الحيرة
قبل أن أفتحَ غلاف هدية عيد ميلادي، سمعتُ رنينَ الهاتف داخل العلبة. لقد كان هاتفاً محمولاً. بسرعة أخذتُ الهاتف وسارعت بالرد وإذ بي أسمع قهقهة زوجتي من هاتف غرفة النوم.
في تلك الليلة أرادت أن نتحدث عن حياتنا: السنوات التي قضيناها سويةً وأشياء من هذا القبيل. غير أنها أصرت على أن يكون ذلك عبر الهاتف، بحيث أنها ذهبت إلى غرفة النوم وعاودت مكالمتي منها في حين كنت أنا في غرفة الجلوس وقد علقت الهاتف على خصري. عندما انتهينا من الحديث بالهاتف، ذهبتُ إلى غرفة النوم ورأيتها جالسة على السرير غارقة في التفكير. قالت لي إنها أنهت حديثها للتو مع زوجها وإنها مترددة في الرجوع إليه وإن حالتنا أشعرتها بالذنب. أنا زوجها الوحيد، لذلك سارعت إلى تفسير ما قالته على أنه إثارة جنسية وهكذا مارسنا الحب في ذلك اليوم بفجورٍ وعهرٍ. في اليوم التالي، وبينما كنت في مكتبي أتناول شطيرتي، رنَّ هاتفي. كانت هي دون شك. قالت لي إنها تفضّل أن تعترف لي أن لديها حبيباً. قررت أن أجاريها بما راحت تقوله، فقد بدت لي اللعبة مسلية لنا نحن الاثنين، بحيث إنني أجبتها ألا تقلق وأننا كما اجتزنا أزماتٍ سابقة سنتجاوز هذه الأزمة. في المساء عدنا من جديد للحديث عبر الهاتف، على غرار اليوم كله، وقالت لي إنها ستقابل حبيبها بعد لحظاتٍ. أثارني الأمر كثيراً، فأغلقت الهاتف على الفور وذهبت إلى غرفة النوم، وهكذا مارسنا الحبَّ حتى الصباح. مرّ الأسبوع كله على هذا الشكل، ولكن يوم السبت، عندما التقينا في غرفة النوم، بعد مكالمتنا الهاتفية الاعتيادية، قالت لي إنها تحبّني ولكنها مضطرة لتركي لأن زوجها يحتاجها أكثر مني. قالت هذا وأغلقت الباب وراءها وذهبت، ومنذ ذلك الحين لم يعد الهاتف يرن مجدداً. أنا محتار جداً.
إنذارات
في ذلك اليوم صوتٌ متلهف لأحدٍ ما ترك على المجيب الآلي لهاتف المنزل الرسالة التالية: "أمي، أنا كرستينا، كنت أتساءل إن كان باستطاعتي تناول العشاء معك هذا المساء في بيتك، اتصلت بكِ لأقول لك هذا فقط، لأعرف إن كان باستطاعتي تناول العشاء معك. أخبريني، من فضلك، ولا تنسي ذلك، فسأبقى هنا طيلة المساء، أنا كرستينا".
مما لا شك فيه أنني لست أم كرستينا، لذلك لم تتمكن المسكينة من تناول العشاء ذلك المساء، وكذلك أنا، لم أكن قادراً على قلي بيضتين بعد أن سمعت دراما تلك الفتاة المسكينة. إن بعض الأصوات المجهولة هي بمثابة مكروبات تؤثر على يومك، ولا يوجد دواء يصدها.
في اليوم التالي لرسالة كرستينا الصوتية، عدت إلى المنزل ضغطت على المجيب الآلي للهاتف، وإذ بأحد يقول: "بيدرو، في نهاية الأمر أظهرت النتائج أنَّ الورم خبيثٌ، وعلاوة على ذلك ماريسول كسر ذراعه. حتى الآن لم نقل شيئاً لأمي لأنها لن تقدر على تحمّل الأمر بسبب مشاكل التنفس التي تعانيها. أما ناتشو فقد رسب في الثانوية وسيعيدها". مما لا شك فيه أنني لست بيدرو ولا أعرف لويس ولا حتى ماريسول وآخر همي إن كان ناتشو سيعيد الثانوية، غير أن ذلك الكم الهائل من الأخبار السيئة والبعيدة عني سوّد عليّ عيشتي. فعندما تسمع على مدى يومين متتاليين رسائل من هذا العيار، يبدو لك هذا الجهاز الهاتفي الذي يحتوي على شريط التسجيل بيئة مثالية لتكاثر المكروبات المؤذية للحالة الوجدانية، لذلك قررت تطهير الشريط بمسح الرسائل جميعها. ولكن بعد العودة من العمل في اليوم التالي سمعت الرسالة التالية: "ميغيل، هذه هي المرة الأخيرة التي تواعدني فيها ولا تأتي لأنني سأنتحر هذا المساء". لست ميغيل، ولكنني بقيت ثلاثة أيام أشعر بعذابٍ داخلي وأنا أبحث في صفحة الحوادث عن موتٍ مريع. لا يمكنني العيش بهذا الشكل.
هكذا قررت هذا اليوم أن أدافع عن نفسي، فرحت أجرب حظي بالأرقام حتى أصبت ورد عليّ المجيب الآلي فقمت بتسجيل الرسالة التالية:" مارتا، تعالي فوراً لأن مانوليتو سقط في فسحة الدرج وريكاردو بلع شفرة الحلاقة، ولكنني لا أستطيع أن أغادر المنزل وأترك الصغير. هيا تعالي بسرعة". في الحقيقة شعرت بالراحة، حتى أنني لم أشعر بتأنيب الضمير. قررت أن أرفع من حدة الحرب إذا ما طالت، وقد أُعذر من أنذر.
قلق
عادة ما يوجد ضوءٌ كهربائيٌّ، ليس في غرف الفنادق كلها، ولكن حقاً في غرف كثيرة، لا يمكن العثور على مفتاح إنارته وإطفائه لحظة الخلود إلى الفراش. من أشعل الضوء؟ ومتى؟ ومن أين؟ هي أسئلة غامضة لا يمكن الإجابة عنها.
وهكذا بعد أن يلبسك الإحباط، مستنفداً جميع المفاتيح المرئية الموجودة في الغرفة في محاولة لإطفاء ذلك الضوء، تجلس على حافة السرير وتترد في الاتصال مع الاستقبال. ولكن في نهاية الأمر يمنعك الخجل من أن تبدو غبياً، وكذلك الخوف من أن يتأخر موظف الصيانة من الصعود إلى الغرفة، فأنت بحاجة إلى الراحة بعد سفر شاق، أو يوم عمل متعب. بعد هذا كله تقول لنفسك، لا تجعل الأمر يستحوذ عليك، بالكاد يضيء قليلاً، هيا ضع نفسك في السرير وتخيّل أنك تحلق.
وأخيراً تضع نفسك في الفراش وتدير ظهرك له. ولكن ما إن تغمض عينيك حتى تسارع إلى ذهنك أفكارٌ عن أماكن مخفية يمكن أن يوجد فيها مفتاح الضوء لم تخطر على بالك في عملية البحث الأولى. تنهض وتبدأ عملية الاستكشاف في جميع أركان الغرفة لكن دون جدوى، حتى إنك تبحث في أماكن لا يمكن الوصول إليها. فجأة، تفكر أن ذلك الضوء يُنار ويُطفئ من غرفة أخرى، راح نزيلها، منذ وهلة، يفكر وهو في سريره ما فائدة ذلك المفتاح الموجود هناك والذي لا ينير أي ضوء في غرفته؟!. وهكذا وأنت غارق في هذه الأفكار يُنار الضوء فجأة وحده. ثم تقول لنفسك لعل ذلك المسافر قد نهض من سريره، تماماً مثلك، وضغط مفتاح الضوء ليرى إن كان سينير شيئاً في الغرفة هذه المرة. لا بل إنه راح يدير المفتاح ويقفله أكثر من مرة دون أمل ذلك أن الضوء في غرفتي راح يضيء وينطفئ كما لو أنه يرسل رسالة مورس. لعله يحاول أن يتواصل معك، تفكر. ولكنك لا تفهم بإشارات المورس. غير أن َّهذا هو ما يحدث معنا كلنا: نكون في غرف مختلفة ولكننا لا أحد منا يفهم لغة المورس.
لا أعرف ما هو
في أحد ممرات السوبر ماركت صادفت أمامي شخصاً أعرفه ولكن لم تكن لديّ الرغبة بالحديث معه. على ما يبدو هو كذلك لم تكن لديه رغبة بالحديث معي، لذلك، وبشكلٍ تلقائيٍّ، راح كلانا ينظر إلى شاشة هاتفه الجوال، كما لو أنه يرن، داعين ألا نتقاطع ونتقابل. هل شعر بي كما شعرت أنا به؟ كانت سلتي ممتلئة، لذلك ولكي أتجنب لقاءً آخر معه في ممرٍ ما، اتجهت مسرعاً إلى صندوق المحاسبة، دفعت ما عليّ وخرجت.
في كراج السيارات الخاص بالسوبر ماركت، ما إن فتحت باب السيارة حتى وصلتني رسالة على هاتفي. لقد كانت من الشخص نفسه الذي تجنبت لقاءه في السوبر ماركت. قال لي في الرسالة لقد صادف في السوبر ماركت شخصاً يكاد يكون أنا، وإن ذلك جعله يشتاق لي وحفزه على رؤيتي. لتنتهي الرسالة أخيراً: لنذهب لتناول الطعام في يوم من الأيام؟. تأملت الرسالة قليلاً، ورحت أفكر أنني إذا أجبته أن الشيء نفسه حدث معي أكون قد وضعت، كما فعل هو لا شك في ذلك، الأمور في مكانها الصحيح: نحن الاثنين تصنّعنا أنه لم ير أحدنا الآخر، ها ها ها. ولكن لم تكن لدي الرغبة في الدخول في هذه اللعبة التي شعرت أنها غير لبقة. لذلك قررت أن أؤخر ردي قليلاً، أدرت السيارة وعدت إلى المنزل.
في اليوم التالي، كنت إلى حينها لم أجب على رسالته بعد، عرفت من صديق قديم أن الرجل الذي التقيته في السوبر ماركت مات بأزمة قلبية حادة بالضبط بعد خروجه البارحة من السوبر ماركت. وهكذا ذهبتُ إلى مكان الدفن، واقتربت لألقي نظرة أخيرة على الجثة فلاحظت أن حاجبه الأيمن مرتفعٌ قليلاً وأن عينه مفتوحة بعض الشي. لقد كانت هذه العين تحدق فيَّ. وهكذا بعد تقديم التعازي، قال لي أحد أولاده إنه ألقى نظرة على هاتف أبيه ووجد أن رسالة أبيه بقيت دون جواب. لقد كنت سأجيب على رسالته اليوم تحديداً، تعذرت قائلاً هذا. وهكذا خرجت إلى الشارع مندهشاً. لقد حدث أمرٌ ما ولكن لا أعرف ما هو.
من أين؟
اعترف أحد طلاب ورشة الكتابة الإبداعية، بعد أن حكمنا بقسوة شديدة على عمله، أن رأينا لا يهمه على الإطلاق لأنه في ذلك اليوم هو لم يكن هو، وإنما أخوه التوأم. قلت له أن يحذر كثيراً لأنني أيام الأربعاء عادة ما أكون أنا أخي التوأم كذلك. كان الطلاب الآخرون يستمعون إلى المشادة الكلامية باهتمام. وهكذا بعد لحظات من الدهشة والاستغراب، تدخلت روسا؛ راهبة سابقة قضت معنا ما يقارب العامين، وقالت من الواضح إنه بطريقة أو بأخرى، كل واحدٍ منكما، علاوة عن كونه هو نفسه، هو أخوه التوأم. وبما أن هذا التوأم هي امرأة جميلة وغاوية، فهي تؤثر بصوتها على من يسمعها، فالصف برمته وقع تحت تأثيرها ونحن الآن جميعنا نسخة طبق الأصل عن مجموعة طلاب حضروا في الساعة واليوم نفسهما إلى صفٍ مشابه تماماً لهذا من أجل ورشة الكتابة الإبداعية.
ما قالته روسا أسس لنقاشٍ تجلى في الصف في محورين: أولئك الذين يدافعون عن فكرة الكتابة من الأنا؛ وفي المحور الثاني أولئك الذين يدافعون عن فكرة الكتابة من الآخر. لمن من هذين التوأمين اللذين يشكلانا علينا أن نسلم ريشتنا؟
إن هذا يتوقف على النص الذي نكتبه، أجاب الأصغر في الصف، وأضاف، إنه إذا كان الأمر يتعلق بكتابة السيرة الذاتية أو بكتابة طلبٍ ما، فيجب علينا أن نكتب من الأنا، أما إذا كانت قصة حب فمن الأفضل الكتابة من الآخر. ما إن سمعت الراهبة السابقة ذلك، حتى تدخلت بشدة وقالت: هذه هي مشكلة الصف فكلنا نكتب من الأنا. حتى أنها لامتني لأنني لم ألفت الانتباه إلى هذا من قبل. وهكذا ولكي نتتهي من الموضوع سألتُ، أخيراً، الطالب نفسه الذي أكد أنه كان التوأم، إن كان هذا التمرين الذي انتهينا منه للتو قد مارسه من أناه أم من الآخر. بقي وهلة صامتاً وأجابني بعد تفكير أنه عليه أن يسأل أخاه عن الأمر. وأنا كذلك، فكرت بيني وبين نفسي.
[ترجمها عن الأسبانية: جعفر العلوني]
*خوان خوسيه مياس Juan José Millás (مدريد 1952)، كاتب وصحفي إسباني. نشر روايته الأولى وعمره 22 عاماً. ترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة. من أعماله: "هكذا كانت الوحدة”، و"الحديقة الفارغة". نال العديد من الجوائز الأدبية والصحفية أهمها الجائزة الوطنية للرواية. حالياً يكتب في صحيفة "El país" حيث له عمود أسبوعي.