[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول الفن التشكيلي والثورات العربية. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الفنان التشكيلي العراقي ستار نعمة:
طبيعي أن يكون تأثير العنف وتمظهراته البصرية بشكل واقعي أو من خلال الميديا أكيدًا على الأفراد كتجارب شخصية وعلى المجتمع كبنية ثقافية، لكن الفنان بإعتباره فردًا يملك حساسية خاصة بمعالجة الصورة العنيفة، يأخذ تأثير العنف لديه طابعًا يتضمن مقاومة تشكل رد فعل على الإطاحة بمشروع الإنسانية الذي يسعى عبر التاريخ لتهذيب السلوك العنيف للكائن الإنساني، ولهذا من الطبيعي أن يكون تأثير العنف على الفن بشكل عام والفنان التشكيلي بشكل خاص واضحًا من خلال اختيار الألوان الحادة والحركة المتوترة التي تعبر عن الألم والقلق، بالنسبة لي باعتباري فرداً في مجتمع أكلته الحروب والعنف، أحاول ترجمة الألم بالابتكار والتجديد والإشارة إلى مكامن العطب التي خلفتها الحروب في سيرتي الشخصية، الإشارة أيضًا إلى العقل البدائي العنيف، المعتم والذي فشلت كل المشاريع الإنسانية في التاريخ لإنارته، بمعنى آخر أحاول أن أصرح بالإدانة لفضح الروح الغرائزية الأكثر توحشًا، نحن في العراق وسورية ومنذ سنوات نمر بأكثر التجارب انحطاطًا في تاريخنا، التطرف الديني والفساد والدكتاتورية، في هذا الثالوث تتجلى مظاهر العنف بأبشع صورها.
واسيني الأعرج في رواية "مملكة الفراشة" يقول: "الحرب ليست فقط ما يحرق حاضرنا، ولكن ما يستمر فينا من رماد".
هذا الرماد بالذات، له في داخلي سمة الإستمرار، ورغم أن الآخر ربما لا يجد للوهلة الأولى في أعمالي عنوانًا واضحًا أو قضية لها علاقة بجغرافية محددة أو موضوع محدد، لكن بجهد إضافي سوف يجد الرماد الذي تحدث عنه بطل "مملكة الفراشة" منتشرًا في التفاصيل الصغيرة، تظهر أيضًا التشوهات التي أحدثتها الحروب والتي هي جزء مهم من سيرتي كفرد في مجتمع لم يرَ السلام قط، وكفنان له حساسية خاصة تجاه مظاهر العنف المتعددة، صحيح إني ومنذ سنوات أعيش خارج دائرة الخراب، لكن يمكن قراءة هذا المعنى المؤلم للحرب في تشوهات الأجساد والوجوه التي أرسمها، الألوان الحارة، والخطوط المتوترة، والروح القلقة التي يمكن تحسسها في التفاصيل، في ذات الوقت الذي يمكن سماع الكثير من صرخات الموت باعتباري كائنًا يعرف تمامًا ماذا تعني الحرب.
في بعض أعمالي تنبيه يتضمن أن الرصاص يأز في مكان ما، وهدير المدفعية قريب جدًا والطائرات أيضًا، تمر في هذه السماء الرمادية، هناك أيضًا مظاهر للعنف النفسي، ماذا يعني أن تبدأ بفقد الأصدقاء والأحبة الواحد تلو الآخر، أن تحزم حقيبتك الرثة المحملة بتراب الحرب وتحاول الفرار وعيناك ترصدان أطلال المدن المنهوبة والمدمرة، ماذا يعني أن تراقب قوارب الموت وأن تلتقط عيناك بإستمرار صورًا للفزع الآدمي، أبناء بلدك الذي يهربون من رعب إلى رعب، أي شكل إبداعي يستطي استيعاب ذلك؟ هذا ما يواجهه التشكيل العربي الحاضر، ويبدو أن حالة الصدمة أحالتنا إلى اليأس والإحباط، ماذا عسانا نفعل؟ كيف أخط خطًا أو أضع لونًا يدير ظهره إلى ما يحدث والنار تكاد تلامس وجه أمي والنخلة التي لعبت تحتها ذات يوم هناك؟.
لهذا تجد أحيانًا قوة حضور اللون الأسود في أعمالي، قد أكون لا أقصد ذلك بطريقة مباشرة لكن على ما يبدو هو تعبير عن حداد، إنه حداد مستمر، أو ما يحصل من توتر عال وصاخب بخطوطي، فأبدو كمن يحاول تمزيق العمل بالضغط على الفرشاة، العري أيضًا كتيمة جمالية، أحاول الوصول من خلالها إلى أجساد بائسة مفتته لا تحتمل وقوفًا على أرض، ربما لأنى كمن يسعى أن يكون هناك وأجمع الأشلاء وعبوات الرصاص الفارغة، وأقف أمام الدبابات المحطمة لأصنع منها عملًا تركيبيًا كبيرًا وعملاقًا، أتسلقه وأنتصب واقفًا وأصرخ اعتراضًا على ما يحدث (لعل صوتي يفزع البنادق والسكاكين وتكف عن القتل والتدمير).
من جهة أخرى يمكن القول إن الحروب قد توفر للفنان رصيد كبيرًا من الشحنات الدافعة إلى العمل والإبداع، لكني أعتقد أن السلام والاستقرار يوفر كمية أكبر من هذه الشحنات لأنه يعطينا مساحة كبيرة من الاسترخاء والتفكير والتأمل وها نحن ننتظر ذاك اليوم.
*************
ستار نعمة في سطور:
ولد الفنان العراقي ستار نعمة في بغداد عام 1967، درس الفنّ في بغداد وأكمله في أكاديمية سان جوست» بروكسل ترك العراق قبل نحو عشرين عامًا، ويقيم حاليًا في بلجيكا. وهو يعمل في الرسم والتصوير الفني وفن التركيب (الانستليشن) وهو دائم التجريب ويعشق التجريد لانه يمنحنه فرصة للتحليق بحرية وتطويع المادة الخام بدون حدود الواقعية.
لوحات ستار نعمة محتشدة بالكثير من استعارات اللغة التعبيرية عبر وجوه الشخصيات الغائمة، وعبر ماتوحي به أجسادهم المتشظية والغامرة، وهو لايملك –بحسب النقاد- إلاّ أن يرى العالم مصبوغًا بالألوان، وأن يكون اللون هو المقترح البصري لممارسة الاكتشاف، مثلما هو المجس الذي يلامس به الوجود والوجوه واليوميات والتفاصيل، وأن تتحول استعاراته اللونية والخطّية إلى بنى وتكوينات تفضي إلى مايشبه سيمياء التعرية أو اللذة أو الصدمة.. وتأخذنا لوحاته إلى حيث اشتباك تلك الألوان بالأفكار، وإلى حيث أن يكون الجسد بوصفه البصري، هو المجال التكويني الذي تتشكل به فضاءات هذا الاشتباك
ويعتني نعمة بتأثيث شخصيات لوحاته التي عرّاها من كل براثن الحياة اليومية، بوصفها رمزا جماليا خالصا، منقى من الشوائب الأخلاقية والايديولوجية، لتنطلق في فضاء اللوحة، ترسم معاناتها وتصرخ بالحرية بعد ان تحررت من ثقل الألوان.
أقام معرضا شخصيًا نهاية الثمانينات عندما كان العراق على أعتاب حرب جديدة، وفي العام 1993 أقام معرضًا في العاصمة الأردنية عمّان، وفي العام 2015 أقام معرضًا بعنوان: "الجسد فطرة التعبير" في قاعة" ألق للفنون والعمارة" في بغداد، وقد تشكل المعرض الذي استمر لعدة أيام من (24) عملًا فنيًّا، تنوعت ما بين البورتريه والفوتوغراف آرت ولوحات تجريدية، عبر استخدام أقلام الفحم وألوان الاكرليك والباستيل. وما ميز أعماله المعروضة هو حملها لروح مزيج من الشرق والغرب، روح امتلكت حرية التعبير عن ذاتها دون عناء أو خضوع لتأثيرات القيود المجتمعية مثلًا.. ولعل هذه ميزة يشترك فيها العديد من الفنانيين العراقيين في المهجر.
وللفنان ستار نعمة مشاركات هامة في معارض ومهرجانات دولية في أوروبا، فكان أن شارك في جنوب بلجيكا بمشروع للفنون البصرية عنوانه: "الفن إلى القلب"، كما اشترك في بروكسل مع الشاعر المغربي طه عدنان في تجربة فوتوغرافية شعرية.
نال عددًا من الجوائز الدولية منها: جائزة أحسن عمل فني بمسابقة «فان كوتسيم» في بلجيكا عام 2013 وجائزة أكاديمية «سانت جوس» (de Saint-Gilles) للفنون الجميلة في بروكسل لأفضل عمل تشكيلي عام 2014.