تغييرات ثقافيّة وعمرانيّة في الحيّز المدينيّ للناصرة
قليلة هي الأبحاث التي كُتبت عن الناصرة في العقود الستّة الأخيرة. السؤال الأوّل الذي يُطرح في سياق الحديث عن االناصرة هو: هل الناصرة مدينة أم هي قرية تضخّمت على نحوٍ عشوائيّ ودونما تخطيط؟ بأعين بعض الباحثين، الناصرة هي "عاصمة الفلسطينيّين في إسرائيل"1 . بأعين سكّانها، الناصرة هي "قرية تضخّمت"، "مكان بائس"، "مخيّم لاجئين كبير"2، "فندق عمّال"، "مدينة لم تولد"3، "جورة هَمّ"، "ﭼيتو" وَ "موقع بناء لم يكتمل"4.
سأطرح في هذا المقال تصويرًا واصفًا (portrait) تَظهر من خلاله الناصرة مدينةً صغيرة، تلائم وصْفَ زيميل (1903) للمدن الصغيرة. خلافًا لوصف فيرت (1938) للمدن الكبيرة التي تتميّز العلاقات بين سكّانها بكونها عشوائيّة، قصيرة، متقطعة، ثانويّة وغير شخصيّة، ترمي إلى هدف عينيّ قصير الأمد وتنتهي عند انتهائه، العلاقاتُ في المدن الصغيرة هي علاقات شخصيّة، يسودها الشعور بالألفة ومعرفة الآخرين وإنْ لم تجمعهم معرفة سابقة أو علاقة مباشرة. "الناصرة شبكة" هو الوصف الدقيق والشائع للسكّان في المدينة لشكل العلاقات التي تجمعهم، وهو يتطابق مع وصف زيميل للمدن الصغيرة. بالإضافة، سأعرض الناصرة كمدينة منكوبة، لم تتلاءم روايتها مع الرواية الفلسطينية الجماعية، التي اقتصرت على نموذجَي "الفلاح" و"اللاجئ"5، وقد يكون هذا ما يفسّر خيار الباحثين بتجاهلها وعدم التعاطي معها على مدار عقود طِوال.
من خلال المصطلح "مدينة منكوبة"، أودّ وصف الخراب الذي حلّ بمدينة الناصرة ابتداءً من العام 1948. من خلال هذا المصطلح، أحاكي مصطلح "مدن ما بعد الحرب" (post war cities)، لكن خلافًا لمدن ما بعد الحرب التي هُدمت ودُمّرت خلال الحرب ورُمّمت بعدها، الناصرة لم تُهدَم ولم تُدمَّر خلال "الحرب"، وإنّما دخلت إلى مسار هدم ودمار مستديم منذ العام 1948 حتّى اليوم. ينعكس هذا المسار في تهميش المدينة من خلال سلب ومصادرة مواردها المدينيّة وتفريغها منها، بالإضافة إلى إهمال عامّ للمدينة وعرقلة إنمائها، وغياب التخطيط المدينيّ عنها في أفضل الحالات وتخطيط مناقض لمصلحة المدينة ومُنافٍ لثقافتها ولتطلّعات سكّانها في أسوئها. كمدينة منكوبة تنمو الناصرة على خرابها المستمرّ، من خلال عمليّات هدم وبناء متوازية ومستمرّة. من هنا يجب علينا قراءة ما يحدث في الناصرة من خلال الاعتراف أوّلًا بحالتها هذه.
كي نفهم الحيّز المدينيّ للناصرة اليوم والتغييرات الثقافيّة في التعامل معه، من المهمّ الوقوف على ثلاثة عوامل أساسيّة لها الدور الأكبر في تفسير المشهد المدينيّ الحاضر. العامل الأوّل هو الفصل الطائفيّ في الحيّز المدينيّ وجذوره العثمانيّة. العامل الثاني هو مسار التمدُّن (urbanization) الذي دخلت فيه الناصرة كسائر المدن الفلسطينيّة مع بداية القرن العشرين والتراجع فيه (de-urbanization) ابتداء من العام 1948. العامل الثالث هو التحاق المدينة بالاقتصاد النيوليبراليّ منذ أواسط التسعينيّات حتّى اليوم.
العامل الأوّل: التقسيم الطائفيّ للحيّز المدينيّ وجذوره العثمانيّة
على مدار التاريخ، حَكمت الناصرةَ سلطاتٌ مختلفةٌ. الحكم الأهمّ والأكثر تأثيرًا إلى يومنا هذا هو حكم الدولة العثمانيّة، الحكم الذي عرفت الناصرة خلاله سنوات سيّئة وأخرى جيّدة اختلفت باختلاف الوالي وتطلُّعاته إلى المنطقة. مع نهاية القرن التاسع عشر، حصلت الناصرة على مكانة قانونيّة كمدينة (1877)، وعملت كمدينة مركزيّة أَمَّها سكّانُ المنطقة لتأمين حاجاتهم اليوميّة وللحصول على خدمات الصحّة والتعليم وغيرها، إلّا أنّ موقعها وظروفها الجغرافيّة حدّا من نموّها وبقيت مدينة صغيرة ولم تحظَ بأيّ أهمّيّة مقارنة بالمدن الفلسطينيّة الأخرى.
الخرائط الأولى للناصرة (1868، 1914)6 تشير إلى تقسيم المدينة إلى أحياء طائفيّة: حارة الروم؛ حارة اللاتين؛ حارة المسلمين؛ حارة الموارنة، وقد درج هذا التقسيم في جميع المدن العربيّة والإسلاميّة التي حكمتها الدولة العثمانيّة7. تلك الفترة تميّزت بصراعات داخليّة وبعلاقات طائفيّة حساسة ومركبة، وكان لهذا الفصل دور كبير في الحدّ من هذه الصراعات، إبعادها عن المناطق السكنيّة وتعزيز الفرد داخل جماعته، ممّا ساعد في تخفيف التوتّرات وحفظ الهدوء العامّ. تَوافَقَ هذا التقسيمُ مع حاجة الدولة لفرض سيطرتها وسهل جباية الضرائب التي اختلفت قيمتها من طائفة إلى أخرى. في المقابل، تَوافَقَ كذلك مع رغبة السكّان بالحفاظ على علاقات أسريّة وإقامة الطقوس الدينيّة داخل الأحياء السكنيّة، ومع الشعور بالحاجة إلى اللُّحمة والحماية الجماعيّة التي ازدادت مع وهن الدولة العثمانيّة8.
فترة الانتداب البريطانيّ (1918-1948) تميّزت بتغيُّر في نمط الحياة في الناصرة؛ إذ ظهرت فيها لأوّل مرّة طبقة وسطى تشكّلت ممّن درسوا اللغة الإنجليزيّة وعملوا كموظّفين في صفوف الانتداب. وقد رافق هذه الفترةَ تغيُّرٌ في التعامل مع الحيّز المدينيّ، فنرى أنّ الأحياء الجديدة التي ظهرت خلالها في جنوب المدينة: المَسْلخ وخلّة الدير، كانت أحياء مختلطة ولم تدلّ أسماؤها على تقسيمات طائفيّة. أمّا الأحياء القديمة، فباتت أكثر اختلاطًا وظهرت فيها الحارات العائليّة ومنها: حارة المزازوي، حارة البتريس، جبل دار فرح، حارة العديني، جبل دار قعوار، وغيرها. وهنا أفترض أنّ هذه التقسيمات الجديدة ما هي إلّا انعكاس لمنظومة تعامل الانتداب البريطانيّ والدولة الصهيونيّة فيما بعد، مع الفلسطينيّين على أساس عائليّ حمائليّ إضافة إلى التعامل الطائفيّ. أمّا الشعور العامّ بالرهبة والخوف من الآخر، فلم يرحل مع رحيل الدولة العثمانيّة، بل تزايد مع تعالي الأطماع الصهيونيّة في المنطقة وبقيت آثاره متجذّرة في الحيّز المدينيّ وفي تعامل الناس معه، فنسمع من كبار السنّ ومن سكّان الحارات القديمة عبارات على غرار التالي: "ما منبيع للغريب"؛ "ابن عمّي وجاري أبدى حتّى إن ببيع برخيص". وما هذه التعابير إلّا تثبيت للتعامل الجماعيّ -الطائفيّ -العائليّ مع الحيّز. هذا التعامل لا يلغي من مدينيّة المدينة، كما لم يُلغِ من مدينيّة أيّ من المدن الفلسطينيّة والعربيّة الأخرى، لكنّه مهمّ لفهم المشهد العامّ في المدينة.
مع بداية النكبة في العام 1948، بقيت الناصرة المدينةَ الفلسطينيّةَ الوحيدة في إسرائيل، ولم تُسلب أو تُدمَّر كسائر المدن الفلسطينيّة. استوعبت الناصرة خلال الحرب لاجئين فلسطينيّين من قرى مجاورة جرى تهجيرها وهدمها، وضاعفت عدد سكّانها. ففي الأيّام الأولى بعد الحرب، آوت الناصرة 15,000 من السكّان المحلّيّين وما قارب 20,000 لاجئ9، قدِموا إلى الناصرة واعتقدوا أنّ لجوءهم مؤقّت، فتجمّعوا سويّة حسب قرى الـمَنشأ واستقرّوا في المناطق الأقرب إلى قراهم آملين في العودة إليها في أقرب وقت. مع نهاية سنوات الخمسين، بات من الواضح أنّ حالة اللجوء ليست مؤقّتة، وبدأت تنمو في الأماكن التي استقرّ فيها المهجَّرون أحياءٌ جماعيّة على أساس الـمَنشأ. وقد عزّزت هذه الأحياء التقسيم الجماعيّ للحيّز وكثّفت التعاطي معه من هذا المنطلق. النمط الاجتماعيّ الذي توزّع حسبه المهجَّرون في الحيّز المدينيّ في الناصرة شابَهَ النمطَ الاجتماعيَّ الذي تَنظَّمَ حسبه اللاجئون الفلسطينيّون في مخيّمات اللجوء في لبنان10، وقد حافظوا من خلاله على المبنى الاجتماعيّ لبلد الـمَنشأ وعلى الصِّلات العائليّة التي جمعت بين أبناء البلد الواحد، وبشكل أو بآخر توافق هذا المبنى مع التعامل الصهيونيّ مع المجتمع الفلسطينيّ على أساس جماعيّ -عائلي -طائفيّ ورسّخ التعامل الفئويّ البطريركيّ مع الحيّز المدينيّ للناصرة.
العامل الثاني: مسار التمدّن مع بداية القرن العشرين وانعكاسه بعد العام 1948
مع بداية القرن العشرين، دخلت الناصرة كغيرها من المدن الفلسطينيّة في مسار تمدُّن (urbanization)، إلّا أنّ هذا المسار توقّف مع بداية النكبة، ودخلت الناصرة إلى مسار معاكس يهدف الى استبدال الناصرة، المدينة الفلسطينيّة، كمركز للجليل، بالمدينة الإسرائيليّة "نتسيرت عيليت". وقد أُنشِئت الأخيرةُ على التلال الشرقيّة المصادَرة من الناصرة. هكذا تحوّلت الناصرة في العام 1948 على نحوٍ سريع ومفاجئ من آخر المدن الفلسطينيّة وأقلّها أهمّيّة إلى "عاصمة" الفلسطينيّين في إسرائيل؛ عاصمة يتيمة بدون دولة وبدون مجتمع، مبتورة عن شبكة المدن الفلسطينيّة والعربيّة التي كانت جزءًا منها، قائمة بذاتها، مدينة فلسطينيّة وحيدة باقية في دولة إسرائيل التي قامت على أنقاض ونكبة شعبها11.
غياب التخطيط المركزيّ للمدينة في أفضل الحالات، واستعمال التخطيط كأداة سيطرة وقمع للسكّان في أسوئها، وسلب "الحقّ في المدينة" من سكّانها، هم عماد المسار المعاكس للتمدّن في الناصرة (deurbanization). فالدولة الصهيونيّة منذ نشأتها تعاملت مع المجتمع الفلسطينيّ الباقي في إسرائيل على أنّه خطر أمنيّ، واستعملت جميع الوسائل السياسيّة والعسكريّة والتخطيطيّة لإحكام المراقَبة والسيطرة عليهم. خلافًا للمدن الفلسطينيّة المسلوبة التي تحوّلت إلى "مدن إسرائيليّة" وسُمّيت "مدنًا مختلطة"12، بقيت الناصرة لوحدها في إسرائيل، مدينة عربيّة بدون يهود. ابتداءً من تمّوز عام 1949، أديرت الناصرة بواسطة حكم عسكريّ استمرّ حتّى العام 1966، خلاله عانى سكّان المدينة الاضطهاد الاجتماعي والاقتصاديّ والسياسيّ، بالإضافة الى انعدام الحياة الثقافيّة في المدينة بعد أن هجرها خلال الحرب ما يزيد عن النصف من سكّانها. المسارات المعاكسة للتمدّن أضرّت بمدينيّة الناصرة، وبرزت على مدار السنوات من خلال تفريغ المدينة من المؤسّسات الرسميّة فيها، ومصادرة الأراضي وتقليص مساحة المدينة، والارتفاع في الكثافة السكّانيّة والهجرة السلبيّة.
حتّى أواخر الثمانينيّات، تَميّز نمط البناء في المدينة كبناء خاصّ أقيم بمبادرة خاصّة على أراضٍ خاصّة بدون أيّ تمويل أو تخطيط رسميّ، وندرت البيوت الـمُعَدّة للبيع أو الإيجار. ولقلّة العرض وتزايد الطلب، تحوّلت الناصرة إلى أكثر الأماكن تكلفة للسكن في شمال البلاد. خلافًا للبناء القديم، دمج نمط البناء الجديد بين السكن والمساحات التجاريّة، ولاءم المبنى البطريركيَّ للعائلة حيث مَكّن العائلاتِ الجديدةَ التي كوّنها الأبناء الذكور من السكن بمحاذة بيت الأب والأشقّاء. وهكذا مع شحّ الأراضي ومصادرة الأراضي المحيطة بالناصرة، توسّعت المدينة إلى الداخل -وقد جاء هذا على حساب الحدائق المنزليّة والمساحات المفتوحة فيها.
العامل الثالث: التحاق الناصرة بالاقتصاد النيوليبراليّ منذ أواسط التسعينيّات حتّى اليوم
في أواسط الثمانينيّات، ظهرت لأوّل مرّة في الناصرة مبادرات لبناء غير خاصّ على أراضٍ بملْكيّة الدولة. خلافًا للبناء السائد في المدينة حتّى ذلك الوقت، تميّز النمط الجديد للبناء بتعدُّد الطوابق (أربعة، مقابل تحديدها لطابقين اثنين في البناء الخاصّ)، وبصغر المساحة في الشقق السكنيّة مقارنة بالبناء الخاصّ. علاوة على ذلك، مقارنة مع النمط العائليّ والطائفيّ الجماعيّ للأحياء السكنيّة، تميّزت هذه الأحياء بتنوّع السكّان، وقد جذبت هذه الأحياء مجموعتين: الأولى مَن لم يملكوا أرضًا خاصّة أو إمكانيّات للبناء، من بينهم مستحقّو قروض الإسكان الذين لم يتمكّنوا من الحصول عليها للبناء في المساحة العائليّة. الثانية مستحِقّو مخصّصات الضمان الاجتماعيّ الذين فقدوا استحقاقاتهم بسبب تواجدهم في سكن مشترك (السكن العائليّ). أطلق النصراويّون على هذه الأحياء الجديدة أسماء شيكونات (مساكن -بالعبريّة). وقد كانت هذه المساكن البيوتَ الأولى في الناصرة التي افتقدت المساحات المفتوحة التابعة للمنزل: ساحات وحدائق وحواكير.
في المقابل، ظهرت في الناصرة مع بداية سنوات التسعين "حارات الڤيلّات". وقد انبثقت هذه كنتاج ثانويّ للمشروع الصهيونيّ القوميّ "بْنِيه بيتْخا" (اِبْنِ بيتك -بالعبريّة) الذي بادرت إليه وزارة الإسكان في سنوات السبعين ورمت من خلاله إلى تشجيع الإسرائيليّين ذوي القدرات الاقتصاديّة على البقاء في مدن التطوير وعدم الهجرة إلى مدن ذات جودة حياة أفضل. هذا النموذج من الأحياء الجديدة له معايير خاصّة يجب الالتزام بها عند البناء، وقد استُنسِخ في الناصرة بدون أيّ تغيير أو أيّ ملاءَمة ثقافيّة. ولقد تشابهت هذه الأحياء مع " الشيكونات" بالتنوّع الجماعيّ -العائليّ -الطائفيّ لسكّانها، إلّا أنّها كانت النقيض التامّ "للشيكونات"؛ فبينما افتقرت الأولى إلى المساحات التابعة للمنزل، تميّزت الثانية بالأسوار ومواقف السيّارات الخاصّة والحدائق الخضراء التي برزت على مداخل المنزل خلافًا للحواكير التي تواجدت حتّى سنوات الثمانين بغالبيّة بيوت الناصرة في الجزء الداخليّ أو الخلفيّ للمنزل. ومقارنة بالأحياء "الطائفيّة -العائليّة" القديمة، تتمثّل الأحياء الجديدة ("الشيكونات" وَ "الڤيلّات") بالتنوّع الجماعيّ الطائفيّ والعائليّ وبالاستقطاب الاقتصاديّ الطبقيّ.
الناصرة بين "هون" و"هناك" - تغيُّرات ثقافيّة مرافِقة للتغيُّرات في الحيّز
التغيُّرات في نمط البناء والسكن في الناصرة رافقتها تغيُّرات في نمط الحياة عامّة. كما ذكرت في البداية، حتّى بداية الألفيّة الثالثة كانت الناصرة مدينة بائسة بأعين سكّانها تخلو من المعنى ومن الفحوى: "مدينة سياحيّة بدون سيّاح، عينها تخلو من الماء، سوقها بدون تجّار، شبابها لا يعود إليها، قيادتها مشلولة، بلديّتها لا تعمل، وسكّانها من دون أمل؛ مدينة تُحتضر وأهلها بدون أحلام"13. مع بداية الألفيّة، بدأت بوادر التغيير تظهر، ودخلت المدينة إلى مسار جديد بلغ ذروته في العام 2013. مشاريع عمرانية كبيرة بدأت تظهر في المدينة إلى جانب مبادرات ثقافيّة عديدة ومهرجانات كبيرة لم تعهدها المدينة من قَبل. مركز البلد القديم، ساحة العين (واجهة البلد وأيقونتها)، عاد إلى الحياة وامتلأ بالمطاعم والمقاهي التي اختفت من المدينة منذ عشرات السنوات. بعض هذه المبادرات وصلت إلى السوق، قلب الناصرة الخامد، وبثّت فيه بعض الحياة.
في محادثة مع إحدى نساء المدينة في سنواتها العشرين المتقدّمة حول التغييرات في المدينة، شدّدت على البعد الاجتماعيّ لهذه التغييرات وعلّقت على دعوة تلقّتها من أمّها لتناول "برانش برا" فقالت:
"برانش برا؟! من وينتا كنّا نطلع نوكل برانش برا؟! مش من زمان كنّا نشتري الفلافل ونستنّى تنروح على البيت عشان نوكله. أصلًا من وين جابت لي ايّاها هاي الكلمة برانش؟!"
"برانش" ليست الكلمة الوحيدة التي دخلت إلى قاموس السكّان، والتغيُّرَ الثقافيَّ في المدينة، وإن اختلف فهو لا يقتصر على فئة واحدة من الناس. فالمسوِّقون وأصحاب المصالح التجاريّة أدركوا رغبة السكّان في التغيير المنشود وخلاصته "أنْ نعيش هنا ونشعر أنّنا هناك"، وإن لم يحدَّد ما هو "هنا" وما هو "هناك" وأين هو الحدّ الفاصل بينهما. وهكذا نرى -على سبيل المثال- أنّ النشيد الإعلانيّ للمركز التجاريّ الحديث في المدينة (البيـﭺ) لشتاء عام 2012 كان: "نحتفل بالكريسماس كما في أوروبا". وكي تُستحضر أوروبا في الناصرة، أُحضِر الثلج إلى المدينة على مدار أسبوعين بواسطة شاحنات كبيرة قامت بتوزيعه في رحاب المركز التجاريّ غيرِ المسقوف. وعلى نحوٍ مماثل، يجري تسويق حيّ الجليل، الحيّ الجديد في الناصرة، بجملة ظهرت بالإنجليزيّة فقط: "المكان الجليل؛ الإيحاء من تل أبيب" (Galilee location, Tel-Aviv as inspiration). وبالرغم من الإيحاء التل-أبيبيّ ومن رؤية المخطّطين وأحلام المسوِّقين، يطلِق أهل الناصرة على الحيّ الاسم "شيكونات الجليل" -وعلى ما يبدو إنّ مستقبل الناصرة بعيد كلّ البعد عن تل أبيب.
إلى جانب هذا، تجري مسارات التغيير في الناصرة في ظلّ صراع مركَّب وعويص حول الهُويّة السياسيّة والطائفيّة للمدينة. فالانطباع السائد عن الناصرة أنّها مدينة مسيحيّة، لكن في الواقع المسيحيّون هم أقلّيّة فيها. هي مدينة عربيّة وفلسطينيّة في إسرائيل، لكنّها ليست إسرائيليّة. منذ قيام الدولة، تُعتبر البيت الأوّل والأهمّ للحزب الشيوعيّ في إسرائيل وللجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة التي ترأّست بلديّتها لمدّة 38 عامًا، ابتداء من العام 1975، إلّا أنّها خسرت انتخابات العام 2013 لصالح مرشّح مستقلّ انشقّ عنها وائتلف مع خصومه السياسيّين ودعمه رجال أعمال، ومعًا قادوا التغيير السياسيّ وأطلقوا عليه الاسم "ربيع الناصرة" -تيمُّنًا بـِ "ربيع" الدول العربيّة.
التغيير السياسيّ الذي حدث في انتخابات البلديّة في الناصرة (2013-2014) هو من السِّمات المحضة لتمكُّن الاقتصاد النيوليبراليّ في الناصرة كما في مدن العالم عامّة، ويتوافق هذا مع التغيُّرات الثقافيّة في الحيّز وفي نمط الحياة الثقافيّ والاقتصاديّ في المدينة.
التغيُّرات الثقافيّة في الحيّز المدينيّ للناصرة، فضلًا عن التغيُّرات في أنماط الحياة وانعكاساتها في الهُويّة، تتضمّن الأمر ونقيضه، ووجود الأوّل يُعضّد وجود الثاني. نسيج خاصّ من العلاقات العميقة والمركّبة والمتناقضة يجمع بين سكّان المدينة بتناسق وانسجام معتدل. كلّها معًا تشكّل فسيفساء تعكس عناصر أساسيّة في حياة الفلسطينيّين في إسرائيل، وأيّ محاولة لفهم الناصرة وما يمرّ عليها من تغييرات يجب أن تتم من خلال هذا السياق. وللنهاية ما الناصرة إلّا مدينة صغيرة ومنكوبة تحولت الى "عاصمة" لتعكس نكبة مجتمع بأكمله.
[يعاد نشره بالاتفاق مع "مدى الكرمل"]
هوامش:
Slyomovics, Susan. 2009. “Edward Said’s Nazareth”. Framework 50 (1,2) an.-1 Humphries, Isabelle. 2005. “A Muted Sort of Grief: Tales of Refugee in Nazareth, 1948-2005”. In: Masalha, Nur (ed.) Catastrophe Remembered: Palestine, Israel and the Internal Refugees. London and New York: Zed Books
2- حبيبي، 1992. مُقتبس لدى
King-Irani, Laurie. 2007. “A Nixed, not Mixed, City: Mapping Obstacles to Democracy in the Nazareth/Nazareth Illit Conurbation”. In: Monterescu, Daniel and Dan Rabinowitz (eds.) Mixed Towns, Trapped Communities. USA: Ashgate Publishing Company. King-Irani, 2007 p:185
3- زريق، 1999. مُقتبس لدى المصدر السابق صفحة 185.
4- سروجي، سليم . 2006. مُقتبس لدى: Slyomovics, Susan (مصدر سابق)
5- حسن، منار .2008 . المنسيات، المدينة والنساء الفلسطينيات، والحرب على الذاكرة. أطروحة للحصول على لقب
الدكتوراة، قسم علم الاجتماع، جامعة تل-أبيب (بالعبرية).
6- (1868) خُطَّت بيد طيطوس توبلر الألمانيّ، وَ (1914) خُطَّت بيد القسّ أسعد منصور.
Abu-Lughod, Janet. 1987. “The Islamic City Historic Myth, Islamic Essence, and- 7 Contemporary Relevance”. International Journal of Middle East Studies 19(2) pp: 155-176..
Sayigh, Rosemary. 1979. Palestinians: From Peasants to Revolutionaries. London:- 8 Zed Books.
Morris, Benny .1987. The Birth of the Palestinian Refugee Problem, 1947-1949. - 9 ambridge university press. Cambridge.
10-. Sayigh, Rosemary (مصدر سابق).
11- حسن منار (مصدر سابق).
12 - المصطلح "مدن مختلطة" هو مصطلح خاصّ بإسرائيل؛ فالمدن عامّة بطبيعتها مختلطة (King-Irani 2007). ويُستعمل هذا المصطلح في إسرائيل للدلالة على المدن الفلسطينيّة المسلوبة (حيفا؛ عكّا؛ يافا؛ الرملة؛ اللدّ)، حيث أمتلأت هذه المدن بالمهاجرين اليهود إلى جانب قلّة ليست بقليلة من الفلسطينيّين، بعضهم من سكّان المدينة قبل نكبتها، وبعضهم مهجَّرون أعيد توطينهم في الأحياء المهجَّرة فيها (في المدينة).
13- Humphries, Isabelle (مصدر سابق)