أزيد من ثمانية أشهر والشارع المغربي لم يهدأ منذ أن بدأت الاحتجاجات الحاشدة في الريف المغربي كحركة اجتماعية محلية. لتتحول إلى صرخة وطنية جماعية ومحاكمة شاملة لسياسات الدولة تعري عيوبها وهشاشتها فيما يظهر على أنه أكبر تحد يواجه الحكم في المغرب منذ وصول الملك محمد السادس إلى العرش سنة 1999. وذلك بعد أن فشلت مخرجات تركيبة ما عرف ب "العهد الجديد" في إيجاد حل للأزمة. وظهر أن الوساطة بين رأس السلطة والمتظاهرين لم تعد ممكنة لأن المؤسسات منزوعة المصداقية وتفتقد ثقة الشارع.
وأتى الخطاب الملكي الذي ألقي نهاية الشهر الماضي بمناسبة حلول الذكرى 18 مخيبا للآمال. إذ اكتفى الملك بإلقاء المسؤولية على المسؤولين السياسيين والأحزاب فيما آلت إليه الأوضاع في الريف وحاول تجنيب القصر المسؤولية. وأضفى الشرعية على المنظومة الأمنية التي تدير ملف الاحتجاجات في الريف حين أشاد بعملها واحترامها للقانون نافيا وجود أية مقاربة أمنية في التعامل مع احتجاجات الحسيمة. ولم يطرح خطاب رئيس الدولة أية حلول لتجاوز الأزمة فيما يبدو وكأنه حالة إنكار لحجم المأزق.
في هذا الامتعاض الملكي في حد ذاته إدانة ضمنية لديمقراطية الواجهة التي شكلت عصب ما عرف بالعهد الجديد. وإعلان عن مأزق الملكية التنفيذية التي تبقي سلطات محدودة لرئيس الحكومة فضلا عن هيمنة القصر على عدد من الوزارات الهامة التي تدبر الملفات الاستراتيجية التي لا يعلم بتفاصيلها حتى رئيس الحكومة. كما هو حال مشروع منارة المتوسط في الحسيمة الذي أكد رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران لعدد من مقربيه علمه به على التلفاز فقط وعدم إخباره من طرف وزراء حكومته الذين شاركوا في حفل توقيع المشروع.
محاولة احتواء فقمع
حرص القصر في بداية الأزمة على محاولة احتواء موجات الغضب على إثر واقعة مقتل تاجر السمك محسن فكري وضمان عدم تحول هذه اللحظة العاطفية القاسية إلى لحظة استحضار الأوجاع القديمة للتاريخ المؤلم للعلاقة بين الإنسان في الريف والدولة المركزية. وهكذا بعث الملك حينذاك وزيريه في الداخلية على عجل لتعزية عائلة محسن فكري ومحاولة طمأنة الجميع إلى أن الملك قد أمر بمحاسبة المتورطين و تعهد بالحرص على عدم تكرار هذه الحوادث. غير أن هذه التطمينات وصدور أحكام مخففة في حق عدد من المسؤولين لم تكن كافية لنزع فتيل الغضب. كان الاحتجاج قد تحول فعلا إلى ما يشبه حالة ثقافية واجتماعية إن لم نقل اعتقادية في المجتمع الريفي. وقد صنع الشارع بشكل تدريجي مع مرور الأيام قيادة لها شرعية وشعبية جارفة استطاعت أن تطور ملفا مطلبيا شاملا يطالب بمصالحة حقيقية مع الريف والاعتذار عن ما مضى وبمشاريع تنموية حقيقية ويتجاوز اعتبار حادث مقتل محسن فكري عرضيا.
غير أن الدولة تجاهلت هذه المطالب ورفضت الحوار بشكل مباشر مع قيادة الاحتجاجات مراهنة على الوقت لكي ينفض الحراك من تلقاء نفسه بعد شهر أو شهرين. لكن العكس هو ما حصل، حيث تقوت الحركة الاحتجاجية أكثر فأكثر وبدأت تطور خطابا بمضمون سياسي مليء بالتحدي يسائل رئيس الدولة بشكل مباشر ويطلب حوارا معه من دون وسائط على قاعدة المطالب المرسومة. هذه الاحتجاجات التي كانت تتركز تحديدا في الحسيمة بدأت تتمدد إلى بقية مناطق الريف التي تأسست فيها تنسيقيات احتجاجية لديها مطالب جد محلية بالإضافة إلى المطالب العامة، و انتقال الاحتجاج إلى الهوامش يعني صعوبة احتوائه أكثر.
خلال الأشهر التي تلت مقتل محسن فكري كان القصر يدبر ما عرف إعلاميا بـ "البلوكاج الحكومي" وكان منهمكا في عملية تحجيم وجود حزب العدالة والتنمية الإسلامي في التركيبة الحكومية الجديدة وإقصاء زعيمه الجدلي عبد الإله بنكيران من المشهد السياسي. ويبدو أن رهانه في هذه الفترة على انقسام الحراك أو الخلافات بين قياداته واختراقه بالاستراتيجيات المعهودة لم يفض إلى أية نتيجة لأن حراك الريف ليس كلاسيكيا ويتميز عن بقية الحركات الاجتماعية التي عرفها المغرب في السنوات. فهو خارج عن نسق "الاستباليشمونت النضالي التقليدي"، واستطاع خلق إجماع ليس له مثيل قاطعا مع الأشكال النخبوية للاحتجاجات السابقة.
كما أن وسائل الإعلام الخاصة المقربة من السلطة التي قامت بالتشهير بقادة الحراك تفتقد إلى المصداقية ولها باع طويل في التعريض بالمعارضين وتوجيه الاتهامات لهم دون أي أساس. مما جعل الحملة الإعلامية التي تشن على رموز الحراك الاحتجاجي تفشل وتبدو عاجزة عن الإقناع حتى بالنسبة للمتوجسين من الطابع الهوياتي للحراك الريفي.
ومع الفشل في القضاء على جذوة الاحتجاج بدأت مؤشرات التصعيد الأمني تلوح في الأفق عبر تصريحات متواترة من مسؤولين تابعين لوزارة الداخلية في الحسيمة لوسائل الإعلام. إلى أن قدم وزير الداخلية لفتيت تقريرا لزعماء أحزاب الأغلبية الحكومية يتهم المتظاهرين بخدمة أجندات انفصالية و تلقي أموال من الخارج لزعزعة استقرار البلاد فيما بدا وكأنه محاولة لإيجاد غطاء سياسي لعملية أمنية مرتقبة وكان معدا لها قبل مدة.
كان للمقاربة الأمنية التي اعتمدتها الدولة في تدبير ملف الاحتجاجات الاجتماعي في الريف نتيجة عكسية. فهي من جهة لم تنجح في كبح جماح التظاهرات في مدينة الحسيمة و المدن المجاورة لها كما كان التقدير الأمني يتوقع. بل ارتفع منسوب التظاهرات إلى احتجاجات يومية خلال شهر رمضان الماضي رغم الطوق الأمني الذي ضرب على المدينة وحالة حظر التجول العملي التي تعيشها، وبدا أن المحتجين أصبحوا أكثر إصرارا على الاستمرار على نهج ملهمهم ناصر الزفزافي إلى حين إطلاق سراح جميع المعتقلين وتحقيق ملفهم المطلبي. وأفرز الحراك وجوها جديدة لقيادة الاحتجاج وطور المحتجون أشكال احتجاج جديدة ( القرع على الأواني من أسطح المنازل، التظاهر في الشواطىء).
استراتيجيات متوازية
لتجنب تقديم تنازلات كبيرة يظهر أن النظام يعتمد على استراتيجية "البحث عن الحل من داخل التصعيد"، ويدبر هذه الأزمة باستراتيجيتين متوازيتين ومتزامنتين تتراوحان بين التصعيد الأمني على الأرض من خلال تعنيف التظاهرات وسجن المحتجين طمعا في إيقاف الاحتجاجات، بالموازاة مع بعث بوادر التهدئة عبر الإعلان عن التسريع بإنجاز المشاريع التنموية. وظهر أن سقف تنازلات النظام لن يتجاوز التحقيق في أسباب تأخر إنجاز المشاريع التنموية في الحسيمة وإقالة بعض المسؤولين الحكوميين أو الإداريين بحسب ما يمكن أن نفهم من آخر اجتماع للملك مع الوزراء قبل العيد، وهو سقف جد منخفض ولا يلبي مطالب الحراك الاحتجاجي الذي بدأ قبل ثمانية أشهر، يبدو إذن أن النظام يلعب حتى الآن الورقتين معا مع تأجيل الحسم في إحداهما خصوصا أن المناخ الدولي ليس ضاغطا كما كان الحال سنة 2011.
أمام فشل المقاربة الأمنية في القضاء على التظاهرات بدأت تظهر بعض المبادرات الفردية والجماعية –من بينها مبادرات مقربة من السلطة- التي تدعو إلى الحوار بين الدولة والمحتجين ( مبادرة إلياس العماري مثلا). فيما كان يبدو وكأنه عملية تمهيد لحل قريب في الأفق، بالتزامن مع تصريحات حكومية متتابعة تؤكد تسريع وتيرة إنجاز المشاريع التنموية المتأخرة في الريف، وتشدد على كون المتابعات تتم وفق القانون مع وجود ضمانات ملكية بالتحقيق في مزاعم التعذيب. وزاد استدعاء عدد من عائلات المعتقلين في الحسيمة ومطالبتهم بتوقيع طلبات للعفو الملكي بالإضافة إلى تمكين المعتقل المرتضى اعمراشا من السراح المؤقت بعد وفاة والده وإعلان عامل الحسيمة الجديد عن وجود تعليمات ملكية بتخفيف التواجد الأمني من الاعتقاد بترجيح احتمال رغبة الدولة في إنهاء الأزمة.
لكن هذه الإشارات الإيجابية لم تكن إلا ذرا للرماد في العيون، إذ ظل الواقع على الأرض مناقضا لمؤشرات التهدئة التي كان يلقى بها بين الفينة والأخرى. حيث استمرت الاعتقالات و قمع التظاهرات بشكل عنيف. فبعد يوم واحد فقط بعد أن أعلن الديوان الملكي أن الملك قام بالتعبير عن غضبه من تأخر إنجاز المشاريع الكبرى التي التزمت بها الدولة في الريف وإعلان تشكيل لجان تحقيق في أسباب تعثر هذه المشاريع كان تعامل القوات الأمنية مع تظاهرات يوم العيد في الحسيمة عنيفا بشكل غير مسبوق. وأظهرت لقطات الفيديو التي تداولها ناشطون عمليات ضرب وتنكيل قامت بها القوات العمومية في حق المتظاهرين بالإضافة إلى حملة اعتقالات واسعة. كما أن حركة تنقيلات الولاة الأخيرة لم تحمل تغيير الوالي محمد اليعقوبي الذي يعتبر مطلب إعفائه على رأس المطالب، وهو ما يمكن تفسيره برضا النظام عن تدبيره للملف منذ حادثة مقتل محسن فكري.
تكشف هذه الإشارات المتناقضة التي يبعثها النظام في تدبيره للأزمة في الريف( والتي كان آخرها المنع العنيف الذي تعرضت له الاحتجاجات في الحسيمة يوم 20 يوليوز) انعدام جواب جاهز في الوقت الراهن على الأزمة ومحاولة لكسب الوقت في انتظار تبلور حل بأقل الأضرار مع الرهان على إنهاك المتظاهرين واستنزاف طاقة قادة الحركة الاحتجاجية المسجونين وإجبارهم على تقديم تنازلات. فالدولة تدرك خطورة الأزمة وكلفة استمرارها وتمددها زمنيا لكنها تخشى في نفس الوقت تقديم تنازلات مؤلمة قد تفتح الباب أمام تصاعد المزيد من المطالب مستقبلا في بقية أنحاء البلاد خصوصا أن الحركة التي بدأت محلية تحولت لتصبح وطنية وبمضمون سياسي يستعيد نفس متن شعارات احتجاجات 2011 وهو ما يعلن نهاية صلاحية العرض السياسي الذي قدمه النظام في ذلك الوقت. علاوة على أن عقيدة النظام لا تؤمن بالتجاوب مع جماعات غير ممأسسة وسيكون بمثابة الهزيمة بالنسبة إليها قبول التفاوض المباشر على مطالب حركة احتجاجية تستمد شرعيتها بشكل مباشر من الشعب.
كما كشف حراك الريف تضاربا في التقديرات بين أجنحة النظام حول كيفية التعامل مع الأزمة الأكبر في البلاد منذ عقود لكن هذه التناقضات ثانوية ومتحكم فيها وتعكس في الغالب طموحات شخصية لرجالات النظام وتنافسا حول الحظوة بثقة الملك. حيث يظهر وكأن صراعات مواقع في مربع السلطة يجري حسمها بين عدد من شخصيات النظام المحيطة بالقصر و يبدو وكأن الجناح الأمني (الاستخبارات الداخلية، الأمن الوطني) ينحو أكثر نحو التصعيد وهو متمسك بخيار الحسم الأمني باستنزاف المحتجين من خلال استمرار تشديد القيد الأمني على المدينة و الاستمرار في الاعتقالات و المتابعات. ذلك أن حسم الأزمة أمنيا وإنهاء الاحتجاجات سيقوي من موقع المؤسسة الأمنية في هرم السلطة و يعزز ثقة القصر بقيادتها، وهو ما تعكسه ردة فعل إدارة الأمن الوطني المنفعلة بعد تسريب تقرير خبرة طبية للمجلس الوطني لحقوق الإنسان –وهو مؤسسة رسمية يديرها ادريس اليزمي وهو مقرب من القصر- يقر فيها بتعرض المعتقلين للتعذيب الجسدي والنفسي، والتدخل الأمني العنيف في وقفة تضامنية نظمت بالرباط مؤخرا أصيب خلالها عدد من الصحفيين والحقوقيين، بالإضافة إلى تسريب فيديو يظهر ناصر الزفزافي قائد الحراك في وضعية مهينة من طرف إخدى المواقع المعروفة بارتباطها بالأجهزة الأمنية.
و حاول رئيس الدولة تفنيد وجود مثل هذه الصراعات في محيطه حينما نفى بشكل صريح وجود جناحين متشدد ومعتدل داخل النظام لهما رؤيتان متضاربتان لكيفية تدبير الأزمة في الريف. أو من خلال الاجتماع الذي ترأسه وزير الداخلية وحضره جميع المسؤولين الأمنيين والعسكريين والاستخباراتيين البارزين في محاولة لإثبات وحدة أجنحة النظام في مواجهة هذه الأزمة.
وعلى خلاف ما كان منتظرا لم يشمل العفو على معتقلي حراك الريف إلا حوالي 40 معتقلا استثنى قادة الاحتجاجات الذين رفضوا توقيع طلبات استعطاف إلى الملك للاستفادة من العفو، بالموازاة مع ذلك حسم الملك الموقف بشكل واضح لصالح سيطرة الذراع الأمني على إدارة الأزمة داخل النظام وفي تكليف وزارة الداخلية والأمنيين بتنزيل مضامين توجيهات الخطاب الملكي دليل على رهان الملكية شبه المطلق على الأمنيين لتجاوز التوترات الاجتماعية الحاصلة في الريف أو تلك التي قد تحصل مستقبلا في مناطق أخرى من المغرب.