تستدعي المخيلة الكردية التاريخية مشروع اقامة "الدولة" كواحدة من مبتكرات إعادة تشكيل "الهوية القومية" وصياغة الانتماء الجغرافي و"المستقبل الواعد" لمجموعة عرقية كبيرة مسلوبة التحكم بمصيرها ومتمددة على مساحة شاسعة بأربعة بلدان على الأقل (العراق، تركيا، إيران، سوريا، مع أقلية صغيرة في أرمينيا وجورجيا)، وتتنافس على النفوذ في منطقة ملغومة بالثروات والازمات. وإزاء هذه المخيلة الثورية، كانت الفاعليات الكردية تعتمد صيغاً لتحقيق الحلم النادر. ولكن، وفي كل مرة، كان مأزق التاريخ يصطدم بشراسة الواقع وحتمية الفشل بسبب التعقيد الجيوسياسي للمنطقة المحصورة بين امبراطوريات قديمة نشأت على أطلالها جمهوريات جديدة أكثر عنفاً في قمع الكرد وتبديد أحلامهم.
القصة..
ليست هذه المرة الوحيدة التي يختبر فيها الكرد تطلعهم إلى إقامة "دولة قومية" في شمال العراق، لكنها المرة الاولى التي سيذهبون فيها - إن عُقِد الاستفتاء بموعده المحدد – إلى المشاركة في حسم الموقف من الاستقلال المستحيل في المستقبل المنظور. فحين اصرّ البريطانيون على تأسيس الملَكية في العراق (1921) رفض الكُرد المشاركة بالتصويت في استفتاء ضمِ المنطقة الكردية الى المملكة العراقية. وعلى الرغم من هذا الرفض، أخضع البريطانيون بصفقة معقدة المنطقة الكردية
للعرش العراقي الذي نُصّب عليه أمير حجازي من الجزيرة العربية، في الوقت الذي كانت البصرة (جنوب العراق) تعارض ذلك التنصيب وتطالب بـ"دولة خليجية" مستقلة. قُمِعَ الرفض والمطالبتين الكردية والبصْرية عسكرياً، ونُفي المطالبون الى جزر المستعمرات والهند. لكن المتحقّق كردياً بات يُلقي بالظل الثقيل على المملكة المهزوزة، بعد ان أعلن الشيخ محمود الحفيد نفسه ملكاً لكردستان بموازاة فيصل في العام 1924، وكانت تلك هي المرة الاخيرة لقيام شبه دول كردية شمال العراق.. ثم حدث إبان الحكم الجمهوري غير المستقر اعلان المُلا مصطفى "الثورة الكردية" دون اعلان "دولة".
ومن الجغرافيا التي رسمها الشيخ الحفيد لمملكته المنهارة، تأسس المشروع الكردي بصيغته البارزانية، بالسيطرة على "الاراضي المقدسة للدولة الكردية". فالحفيد رسم جغرافيا مقاربة للتي يُصر الكُرد اليوم على انها مناطق استحقاق، من دهوك الى خانقين، وتقف عند حدود كركوك خشية البطش التركي، بمعنى شمول الحوض الاعلى للشمال العراقي بمجمله بالسيطرة الكردية. وبعد ذلك ونتيجة التبدلات الديموغرافية وسياسات التهجير والإلحاق الاداري، تمددت منطقة المطالبة الكردية بالأرض وباتت تشمل أراضٍ لم تكن ضمن التصور السياسي للدولة المفترضَة، لتضم كركوك بوصفها "قدس الاقداس" وفقاً لتعبير المُلا مصطفى بارزاني. ولعل هذا التمدد كان نتيجة لاكتشاف منابع الثروة، والرغبة بحيازة مساحات تشكل حدوداً لخطوطِ صدٍ لمعارك ترسيم وتسوية المناطق المتنازع عليها مستقبلاً.
الثابت في القضية الكردية عراقياً الإلحاح على الاستقلال، فيما تخضع في المناطق المجاورة لتعقيدات أكثر ولاشتراطات المؤثرات الثقافية والهوية الاجتماعية والقراءة السياسية. فنظراً لضعف الدولة العراقية وعدم استقرار مؤسسة الحكم ــ على الرغم من رعونة القوة ــ كان الكرد العراقيون هم الأقدر على ممارسة ضغوط عسكرية وسياسية وبناء تحالفات بينية معقدة مع الجوار ذاته، ذاك الذي يقمع الكرد بقوة وشراسة.
لكن الآن، ما الذي يُمكن أن يحصل، بموازاة عناد التاريخ واستحالة الواقع؟ كيف قرأ الكرد خطوتهم الحالية المُفزِعة لكل المنطقة؟ وكيف لهم أن يسيروا بخطى سريعة الى الانتحار باعلان دولة مكروهة ومحاطة بأعداء حقيقيين دون منافذ تهوية اقتصادية أو حليف محاذي بامكانه كسر الحدود لإنقاذ رئتهم المعطلة؟
رسملة الاستفتاء
في كانون الثاني / يناير2005، وخلال الانتخابات النيابية المزدوجة، وُضعت في المناطق الكردية صناديق الى جوار الصندوق الانتخابي الرسمي، لقياس مقبولية فكرة الاستفتاء على الاستقلال. لم تكن تلك الصناديق رسمية. ولم تعلن السلطات الكردية مسؤوليتها المباشرة، وانيطت المهمة بمنظمات تنشط في الدفاع عن حقوق الكرد تحت مسمى حركة الاستفتاء الكردستانية. والنتيجة "نعم" ساحقة غير معترف بها رسمياً، استخدمت فيما بعد كواحدة من أوراق الضغط التفاوضي على بغداد، ورسالة ناعمة لدول المنطقة، وحجر جديد يضاف الى أحجار المطالبة التاريخية.
بذاك الاستفتاء غير الرسمي، الذي بدا مُدبَراً وموجهاً عبر الادوات الحزبية، شارك نحو مليوني مُصوّت. لم يضع علامة رفض الاستفتاء سوى 20 الفاً فقط، بنسبة تصويت إيجابية بلغت 98.98 في المئة، مشابهة لنسب الاستفتاءات في الجمهوريات القمعية المعتادة.
وما يثير التساؤل هو عدد المصوّتين الهائل مقارنة بعدد نفوس المحافظات الكردية حينها! وبحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط عام 2005، فنسبة سكان المحافظات الكردية الثلاث (اربيل، دهوك، سليمانية) يبلغ 13.2 في المئة من عدد سكان العراق البالغ عددهم وقتها 27.962.968 نسمة، أي بما يعادل 2.118.406.67 نسمة.. وما يعني ان ادعاء تصويت مليوني ناخب كردي في الاستفتاء غير الرسمي ربما يكون غير دقيق. فالحركة ذاتها حين سلمت الامم المتحدة، قبل الاستفتاء في كانون الاول/ ديسمبر 2004 عريضة بتوقيع 1,7 مليون عراقي للمطالبة باستفتاء على استقلال كردستان عن العراق، لم تُشر وقتذاك لمناطق جمع تواقيع العريضة، ولا يمكن التحقق من صحة الرقم الذي اعلنته لعدد المصوّتين، كما لا يمكن تدقيق العريضة لمعرفة نسبة الكرد العراقيين، ومناطق توزعهم، وحجم الكرد غير العراقيين القاطنين في الاقليم الذين شاركوا سواء بالاستفتاء او بالتوقيع على العريضة.
والآن، وبحسب "هيئة احصاء إقليم كردستان"، بلغ عدد سكان الاقليم وفقا لنشرة ايلول/ سبتمبر 2017 نحو 5,765,043 مليون نسمة، ما عدا كركوك وبقية المناطق المتنازع عليها في كركوك وديالى والموصل، ما يعني ان هذا الرقم مرشح للزيادة بنسبة الثلث مع اضافة كرد كركوك والمناطق المتنازع عليها. أي أن المؤسسة الرسمية الكردية تمارس مناورة بزيادة نفوس محافظات الاقليم الاساسية لضمان التفاوض لزيادة حصة الموازنة، ولتعويض نفوس المناطق المتنازع عليها في حال عدم قدرتها على ضمها ادارياً بشكل رسمي. لكن، ومع احتساب معدل مؤشر النمو السكاني السنوي والذي تحدده هيئة الاحصاء بـ 2.5 في المئة سنوياً، تبدو تلك الزيادة غير دقيقة لعدد السكان خلال 12 عاماً (2005- 2017)، ومتناقضة بشكل صارخ مع مؤشر النمو الديموغرافي الذي اعدته الهيئة بالتعاون مع اجهزة الامم المتحدة المختصة ومع جهاز الاحصاء في بغداد وخبراء من الاردن وتركيا.. وكأن ثمة طفرات رقمية لا صلة لها بالواقع. وعليه لا يُمكن افتراض نزاهة نتيجة التصويت على الاستفتاء.
وعلى مقلب مؤشر آخر، يقع بقلب المجموعة الكردية التي يُفترض ان تصوّت على الاستفتاء نحو مليون و300 ألف موظف يعملون في دوائر الحكومة الكردية ويتسلمون مرتباتهم من بغداد وفقاً لمعطيات 2016. لكن رسمياً، ووفقاً لمسح هيئة احصاء كردستان في 2013 قبل اندلاع الازمة مع بغداد وايقاف المرتبات، فان حجم العمالة الحكومية بلغ 50,6 في المئة فيما كانت عمالة القطاع الخاص 48,6 في المئة، وكلا القطاعين يعتمدان بشكل مباشر وغير مباشر على الحصة الاتحادية الممنوحة للاقليم لدفع المعاشات الشهرية، وهي السيولة النقدية الأكبر التي تُضخ شهرياً في اسواقه وتقدر بـ 80 مليون دولار (اكثر من 800 مليار دينار). ما يعني ان القوة الحيوية الأكبر المدعوة للتصويت على الاستفتاء متأثرة اقتصادياً باجراءات بغداد العقابية نتيجة سياسات حكومة الاقليم التي تهيمن عليها عائلة بارزاني (مسعود بارزاني/ رئيس اقليم، ونيجيرفان ادريس بارزاني/ رئيس حكومة الاقليم)، والتي ستكون مصدر قلق كبير لبارزاني والقوى الحليفة له، لاسيما مع تجربة قطع المعاشات التي مارستها بغداد ابتداءً من العام 2014، ومع برنامج دفع متلكئ كواحدة من سياسات الضغط. وعملياً فإن الاقليم يعاني من ضائقة اقتصادية مريعة، اثّرت على مجمل النشاط في المحافظات التي ازدهرت بقوة بعد 2003، الى الحد الذي خفّض أسعار العقارات ودفع موظفي الحكومة الى البحث عن بدائل عمل لسد العجز المالي، فضلاً عن الديون الكبيرة لشركات الطاقة، ونفقات "الحرب على الارهاب"، وتأمين محافظات الاقليم مع شساعة المساحة التي تنتشر فيها البيشمركة في المناطق المتنازع عليها اضافة الى كركوك، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان نسبة القوى العاملة في الاقليم المنخرطة في البيشمركة والاجهزة الامنية (مهن القوات المسلحة) وهي حكومية بالغالب، تبلغ 16 في المئة من نفوس اليد العاملة... وبالطبع، لا بد من احتساب القيمة المضافة على الفاتورة المُنهكة المتمثلة بالفساد المالي لحيتان كردستان الحزبية والعائلية.
تيه الهوية
مؤشرات الانفصال تبدو معدومة. يمكن تشبيه ذلك بانعدام المؤشرات الحيوية في جثة هامدة. لا يُمكن لكرد العراق الانفصال حتى بموافقة بغداد وقناعة الجوار، لجهة عدم قدرة الدولة الكردية العراقية على تحمل ضغط الشعوب الكردية الممتدة على مساحة 400 ألف كلمتر مربع، في ثلاث دول مجاورة (ايران، تركيا، سوريا)، بحصيلة نفوس تفوق الـ 20 مليوناً. لا يمكن لدولة الكرد في شمال العراق احتمال ضغط متطلبات "العمومة" الكردية التائهة، ما يعني سقوط الدولة الكردية الفتية بمعاول الكرد أنفسهم. انها مشنقة ذاتية برسم الانقسام والتباين الكردي.
يعتقد الكرد بحقهم في اقامة دولة في الانحاء الاربعة، رغم التباينات الثقافية والهوياتية لتلك الانحاء التي لا يربطها سوى التحدر العرقي المِيدي بوصفه الجذر الاول للجماعة الكردية المتشعبة، فيما تشتغل ببطن المجموعة تفصيلات متعددة قد تكون عامل انقسام هائل حين التفكير بالوحدة. وعملياً، ما يوحد المجموعة الكردية اليوم في تلك الانحاء هو "المخيلة الثورية لقيام الدولة". لكن وبإزاء الانقسامات العنيفة في الهوية الثقافية، يسقط عامل الوحدة وينهار، ويجد الكرد انفسهم أمام اختبار تاريخي وجودي شرس، يهدد مستقبلهم ويحوّلهم الى مجموعة تائهة تتمسك بجغرافيا تبْسط دول قومية قامعة عليها سيادتها وتُقتّر عليهم فتات الحقوق السياسية والثقافية.
وقطعاً لا يُمْكن وضع كُرد الجهات الاربعة في معصرة التوحيد القسري على أساس نشوء دولة قومية ضامنة. فان تلك المعصرة ستفقد قدرتها على استيعاب ثقافات البيئة والهويات الضاغطة بتلك الدول التي عاش بظلها الكرد وباتوا جزءاً من نسيجها الهوياتي الجمعي المطبّع سياسياً واجتماعياً. ومحاولة اختلاق كيان كردي منسجم ستحطم كامل المنطقة على صخرة التباينات العميقة للمجموعة الكردية نفسها، غير الصامدة أمام عصمة التاريخ، وستهدد الاستقرار لجهة تقاطع الهويات الفرعية واللغوية.
العثرة التي لن يستطيع كرد العراق تجاوزها في مشروع اقامة "الدولة" المستحيلة، هي التشتت اللغوي علاوة على اشكالية الهوية الثقافية والتباين السياسي. فهذه "اللغة" تكاد تنشطر وتضيق وتنفتح وتلملم ذاتها في مصبات لفظية مختلفة، حتى بات الكُرد شعوباً "لغوية" رغم الدم القومي الذي يشحنهم بالعاطفة والانتماء. فالانقسام اللغوي شكّل ديموغرافيا ما يُعرف بـ"كردستان الكبرى" فاستحوذت اللهجات على الأرض والعرق، وباتت كردستان "كرمانجية شمالية" و"كرمانجية جنوبية" ويطلق عليها "السورانية"، وظلت كردستان العراق حبيسة هذه الاخيرة ومعها "البهدينانية"، فتغلبت الأولى وصارت اللغة الرسمية في دواوين الحكومة والكتابة والنشر وحتى الصحافة. فرئيس إقليم كردستان العراق (المنتهية ولايته) مسعود بارزاني الذي ينطق وقبيلته وأنصاره بـ"البهدينانية" وجّه باعتماد "السورانية" كلهجة رسمية تفادياً للاختلافات، وكخطوة تمهد لمشروع توحيد اللغة، العسير، بلهجة واحدة.
وفي الأصل، فإن اللغة الكُردية المتشعبة التي التقطت خلال عمرها المضطرب، وتبعاً للتحولات، آلاف المفردات العربية والفارسية والإنجليزية والتركية، تعدّ لغة "هندوأوربية"، وبها لهجتان أساسيتان هما "الكرمانجية" و"البهلوانية" اللتان تنقسمان إلى 18 لهجة محلية. ويؤكد أمين شحاتة (الذي يُعَد كتابه "الكُرد.. معلومات أساسية" مرجعاً مرموقاً لدى الكُرد وجميع المهتمين بقضيتهم)، فأن "كرد تركيا وسوريا وبعضاً منهم في إيران والعراق يتكلمون البهدينانية، في حين يتكلم معظم كرد العراق وإيران السورانية".
بينما ينشغل الرأي العام بالتصعيد السياسي الفارغ، يكمن البركان في القاع، وبينما يبحث السياسيون عن الحلول لافشال خطوة الانفصال، تبدو المعطيات الخانقة لكرد العراق جاهزة، بسبب طبيعة تعقيدات القضية الكردية داخلياً، وتصادمها الدائم في المصالح والشراكات. ويعي رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، أن إرث العائلة وقامة الملا مصطفى وتاريخ الدم الكردي، لن تصمد كلها أمام طوفان التفوق العددي لكرد إيران وتركيا، والذي سيعوِّم مفهوم "الدولة الكردية" ويجعله مجرد وعاء أجوف لتحقيق هدف حققه الكرد العراقيون قبل 40 عاماً، باتفاق الحكم الذاتي والاعتراف بالحقوق الثقافية، وقبل 25 عاماً بتوسعة تلك التجربة بالادارة الذاتية المباشرة بعد آذار/ مارس 1991.
الانفصال لن يتحقق. والاستفتاء إذا انعقد فسيتحول الى ورقة تفاوض ستحترق سريعاً مع متغيرات المنطقة المقبلة، ومع قناعة الكرد العراقيون بالبقاء ضمن العراق الموحد لصد الابتلاع الكردي المجاور لتجربتهم الفريدة في بلاد الرافدين.
[«ينشر ضمن اتفاقية شراكة مع «السفير العربي]