدسية" النظام السياسي وشخصية القائد الأوحد أو القائد الملهم والقائد الضروري، مما أتاح لرسام الكاريكاتير فضاء أوسع لتناول الظواهر السياسية وتشريح شخصيات الفساد والفشل عبر الألوان والخطوط.
وفي العراق، لم ينجو الرسامون بطبيعة الحال من البطش الحكومي والميليشياوي نتيجة هذه العلاقات الجماهيرية المتنامية. فقد الزميل الراحل أحمد الربيعي حياته ثمناً لأنه رسم إحدى الشخصيات الدينية الإيرانية ببورتريه كاريكاتيري لم يمس منزلة رجل الدين ولم يقلل من أهميته، لكن العقلية السياسية والميليشياوية المتخلفة تنظر إلى الكاريكاتير على أنه انتقاص من الشخصية التي يتناولها وإن كانت بورتريهاً فنياً. ومن خلال تجربتي، فإن عشرات رسائل التهديد والوعيد تصلني أسبوعياً من سياسيين ورجال عصابات وميليشيات مرتبطة بالحكومة لأنني أتناول شخصيات دينية وسياسية مرتبطة بالفساد الذي ينخر مفاصل الدولة العراقية، ومع أني نفذت بجلدي منذ أن شعرت بحبل السلطة يقترب من رقبتي وفررت خارج العراق، إلا أن رسائل التهديد لي ولعائلتي لم تتوقف.
وبالرغم من هذا الرعب الذي تخلّفه رسائل التهديد، إلا أنه يكشف، بشكل واضح، حجم التأثير على الساسة، والرعب من الرسم، كما الرعب من بقيّة الفنون الأخرى.
شخصيًا، أؤمن أن التماهي في العلاقة بين الحراك الشعبي العربي والكاريكاتير قاد إلى تطور وتنامي كل منهما، كما أنه أدى، وأنا هنا أتحدث عن تجربتي الشخصية، إلى تجديد وابتكار في الأسلوب ليكون الكاريكاتير صوتًا لضمير المزاج الشعبي الثائر على الأنظمة الرجعية التي تحاول إفقاره وتحقيره بشكل مستمر.
***
أحمد فلاح رسام كاريكاتير من العراق. من مواليد 1987. طالب معهد فنون. عُرف برسومه الصادمة والجريئة، وهي توزّع السخرية والنقد على جميع السياسيّين العراقيّين من دون تمييز. وهذا ما وجد له صدى لدى العراقيّين، حيث راحوا ينشرون رسومه على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن غضبهم من هذا السياسيّ أو ذاك.وفي مطلع العام 2014 على وجه التحديد، لم يكن أحمد فلاح معروفًا كما هو اليوم، إلّا أنّه تعرّض إلى تهديد من قبل إحدى الميليشيات المسلّحة، ممّا اضطرّه إلى الهرب إلى عاصمة إندونيسيا جاكارتا، وكان يومها قد رسم غلافًا لمجلة اسمها "فكر" وهي إحدى المجلّات الصغيرة وغير المعروفة، يدين فيه فساد أحزاب الإسلام السياسيّ أيضًا.
ومن جاكاراتا، عاد" فلاح" إلى الرسم بجرأة أكبر، ولم يكن فلاح الأول بين الفنانين والرسامين الساخرين ممن تلقوا تهديدات مختلفة، حيث تعرض العديد منهم لتهديدات واعتداءات مختلفة، بسبب لوحاتهم الساخرة من الوضع السياسي في البلاد.ويتناول "فلاح" اليوم كل الأزمات السياسية في العراق من خلال رسوماته. ويقول فنانون إن "فلاح" يستخدم أسلوب إسقاط دلالات الماضي على أشخاص الحاضر في رسوماته الساخرة. ويعترف الرسّام الشّاب أن وجوده خارج العراق منحه فسحة أكبر من حرية التعبير عن رأيه. وقال: "لو كنت في العراق لتعرضت للتصفية (القتل) مباشرة".