[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول الفن التشكيلي والثورات العربية. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
لكل منّا أحلامٌ وأهداف تحمله إلى أماكنٍ وزوايا شخصية، تستدعي البحث والعمل ورمي جميع الطبقات والقشور، التي تغلّف كلّاً منّا نتيجة حياتنا الاجتماعية والشخصية والفكرية، حتى يتلمّس الإنسان ما بداخله، فهذا ما يحدث للفنان وخاصةً مع عمله الفني الخاص وبحثه، تقنيًا وفكريًا ثم عمليًا.
وكانت أهم القشور قد سقطتْ مع بداية ثورات الربيع العربي، فمن زاويتي كفنانة تشكيلية سورية ومعنية بشكل أساسي بالوضع السوري كمواطنة أولًا ثم كفنانة تشكيلية، عند استخدام الشارع العربي ببداياته اللوحات المكتوبة والمرسومة وفن الغرافيتي ببساطة أدواته، تعبيرًا عن صوت الشارع والشباب العربي بحراكهِ، وهذا يثبت أهمية الذاكرة البصرية كأداة لإيصال الصوت، كما كان أهمية استخدام الصورة والرسم ببدائيته أداةً للتعبير الذاتي والتواصل البصري والتوثيق، قبل استخدام اللغة في الماضي
وتطويرها، إلى أن وصلنا إلى يومنا هذا بأدواتٍ متطورة للتعبير والتواصل، أحسن البعض استخدامها وأساء البعض الآخر.
هذا قد أخرج معظم الفنانين من قوقعة الهم الشخصي، إلى الهم العام، إلى أن أصبح الوضع تنافسيًا، كجنون التعبير، لرفع الصوت ثم توثيق الحدث وعنفه لاحقًا، خاصة لدى الأعمال الفنية الرقمية، المُواكِبة لسرعة الحدثْ وهوله، فبساطة شروط تنفيذ العمل وتوفر مواده البصرية، فمنها ما كان صدمةً وردة فعل نتيجة الحس العاطفي لدى الفنان، ومنها ما كان لإثبات وجود ورفع الصوت عاليًا، فلجأ عدد كبير من الفنانين للفن الرقمي باختلاف أساليبه لعدم توفر المكان والأدوات لديهم، لتنفيذ أعمالٍ فنية كالرسم والنحت، وغيرها من فنونٍ تحتاج للاستقرار النفسي أولًا، والمادي، وعدم الاستقرار بالتنقل وفقدان الأمان الحسي والملموس، فاختلفت الأعمال بمستواها الفني وقيمتها، انعكاس فوضى الحرب وعنفها وتفاوتْ هدف الفنان قبل تنفيذ العمل، ينطبق هذا أيضًا على اللوحة والنحت والأدب والمسرح والسينما وجميع الفنون البصرية والسمعية وغيرها من الفنون والأنشطة الثقافية، لكن ما كان ظاهرًا مع الوقت، هو توثيق الفن بمرحلةٍ تتركْ للتاريخ، وخاصة بعد دخول السلاح والدمار للروح والإنسان، وتأثيره على المنتج الثقافي وانعكاسه على المجتمع وتبدل أولوياته.
لا يمكن للفن أو الفنان أن يكون مستقلًا عن ثقافة المجتمع، فهو متأثر قبل أي تأثيرٍ أو تطويرٍ منه، اتجاه نتاجه وبحثه ليضيف لمسته الخاصة، إن كانت جديدة ومهمة لتاريخ الفن والمجتمع، ولن يلقى الفنان أي نتيجة حالية من عمله الفني سوى مقاومة الموت بالحياة من خلال العمل، وتحقيق بعض التوازن النفسي عند التعبير، وكحالة علمية صحية على المستوى الشخصي، وصحية كخطوة لتغيير الحركة الثقافية باتجاه تحرير التعبير، فيترك للتاريخ يُثبتُها باستمراره ضمن حالة توثيقية مرّ بها الفن السوري والعربي.
أنا كمواطنة سورية أولًا، كان تأثري بالشارع ومقاومته لتصاعد العنف اليومي، واستغاثة طفلٍ، كانت كفيلة لانتقالي من هم العمل الشخصي بالعمل الفني، بانعكاسه من حياتي الخاصة وعلاقتي مع الآخر بتقنيات مختلفة وتجارب، إلى هم شخصي ولكن صنعه الهم عام كنداء إنساني عاطفي، ووجودي للمستقبل، يحتاج كلٍ منّا حاليًا.
وتجسد من خلال اختصاصي، برفضي لاستخدام العنف البصري لدى الإعلام تلبيةً لتجارة الدم الرخيصة، جعل اللون يهجر أعمالي، والبحث عن ورقة بيضاء تحمي ذاكرة طفلي، ليكتب صوته ولون دفء مستقبله، رسمت شهيقًا وزفيرًا بعيدًا عن الحرب، لكن آثار دمارها تسكنُ كلّ عملٍ، بطبقات شفافةٍ بيضاء تخفي كل سواد ورماد، ربما خاطبتُ كل طفل فينا، أو ربما نوع من مقاومة للحياة، واستهزاء فينا نحن الكبار.
كأي فنان سوري، كان عملي نتيجة فوضى من المشاعر وردة فعل، لكن لم يخلُ منه بحثه التقني، لخدمة العمل الفني بشكل ميكانيكي وحاجة العمل للتطوير، فامتلأت مساحة أعمالي بدايةً، لمساحات واسعة تتنقل بها ظلالُ أطفالٍ فُقدتْ بين حجارة منازلها المدمرة، وتواجد القط حيوان صلته بالشارع مباشرة، كشاهده الغير مرئي واليومي، فاستخدامي لبعض أدوات الطفولة، كالطائرة الورقية التي أطلقتها للسماء حرةً، وطيور السّنونو كمهاجرين عادوا حبًا، ورسائل من ورق تحملُ عناوين تصلُ إليها، تتغير أدواتي مع تغير الخبر السوري بالنسبة لي كفنانة كانت ضمن الحدث ثم انتقالي مقيمة خارج سوريا، حالي وحال الكثير من السوريين..
فجميع الأعمال الفنية والثقافية باختلاف قيمتها وفوضاها، إن كانت أدبًا أوفنًا بصريًا أوموسيقيًا وغيرها من الأنشطة الثقافية، هي نوع من مقاومة عنفٍ تشبث بذاكرتنا اليومية، ولإيصال صوت المواطن السوري الذي أرعب العالم، الذي أصبح كرسالة داخل زجاجة في عرض البحر على أمل قلبٍ محبٍ يتلقاها، وتاريخ يذكر أن الشعب السوري قاوم القهر والموت، وأن طفلي كان ضحية.
*************
ريم يسوف في سطور:
بلدة دير عطية السورية كانت الفضاء الحيوي لطفولة الفنانة التشكيلية ريم يسوف (1979)، تخرجت من كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق سنة 2000 (اختصاص نصوير زيتي)، لتتخذ بعدها من الفن طريقًا تعبيريًا، وقد عملتْ لفترة من حياتها في مجال تصميم المجوهرات، ونالت الجائزة التقديرية الثانية في مسابقة الإبداع الحر لتصاميم المجوهرات، في دبي، وكان تصميمها الفائز مستمد من الوردة الجورية الشامية، ومن حياتها في مدينة دمشق.
أقامت معارض شخصية في بلدها وفي عدد من عواصم ومدن العالم، وشاركت في معارض جماعية داخل وخارج سوريا. وحازت جوائز وشهادات تقدير منها: ميدالية تقدير من معرض العرب و العالم سنة 2003 في سوريا، وميدالية تقدير من مهرجان عالم الجمال 2004، جائزة تقدير من سومبوزيوم إهدن 2003 لبنان، جائزة تقدير من مهرجان السنديان 2009 سوريا.
تقول الفنانة السورية إنها ليست مع فكرة "الفن للجماليات وللتزيين، وإنما هو فكر أولًا وثقافة شعب". وهي ترسم كما لو أنها تحلم، إذ يتداخل الواقع والخيال في لحظة هي ذروة الانهماك والحوار بين الفنانة وقماش اللوحة الأبيض. وفي الحوارية بين أبجدية الألوان والقماش والفرشاة المشحونة بالعاطفة تتخلق لوحة ريم يسوف بين يديها.
مرت تجربتها بعدة تحولات وتنقلات على صعيد الموضوع المطروح والتقنيات المستخدمة، ومنذ انطلاق ثورة السوريين في آذار/ مارس 2011 من أجل الحرية والعدالة والكرامة، بدأت الفنانة مرحلة جديدة في تجربتها، إذ تبلورت أسلوبيتها، وصارت الألوان أكثر شفافية، كما لو أنها تقول إنها تواجه بالرسم وتلك الألوان الشفيفة آلة الدمار والظلام والموت التي تفتك بشعبها الثائر.
ريم يسوف التي تهتم في أعمالها في السنوات الأخيرة بجملة لونية تتكون من طيف الرمادي والأزرق، وتعبر بلغة فنية ذات شفافية، وجهت في معرضها "نسائم باردة" في باريس (2013) رسائل إنسانية إلى العالم عبر مَشاهدِها التي عكست أحوال الأطفال في الحرب والغربة، رغباتهم وأمنياتهم، مُعبِّرة عنها بالطائرات الورقية والطيور ومغلّفات الرسائل والسلالم التي تجسد فكرة الحرية وإطلاق أمنيات غير منتهية لأطفالٍ يُولدون من أجل السلام.