[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول الفن التشكيلي والثورات العربية. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الفنان التشكيلي الفلسطيني نبيل عناني
عجزت الثقافة الوطنية في بلداننا العربية عن عملية التغيير في مجتمعاتها للوصول بها إلى حياة سياسية واجتماعية تسودها الديمقراطية، وهذا يعود إلى العديد من العوامل منها انحسار المّد القومي منذ سبعينات القرن الماضي، ووجود ديكتاتوريات على رأس هرم الدولة بالإضافة إلى تخلف نظام التعليم وإنتشار الأمية، هذه العوامل مجتمعة ساهمت في عرقلة وصول الثقافة الوطنية إلى أهدافها في التغيير وسهلت دخول الفكر الإسلامي المتطرف.
وإذا ما عدنا إلى التاريخ، نجد تجارب عديدة تكرر نفسها، فعلى سبيل المثال إذا نظرنا إلى أوروبا في عصر النهضة وما بعده، نجد كيف حصل التغيير بعد حروب داخلية بين الحكام والشعوب وها نحن نرى نتائج هذا التغيير على كافة المستويات.
أما عن الحالة السياسية الفلسطينية وتأثير الربيع العربي عليها، فأقول: لقد أعطى الشعب الفلسطني نماذج نضالية مبدعة في دفاعه عن أرضه ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1948، وجاء الربيع العربي الذي بدأ في تونس وامتد إلى بلدان عربية أخرى، الأمر الذي أبعد القضية الفلسطينية عن الساحة السياسية وجعلها قضية ثانوية.
كان يشدني جمع الجماهير التي تملأ الشوارع والميادين، وأثناء ذلك كنت أعمل على مشروع رسم حقول الزيتون في فلسطين، نبعت هذه الفكرة لما تتعرض له هذه الشجرة لهجمة شرسة من المحتل بالقلع والحرق والتجريف والسرقة بطريقة ممنهجة، حيث أن شجرة الزيتون هي المصدر الأساسي للاقتصاد الفلسطيني ورمز الهوية والصمود.
حين تتجه إلى غرب رام الله تشاهد مناظر مذهلة للجبال والوديان الممتلئة بأشجار الزيتون على امتداد البصر حتى الأفق، وفي تأملي لهذه الاشجار أتخيلها جموعًا من البشر كالذي شاهدناه في ميدان التحرير وميادين أخرى في العواصم العربية التي خرجت تطالب بالتغيير، بدأت أعمالي الفنية تتحول من رسم الشجر إلى الإنسان.
الإنتفاضة الأولى 1987
عام 1988 خرجت حركة فنية استمدت فلسفتها وفكرها من الانتفاضة الأولى تحت اسم "جماعة التجريب والإبداع"، وعبرت هذه المجموعة عن نفسها بطريقة ثورية واكبت انتفاضة الشباب في الشارع، وكنت أحد مؤسسيها، وضعنا يومها مجموعة من الأفكار التي تحدد نهج "الجماعة"، وكان أهمها: مقاطعة الخامات الإسرائيلية والغربية واستخدام خامات محلية، والابتعاد عن الأساليب النمطية والبحث عن التجديد والتغيير، والتعبير عن الحالة السائدة في فلسطين ورصد هموم الشعب الفلسطيني.
وفي ذلك الوقت، اخترت خامة محلية طبيعية من جلد الخراف وكنت أحصل عليها من مدينة الخليل، ولونتها بألوان طبيعية كالحناء والأصباغ ومواد متوفرة في المطبخ مثل الكركم والشاي والسماق وغيرها.. هذه التجربة أعطتني زخمًا وخبرة غير مسبوقة ميزت عملي وأعطته نكهة إسلامية وشعبية.
القدس:
القدس من أهم مصادر الإلهام للمبدعيين الفلسطينيين، وبعد إقامة جدار الفصل العنصري والحواجز أصبح من الصعب الدخول للقدس كما تعودت سابقًا، كنت أستمتع بالمشي في حواري وأزقة القدس وأشم رائحة عبق التاريخ والعراقة من حجارة جدرانها وناسها فعبرت عن القدس معتمدًا على الذاكرة.
أقمت معرضًا شخصيًا عن الحياة في فلسطين قبل 1948، في "جاليري زاوية" في مدينة رام الله، رسمت بريشتي عائلات فلسطين المعروفة والتي لا تزال تعيش في الشتات لأخلد ذاكرة يحاول الاحتلال طمسها بكافة الوسائل، رسمت حيفا وعكا ويافا رسمت موضوع المستوطنات بالقرب من قرانا الوادعة وبشاعة الجدار والحواجز والأسرى والشهداء وغيرها.
التجربة الفلسطينية النضالية دفعت ثمنًا باهظًا مع عدو يتفنن بالقتل والأسر والهدم فما نسبته 80% من أبناء الشعب الفلسطيني تعرضوا للاعتقال أو الإعاقة أو الشهادة وفقًا لجهازالاحصاء الفلسطيني.
سوريا والعراق
يشغل تفكيري أيضًا ما يحصل في سوريا والعراق مما أثقل همومي، فأكثر ما يزعجني وضع سوريا قلب الأمة العربية، مشاهد التدمير والقتل وتشتت السوريين في كل أصقاع الارض.
لم اكن أتصور أن نهاية الربيع العربي في سوريا سيصل إلى هذا الحد من الإجرام، هذه مخططات الدول الغربية للمنطقة أو ما أطلق عليه "الشرق الأوسط الجديد"، فما حصل في سوريا يحصل في العراق وفي الدول العربية الأخرى، هدفه الأساسي إطالة عمر إسرائيل وتأمين حدودها الشرقية.
يبدو أن علينا التفكير جديًا قبل تحرير الأوطان بتحرير أنفسنا وتحرير العقل والجسد، دون الأخذ بالاعتبار تراكمات الموروث الديني والاجتماعي مهما كانت سطوته ومن هنا نستطيع أن ننهض بمجتمعاتنا ونحرر وطننا ونختار نظامنا السياسي بما يتلاءم مع أهداف مجتمعاتنا وتطلعاتنا.
*************
نبيل عناني في سطور:
يُعد الفنان التشكيلي نبيل عناني من أبرز فناني الأرض المحتلة، الذين قارعوا الاحتلال الصهيوني بلوحاتهم، وأكثر ارتباطًا بالتراث والهوية الفلسطينية.
ولد عام 1943 في مدينة اللطرون بفلسطين المحتلة، خريج قسم التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية عام 1969، وحاصل على درجة الماجستير من قسم الآثار الإسلامية بجامعة القدس عام 1998.
عمل عناني ضمن طاقم تطوير الحرف اليدوية الفلسطينية في جامعة بير زيت عام 1985. وهو عضو مؤسس لرابطة الفنانين التشكيلين الفلسطينيين عام 1975، ولجنة الأبحاث والتراث الشعبي الفلسطيني في "جمعية إنعاش الأسرة" وساعد في إقامة المتحف في الجمعية، وعضو جماعة التجريب والإبداع ومؤسس لمركز الواسطي للفنون الجميلة بمدينة القدس. وانتُدِب عام 1999 رئيسًا لرابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين فـي الضفـة وقطاع غزة.
شارك رفيق دربه الفنان سليمان منصور في تأليف كتابي "الأزياء الشعبية الفلسطينية" و"دليل فن التطريز الفلسطيني"، كما شارك الفنان الراحل عصام بدر في كتاب مجاله توثيق الفن التشكيلي الفلسطيني في الأرض المحتلة.
لوحات نبيل عناني تنتسب إلى الاسلوب الواقعي التعبيري بشكل عام، لكن هذا لم يمنعه من خوض غمار التجارب الفنيه، سواء في الشكل أو في المواد المستعملة، وقد عمل في مجال الخزف وقام بتنفيذ أكثر من جدارية زخرفيه اشتملت على مواضيع شعبية فلسطينية وهو يعتمد إهمال التكامل الأكاديمي في أعماله فيحور فيها بما يخدم شحنة التعبير التي يريد اطلاقها من خلال لوحته، وقد وصفه الشاعر الفلسطينى أحمد دحبور بأنه "الشخص الذى يكتشف عالمه المركب بأدوات متمرسة ورؤية تاريخية حتى ليكاد يجتمع الأسطورى إلى الراهن من خلال تشريح الجسد الإنسانى ويتجاوز الامتلاء مع الفراغ بما يشكل الجو العام للوحة".
ومواضيع التراث محطة مهمة من محطات عناني التصويرية التي وجد ذاته الإنسانية والنضالية في أحضانها مُبتكرًا أساليب تعبيرية شتى، يسبر من خلال رموزها وعناصرها التشكيلية.
ولم يكتفِ الفنان المخضرم بتقنيات سرد بصري أكاديمي نمطي وحسب، بل خاض تجارب تقنية مشغولة بمواد بيئية متعددة، ودخل من بوابة التراث الشعبي الفلسطيني ومواضيعه المفتوحة على الأرض والتاريخ والإنسان بعاداته وتقاليده المتوارثة، كنوع من الانتماء للجذور والإحساس بالمواطنة المفقودة بواقع الاغتصاب الصهيوني لأرضه فلسطين.
أقام نبيل عناني معارض شخصية ومشتركة داخل فلسطين المحتلة وفي الأردن – مصر – لبنان – تونس – الشارقة – قطر – المغرب – لندن – أمريكا – الدنمارك – اليابان –أسبانيا – ألمانيا – روسيا – النرويج – النمسا – كندا –إيطاليا – بلجيكا، وحاصل على مجموعة من الجوائز العربية والدولية، منها جائزة الدولة للفن التشكيلي الفلسطيني عام 1997، وجائزة جائزة الملك عبدالله الثاني بن الحسين للابداع عام 2006.