حين تحوّل جسد 'حارسة البقاء الفلسطيني' إلى رمزٍ للاختراق الاستعماري الإسرائيلي

حين تحوّل جسد "حارسة البقاء الفلسطيني" إلى رمزٍ للاختراق الاستعماري الإسرائيلي

حين تحوّل جسد "حارسة البقاء الفلسطيني" إلى رمزٍ للاختراق الاستعماري الإسرائيلي

By : Maha Ibrahim مها إبراهيم

[هذه المادة ضمن ملف خاص تنشره"جدلية" بالتعاون مع مؤسسة "القوس" الفلسطينية. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الكاتبة: مها إيراهيم

قراءة نقدية في إدراك وتمثيل جسد المرأة الفلسطينية في الانتفاضة الأولى.

مقدّمة:

تبحث هذه المقالة في مفهوم وتمثيل جسد المرأة الفلسطينيّة في الخطاب الوطنيّ كما ساد إبّان الانتفاضة الأولى، وهي تُشدد على كيفيّة تكريس مفاهيم الخطاب الغيريّ البحت (Heteronormativity) في المجتمع الفلسطيني خلال هذه الفترة، والتي تميّزت بصعود الخطاب الديني وتأثيره الجذري على مُجمل الخطاب الوطني.

تعرض المقالة عددًا من الدراسات التي بحثت ووثّقت تطرّق الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ إلى مفاهيم ومصطلحات جندريّة. وانطلاقًا من هذه الدراسات، تفحص هذه المقالة كيف تكرّست الغيريّة البحتة إثر تصاعد الخطاب الدينيّ وتأثيره على الخطاب الوطنيّ، وذلك من خلال قراءة نقديّة لمفاهيم الغيريّة البحتة كما ظهرت في البيانات وحملات سياسيّة واجتماعيّة أُطلقت في فترة الانتفاضة الأولى لتعبئة الرأي العام الفلسطينيّ، والتي سيتم تحليلها من منظور نسوي-استعماري.

خلفية نظرية – الفكر الوطني والنوع الاجتماعي     

 نظريّات نسويّة وما بعد استعماريّة عديدة تُظهر أُسس النوع الاجتماعي التي يرتكز عليها الفكر الوطني، وتشير الى أنّ معظم النظريات المُهيمنة حول القومية كانت ذكورية المركز ولم تتطرّق إلى النوع الاجتماعي في الخطاب الوطني (Yuval-Davis 1997) . وعلى هذا الأساس، فإنّ فكرة الأُمّة تُعتبر مستودعًا للآمال الذكوريّة، والطّموحات الذكوريّة، والامتياز الذكوري. وهكذا، فإنّ الأمّة، كما تشير اليها آن ماكلينتوك، هي "مجتمعات متخيّلة" (imagined communities) ذكورية (McClintock 1993).

تدّعي جولي بيتيت (Julie Peteet) أن الحركات الوطنيّة عامةً تحوي بداخلها إمكانيات متناقضة[i] فيما يتعلّق بمشاركة النساء في النضال الوطني، فهي تبني حيّزاً "شرعياً" للنساء للمشاركة في النضال، وفي الوقت ذاته تحاول أن تحصّن هذا الحيز بحدودٍ واضحة ومتينة وتسعى لكي تحصر هذه المشاركة داخله.  تتقاطع داخل هذا الحيّز كلّ من الوطنيّة، النوع الاجتماعي والجنسانية في حقلِ قوة خاص (Peteet 1999). 

في الخطابات الوطنيّة عامةً يتم التطرّق الى الأرض والوطن كأنثى، كجسد امرأة\حبيبة\أم[ii]. مستودع الرموز والاستعارات في الخطاب الوطني مُشبع بمصطلحات أنثوية، إيروتيكيّة، بالحبّ والرغبة المُوجّهة عادةً نحو النساء. هذه الرغبة اتجاه الأرض تُبنى عمليًا كرغبة ذكوريّة: الرغبة في امتلاكها، حمايتها من العدوّ، الدفاع عنها، المحاربة والموت من أجلها، فعمليّة تأنيث (feminization) الأرض تشير إلى سياسة حماية ذكورية قوية تجاه النساء (Saigol 2008) التي تتمثل بعبارة "أرضي عِرضي".  وفي إطار هذا التصوّر المجازيّ، تتشكّل صورة جديدة للأجساد والأدوار الأنثويّة على أرضيّة النضال الوطنيّ.

 نظريات عديدة تطرّقت الى تحوّل جسد المرأة في الخطابات الوطنية الى أحد المواقع الأكثر أهميةً للتدخّلات والممارسات السياسية، وذلك لسببين: كونه رمزًا للوطن وحدوده، وكونه موقعًا مادياً وفعلياً مسؤولًا عن تشكّل وبقاء الأُمّة (Cinar 2005). تشيرSaigol الى أنه كلما ازداد التهديد الخارجيّ للمجتمعات المستعمَرة، ازداد معه التشديد الداخليّ (من قِبل الحركات الوطنية المناوئة للاستعمار) على أجساد النساء وكونهنّ ممثّلاتٍ للأرضِ والوطن. وتوضّح أنّ التشديد هذا نابع من حالةِ ذعرٍ قوميّ، والذي غالبًا ما يؤدي إلى تكثيف المراقبة والسيطرة على جسد المرأة، والسعي إلى هندسته اجتماعيًا بما يلائم الظرف السياسيّ، وأحيانًا يتم تغيير تمثيله وإدراكه لما تقتضيه المرحلة النضاليّة فقط (Ibid).

توضّح لنا النظريات النسوية ما بعد الاستعمارية العلاقة المتينة المُتشكّلة بين الأم والأُمّة، وتشير إلى أن الدور البيولوجيّ هو أحد الأدوار المركزية والمهمّة التي تُمنح للنساء في الخطاب والنضال الوطني (Yuval-Davis 1997). بناءً على هذا، تُستهدف أجساد النساء بشكل مُمنهج كجزء من الآليات التي تستخدمها القوة الاستعمارية لفرض الهيمنة العرقية، وللمنطق الذي تعتمده لإبادة المجتمعات الأصلانيّة. وقد ارتُكب العنف الجنسي، في السياقات الاستعمارية، ضد أجساد النساء الأصلانيّات من خلال الاغتصاب، التحكم في قدراتهن الإنجابية، التعذيب والقتل (ظاهر-ناشف وشلهوب-كيفوركيان 2015).

هكذا، يتحول جسد المرأة الى حلبةٍ لممارسات الاستعمار الاستيطاني الذي يحاول القضاء عليه والحدّ من قدراته الإنجابية، من جهةٍ، وإلى عرضة للحركات الوطنية التي تساهم في ترويضه وتسييس قدراته الإنجابية بشكل معمّق، من جهةٍ أخرى. وهو الأمر الذي يضع إنجاب الأسرة الغيرية في موقع المركز في المشروع الوطني، فهي تُعتبر الخليّة الشرعيّة الوحيدة المسؤولة عن إنتاج الجيل القادم.

إضافةً لهذا، تشير الدراسات أنّ الفكر القوميّ للعالم المستعمَر كان مشروعًا حافلًا بالتناقضات، وتمّ التعبير عنه كـ-"جانوس الحديث  [iii](McClintock 1993) “The modern Janus” فبينما يكون إنجاز التحديث التكنولوجي أحد هدفي القوميّة والوطنيّة المناوئة للاستعمار، فإنّ هدفها الثاني هو التأكيد على ثقافة وطنيّة تراثيّة". تدّعي ماكلينتوك  في هذا السّياق، أن الزّمن المتناقص الذي يميّز الأمّة يجب فهمه أيضًا داخل السياق الجندريّ. فهي تقوم بمقارنة بين "زمنٍ أنثويّ" و "زمنٍ رجوليّ": فالأنوثة تتّسم بصفات ترتبط بالزمن الماضي، وهي تمثّل الزمن الدائريّ ومبدأ الاستمرارية في الخطاب الوطنيّ. اما الذّكورة فتّتسم بصفات مميّزة مُتضمّنة داخل تصوّر زمني يرتبط بالحداثة الوطنيّة، فهي تمثّل الزمن الخطّي التقدّمي linear time.

تُظهر ماكلينتوك ارتكاز الخطاب القوميّ على صورة العائلة في بناء الأمّة وإدارتها. فالتصوّر\النهج التقليدي للنزعات القومية هو تصوّر غيري بحت، مبني على تكريس الثنائيات والذي يقوم بتصوير الأمّة على أنها عائلة غيرية heterosexual family. ويتم ذلك ابتداءً من اللغة، فالخطاب الوطني يقوم باستقاءِ مصطلحاتٍ من مجال العائلة واستعمالها لوصف الأُمة – motherland\ Family nation. وتجادل ماكلينتوك بأنّ "استعارة العائلة" تستبعد وتُقصي النساء من الخطاب القوميّ وتُستخدم في تشكّل الأمّة من أجل تطبيع دونيّة المرأة والتراتبيّات بينها وبين الرجل، وللحفاظ على البَينيّة الثنائيّة بين الأدوار الرجولية والأنثوية (Ibid).

بعد أن قمنا بعرض ارتكاز الخطاب الوطني على أسس النوع الاجتماعي، سوف نحاول فهم تطبيق هذا الخطاب على ارض الواقع وتأثيره على تجربة النساء الفلسطينيات في الانتفاضة الأولى.

الانتفاضة الأولى:

دراسات وأبحاث عديدة تشير إلى مشاركة النساء النشطة في مطلع الانتفاضة الأولى وإلى زيادة وعيهنّ بموقعهنّ داخل الفكر الوطني والحركة الوطنية. مع هذا، تُظهر الدراسات أنّ هذه المشاركة ظلّت امتدادًا للأدوار الاجتماعية التقليدية للنساء في مجالات مثل التعليم والخدمات الاجتماعيّة، ولكنها في الوقت ذاته تميزت بالخروج من الحيز الخاص إلى الحيز العام (مسعد 1995).

كانت البيانات المشتركة التي تصدرها القيادة الوطنية الموحّدة للانتفاضة ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة بمثابة الوسيلة الأساسية لتعبئة السكان وحشدهم (Ibid, p. 204). فيشير مسعد إلى مواضعٍ عديدة في البيانات التي تتجلّى فيها بوضوح الأدوار الانجابيّة للنساء في النضال الوطني، حيث تمّ وصفهنّ على أنهنّ "البطن العسكريّ" للأمّة، و"مصنع الرجال"، كما واعتبر إعلان الاستقلال في تشرين الثاني 1988، المرأة الفلسطينية، "حارسة بقائنا وحياتنا، وحارسة نارنا الدائمة". وفي البيان رقم 5 الصادر في كانون الثاني عام 1988 تتوجّه القيادة الموحّدة للانتفاضة إلى "أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا إلى منابت العزّة والكرامة والرجولة" (p. 209) إضافةً لربط الأمومة بالوطنية والتطرق الى غير الأمّهات كغير وطنيّات وكمن يمتلكن فاعليّة محدودة في النضال الوطني.

 إضافةً لهذا، تشير بيتيت (Peteet 1997) الى تشكّل "الأُمومة الوطنيّة" في الخطاب الوطني، والتي دعت لها الحركات الوطنيّة عبر البيانات. "الأمومة الوطنية" تعبّر عن توّسع وامتداد لدور الأم البيولوجي الذي يتجاوز البيت وعلاقات القرابة الفعليّة: من أمٍ فرديّة فعليّة لأبنائها البيولوجيين لأمٍّ رمزيّة لجميع أبناء الأمة الفلسطينيين: "يا ام الشهيد وزغرطي كل الشباب ولادكِ".

مفهوم الأمومة الوطنية، كما تشير اليه بيتيت، يحوي داخله تحوّل في مفهوم الأمومة التقليدية التي يقف في مركزها دور الرعاية والاهتمام بالأبناء، محبّتهم والتضحية من أجلهم. ففي مفهوم "الأمومة الوطنية" الجديد، يُطلب من الأمهات سلخ هذه القيم التقليدية وتبنّي قيم جديدة للأمومة تتمثّل في توجيه دور الاهتمام والرعاية بالأساس نحو الوطن والتضحية بالأبناء من أجله.

 من الممكن ان نرى من خلال الأمثلة أعلاه انه مع ازدياد التهديد الخارجي يزداد التركيز على الأدوار الإنجابية والأمومة ومحاولات السيطرة على أجساد النساء. من الممكن أن نلمس أيضًا مفهوم الزمن الأنثوي الدائري الذي تحدثت عنه مكلينتوك، فمستقبل الأمة واستمراريتها كان متعلقًا بالقدرات الإنجابية لدى النساء "حارسات البقاء" المسؤولات عن "إعادة إنتاج" الرجال المضحين بحياتهم من أجل تحرير الأرض (الزمن التقدمي).

إنّ تكريس الثنائيات في الخطاب – أم وطنية مقابل عزباء غير وطنية – كان يصبّ في تكريس وترسيخ قيم العائلة الغيرية والتي داخلها فقط تتحقق إمكانية استعمال القدرات الإنجابية. فعن طريق هذه الثنائيات تم تحديد وتعريف من هي المواطنة الصالحة: هي التي تستغل قدراتها الإنجابية داخل العائلة وتساهم في بقاء واستمرارية الأمة.

 تشير بيتيت  (Peteet 1999)الى التزامن بين منع قوات الاحتلال من استمراريّة عمل اللّجان الشعبيّة (التي تركّز عمل النساء بها) وبين التطورات والتغييرات الاجتماعيّة والسياسيّة التي حدثت داخل النضال الفلسطيني والتي أدّت الى تراجع ملحوظ في مشاركة النساء: ظهور حركة "حماس".

صعود حماس: كيف كرّس الخطاب الديني مفاهيم الغيرية البحتة؟

من بين التطوّرات المهمّة التي أدت إليها الانتفاضة هي الإعلان عن حركة الإسلام السّياسي "حماس" في ربيع عام 1988 كحركة مستقلّة ومنفردة داخل النضال والتي باشرت في وضع وتطبيق تعليمات لأسلمة قطاع غزة وتثبيت سلطتها على أرجائه. كانت الحركة تمتلك رؤية أيديولوجية سياسية واجتماعية واضحة حول الأدوار التي ينبغي أن تقوم بها النساء في مجتمع مسلم (جاد 2014). من الممكن أن نرى تجلّيات هذه الرؤية الأيديولوجية عن المرأة للمرة الأولى في ما يُعرف بميثاق حركة حماس الصادر عام 1988 في المادة السابعة عشرة والثامنة عشرة تحت عنوان "دور المرأة المسلمة":

للمرأة المسلمة في معركة التحرير دور لا يقل عن دور الرجل، فهي مصنع الرجال، ودورها في توجيه الأجيال وتربيتها دور كبير]...[ والمرأة في البيت المجاهد، والأسرة المجاهدة، أماً كانت أو أختاً لهـا الدور الأهم في رعاية البيت وتنشئة الأطفال على المفاهيم والقيم الأخلاقية المستمدة من الإسلام وتربية أبنائها على تأدية الفرائض الدينيـة اسـتعداداً للدور الجهادي الذي ينتظرهم، ومن هنا لابـد مـن العنايـة بالمـدارس والمناهج التي تربى عليها البنت المسلمة، لتكون أماً صالحة واعية لدورها في معركة التحرير.[iv]

من خلال المادة أعلاه، يمكننا أن نلحظ بأنّ الأدوار المشار اليها هنا، على خلاف الأدوار التي نادت بها القيادة العامة، بقيت محصورة في الحيّز الخاص وفي أدوار النساء كزوجات وأمهات. حتى الخروج من هذا الحيّز (إلى المدارس) كان بالأساس بهدف اكتساب تربية وتعليم يُعدّان البنت المسلمة للوصول الى الأمومة الوطنية-الدينية، والتي هدفها تنشئة الأبناء استعدادًا للدور الجهادي. فكما تشير ماكلينتوك أن استعارة العائلة تقوم بتطبيع دونية المرأة وتحافظ على البينية الثنائية في الأدوار الجندرية. من هُنا، يُمكن اعتبار هذه الفترة فترة تحوّلٍ أثّرت على الخطاب الوطنيّ عمومًا، ودفعته نحو المُحافظة والأسلمة مع ازدياد قوّة حماس. ويدّعي هذا البحث أن هذا التأثير ينعكس في تحوّل المفهوم المجازيّ والاستعاريّ للعائلة (باعتبارها تصويرًا رمزيًا للأمّة، كما تُشير ماكلينتوك)، إلى مفهومٍ إسلاميّ للعائلة باعتبارها أحد أركان المجتمع ودعائم استقراره، ونواة ماديّة فعليّة لتشكيل الأمّة وتراتبيّتها. وعليه، يرى البحث أن هذه الفترة شهدت تصعيدًا وتعميقًا للمفاهيم الغيريّة، وتحوّلها من دور رمزيّ يدفع باتجاه أدوار اجتماعيّة للمرأة وأخرى للرجل، إلى دور فعليّ في تكوين العائلة وبالتالي دور الرجل تجاه المرأة والمرأة تجاه الرجل والأبناء. ولكن في الوقت ذاته، يمكننا أيضًا الإشارة إلى أن رؤية الحركة كانت تتّبع في هذا السياق مبدأين متناقضين في آنٍ واحد: ففي حين يشدّد التصور الإسلاميّ على قيم العائلة الغيريّة الفعليّة التي تشمل أدواراً واضحة للأهل تجاه الأبناء، اصبحت هذه الأدوار موجّهة بالأساس نحو الوطن: من اهتمام في الأبناء ورعايتهم إلى اهتمام في الوطن والتضحية بالأبناء من أجل استمراريته. بكلماتٍ أخرى، هنالك حركة دائمة من المفهوم المجازيّ للعائلة إلى المفهوم الإسلاميّ الفعليّ، وهذا الآخر وُجّه مرة أخرى لخدمة المفهوم المجازيّ – أي نحو "العائلة الوطنيّة" الجماعية واستمراريتها.

تشير كنديوتي دينيز (Kandiyoti Deniz) إلى أنّ أجندة الحركات الإسلامية وأجندة الحركات الوطنية العلمانية المتأثرة من سيطرة الأولى قد وضعت النساء، أجسادهنّ وبالتالي أدوارهنّ في موضعٍ مركّب للغاية(Deniz 1996) . وفي سياق طرح حماس للإسلام السياسيّ بديلًا عن الخطاب الوطنيّ العلمانيّ، تشير الدراسات إلى أن حماس حاولت فرض سيطرتها على الشارع الفلسطينيّ من خلال تحدّي الحركات العلمانيّة في واحدة من القضايا الأكثر حساسيّة بالنسبة لها: قضايا تحرّر النساء. هكذا، أصبحت أجساد النساء ميدان معركةٍ للتنافس السياسيّ بين الحركات العلمانيّة والدينيّة(Hammami 1997) . هذه المحاولة لتحصين مكانة الحركة وفرض سيطرتها انعكست في حملة فرض الحجاب.

 حملة فرض الحجاب:

في صيف 1988 بدأت حركة حماس حملة دعائيّة لفرض الحجاب في غزّة ثم في بعض مناطق الضفة الغربية (خاصة نابلس والخليل)[v].  وتضمّنت كتابة شعارات تهديد ورسومات (جرافيتي) على الجدران في الشوارع، مناشير، تهديدات وملاحقات للنساء غير المحجبات، إلقاء مياه حارقة أو الحجارة عليهنّ. وقد تطوّرت في الخطاب السياسيّ عملية "تأميم" للحجاب (nationalization) من خلال ربطه بتعريفات ومفاهيم جديدة تلائم متطلّبات النضال. تحوّل الاحتشام والحجاب في هذه المرحلة إلى رمزٍ وطنيّ، التزام بالقضيّة وعلامة احترام للشهداء، بينما اعتُبرت غير المحجّبات غير وطنيّات وغير ملتزمات بالقضيّة. كما وتشير ريما حمامي إلى أن الحجاب في هذا السياق كان وسيلة في أيدي الحركات الإسلامية للسيطرة على أجساد النساء، وإخضاعهن وترويضهن لكسب أهداف سياسيّة (Ibid)

بالرغم من انّ الخطاب الديني كان في مركز حملة فرض الحجاب، إلّا أنه يجب علينا، طبعًا، عدم إغفال تطرّق الأحزاب والحركات الوطنية الأخرى والتي يبدو خطابها أكثر "منفتحًا" من الخارج. تشير الدراسات الى أن الحركات الوطنية لم تبد موقفًا ولم تستنكر هذه الحملة إلّا بعد مرور عام. تشير Amal Amireh  بأنّ سكوت القيادة الوطنية كان يُبرّر غالبًا بأن التطرّق الى الأمور الدينية قبل التحرر الوطني قد يسبّب الخلاف ومن الممكن أن يؤذي أو يفكّك الوحدة الوطنية. هذه التصريحات ما هي إلّا تعبير عن نموذج تحديد الأولويات الذي تبنّته الحركة الوطنية. وبتبنّيها هذا النموذج، قامت الحركة الوطنية بضبط الدين وإبقائه في الحيّز الخاص. وهكذا، فقد ترك مجال الدين فراغًا مفتوحًا للحركات الإسلامية (Amireh 2012, p. 440)، التي نجحت في تحقيق هدفها في جعل الرقابة الاجتماعية على سلوك النساء إنجازاً من إنجازات الانتفاضة، ووضع برنامجها الأخلاقي الاجتماعي على سلّم أولويّات الحركة الوطنية (جاد، 2014). وتشير بيتيت (Peteet 1993)، في هذا السياق، إلى ربط الحجاب بالوطنية والأخلاق مقابل ربط رفض الحجاب بالخيانة والتعاون مع العدو. تضيف حمامي أنه في نهاية العام 1988، طرأ تحوّل في النشاط الوطني، من نشاطٍ تركّز فقط في التصدّي للتهديد الخارجي من العدوّ الإسرائيلي، إلى نشاطٍ تركّز في تصفية المجتمع الفلسطيني من عناصر داخليّة تعاونت مع العدوّ الإسرائيليّ، وكانت هذه عمليًا حملة "تصفية المتعاونين والمتعاونات".

حملة "تصفية المتعاونين والمتعاونات":

إنّ الانتفاضة قد خلقت وضعًا سمح لكلّ الشعب المشاركة بشكل فاعل في أنشطتها. كان رد الشاباك على هذه الهبّة الشعبيّة تكثيف عمليّات تجنيد العملاء والجواسيس. عمليّة التجنيد تكوّنت من شقّين: الشق الأول اعتمد على أماكن الاحتكاك بين الفلسطينيين والإسرائيليين. الشق الثاني كان بالإكراه، أي عمليّات الإسقاط. "الإسقاط هو وسيلة ابتكرها جهاز المخابرات، تعتمد على جمع "معلومات" عن شخص فلسطيني يمارس -سواء بالموافقة أو بالإكراه- فعلاً يعتبره المجتمع الفلسطيني غير مقبول اجتماعيًا. استغلّت الأجهزة الإسرائيلية وجهات النظر الفلسطينية السائدة حول ما يُعتبر سلوكيات غير مقبولة اجتماعيًا كأداة رئيسية لتجنيد العملاء". [vi]

ومع ظهور هذا الشكل ازدادت بشكل عام درجات العنف المستخدم ضد المجتمع سواء لتصفية من اتهموا بالعمالة والتعاون مع العدو، كما للذين وُجّهت لهم تهم أخلاقية التي غالباً ما كانت تربط أيضاً، بشكل أو بآخر، بالعلاقة مع سلطات الاحتلال (إصلاح2014). ووفقًا لهذا، فقد قام الخطاب الوطني المُهيمن بربط التصرفات "غير الأخلاقية" اجتماعيًا، كممارسة الجنس خارج إطار الزواج والمثلية الجنسية على سبيل المثال لا الحصر، رباطًا وثيقًا مع الخيانة الوطنية.

النوع الأخير من التّهم غالباً ما مسّ النساء، خاصة اللواتي أثيرت "شكوك أخلاقية" حول سلوكهنّ، وصار ينظر إليهنّ كمن يخن ليس فقط شرف العائلة ولكن أيضاً شرف الوطن، وبالتالي يجب تخليص المجتمع منهن. استثمرت حركة "حماس" حالة الذعر التي سادت في أوساط السكان خوفًا من الإسقاط، لبثّ أفكارها التي بدت كعلاج وردّ على "إسقاط النساء" وهو عدم الاختلاط، وتقييد حرية الحركة للنساء بشكل عام، إضافة لفرض الزي المحتشم والتحجب وفرض سلوكيات عامة أخرى (جاد، 2014؛ Hammami 1997). لم يكن الجناح العسكري المرتبط بتنظيم "حماس" المنفّذ الأكبر لعمليات قتل "المشتبه بهن"، لكن جاء في المقدمة خلايا تعد قريبة من تنظيم "فتح"، يليها في ذلك الخلايا المرتبطة بـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". تشير بيتيت بهذا السياق، أن حقيقة كون "فتح" المنفّذ الأكبر لعلميات القتل، تكشف طبيعة المعركة التنافسية بين الحركات الوطنية على إقليم اعتُبِر منذ البداية تابعاً لحركة حماس.

 بناءً على هذا، وحسب رؤية فوكو ما بعد البنيوية التي تكشف الحضور الشامل للسلطة داخل الصياغات الخطابية المتعلقة بالجسد، واعتباره مفعولًا به ومنسحقًا تاريخيًا وسياسيًا وممثلًا لمنهج التدوين (Mills 2013, p.83)، من الممكن الإشارة هنا بأن الممارسات السياسية للحركات الوطنيّة دُوّنت مرة أخرى على أجساد النساء التي تحوّلت الى أرض معركةٍ آخذة في التفاقم. فمع ازدياد وتفاقم التهديد (الخارجي والداخلي)، لم يبق أمام الحركات الوطنيّة، المُصابة بحالة ذعرٍ – ككّافة المجتمع الفلسطيني، إلّا ان تُكثّف العنف والسيطرة على الأجساد، خاصةً أجساد النساء. فقد تحوّ لت أجساد النساء من "حارسة البقاء" ورمز الأرض الفلسطينية إلى رمز للاختراق الكولونياليّ (colonial penetration) وتغلغل العدو الاسرائيليّ، وبالتالي فهي بحاجة لسيطرة وإخضاع للحدّ من هذا التغلغل والاجتياح.

إضافةً لهذا، ومن خلال الأمثلة أعلاه، يمكننا الإشارة إلى تكريس الغيرية البحتة في الحملات التي أُطلقت. فنرى أنه كلّما ازداد التهديد القومي الخارجي ازداد معه التشديد على أجساد النساء، قيم العائلة والبيت، والقدرة على الإنجاب. وبما أنّ العائلة تقوم بالمحافظة على استمرارية البينيّة الثنائية بين الأدوار الذكورية والأنثوية وتعزيز قيم الغيريّة البحتة، فكان من المهم إعادة النساء إلى داخل العائلة وإلى دورهنّ البيولوجي الرئيسي، فخروجهنّ إلى الشارع ومشاركتهنّ الفعّالة في النضال الوطني من الممكن أن تؤدّي إلى إهمال دورهنّ الأساسي: إنجاب الجيل القادم. من الممكن التطرق إلى حملة الحجاب على أنها ساهمت في تحقيق هذا الهدف، فهي ساهمت في تقييد حركتهنّ وملبسهنّ وبالتالي بالحدّ من مشاركتهنّ. ليس هذا فقط، إنّما تقترح المقالة اعتبار الحجاب تعبيراً مادياً فعلياً عن التزام بدور فعليّ، بمعنى أنه تعبير علنيّ حاد ولا يقبل التأويل، في ظل تصعيد للمفاهيم الغيرية وتحوّل الدور المجازي المُخيّل في النضال الوطني إلى دور فعليّ: من التمثيل الرمزيّ للأمة (الأرض الوطن) وبالتالي تحديد أدوارهنّ، إلى تمثيل فعلي للأمّة من خلال إنتاج وحداتها الأساسيّة (العائلة) وبالتالي مُنتِجات بيولوجيّات لها.

وبما أنّ تصوّر الخطاب الوطني هو تصوّر غيريّ بحت يُظهر الغيرية الجنسية والعائلة المغايرة على أنهما الإمكانية الوحيدة "الطبيعية" والمقبولة اجتماعيًا وبالتالي إقصاء إمكانيات أخرى-فهو يقوم بنفس الممارسات، أي تعريف وتحديد المواطن\ة الصالح\ة: المُخلص\ة للقضية والمُساهم\ة في إنجاب الجيل القادم واستمرارية الأمة (أم وطنية مقابل عزباء غير وطنية). أي أن الخطاب الوطني يضع الغيرية الجنسية والعائلة الغيرية كشرط أساسي لكي يتم تعريف المواطن\ة على أنه\ا صالح\ة. كل مواطن لا يصبّ بهذا التعريف، يتم اعتباره كمواطن غير صالح لأنه لا يساهم في استمرارية الأمة، ولأنّ "انحرافاته\ا" الأخلاقية والجنسية أصبحت رمزًا للاختراق الكولونيالي. بناءً على هذا، يمكننا فهم هذا الخطاب السياسيّ على أنّه ساهم أيضًا في تكريس ثنائية الغيري الجنسي مقابل المثلي الجنسي. فالخطاب حول المتعاونين والمثليين لم يكن خارج نهج تكريس الثنائيات المعهود في الخطاب الوطني: مثلي\غيريّ، عميل\ قومي، ميت\حيّ.

 النقاش:

أوضحت هذه الدراسة كيفية تمثيل جسد المرأة الفلسطينية في الخطاب الوطني كما ساد إبّان الانتفاضة الأولى، واستعرضت كيفية تغيير تمثيله وإدراكه في المراحل المختلفة من الانتفاضة نتيجةً للمنافسة السياسة بين الحركات وتفاقم درجات التهديد القومي: من ممثلاتٍ للوطن ومنتجاته رمزيًا، بيولوجيًا وتربويًا إلى رمزٍ للتهديد والتغلغل الكولونيالي. إضافةً لإظهار تكريس الغيرية البحتة من خلال قراءة نقدية للبياناتِ والحملات آنذاك.

أغلب الدراسات التحليلية حول أجساد النساء والحملات في فترة الانتفاضة الأولى تركّزت في ذكوريّة الخطابات الوطنيّة والقمع المحلّي. فادّعت بعض الدراسات بأنّ هذه الحملات قد ظهرت كي تحدّ من مشاركة النساء لما تحويه هذه المشاركة من تهديدٍ للبينية الثنائية في الأدوار الجندرية. وبالتالي، ادّعت الدراسات بأن هذه الحملات ما هي إلّا تعبير عن الذعر الذكوري من مشاركة النساء (Amireh 2012)، متجاهلةً بذلك التهديد القومي الخارجي من قِبل القوة الاستعمارية وتقاطعها مع الممارسات الداخلية. يؤكد ظاهر-ناشف وشلهوب-كيفوركيان بأنّ تركيز التحليل على القمع الذكوري الفلسطيني  بغضّ النظر عن انعدام المساواة العرقية والاجتماعية والجندرية وغير ذلك - يهمّش العلاقات البنيوية القائمة بين أنظمة القمع المتشابكة. ويضيفان، استنادًا الى تحليل هومي بابا للستيريوتايب الكولونيالي، أنه "في كثير من الأحيان تستخدم النسويات الفلسطينيات التصنيفات الغربية ذاتها التي تُموضع الرجل الفلسطيني في خانة العنيف، والرجل الشرقي والمرأة الفلسطينية في خانة الضحية التي بحاجة إلى منقذ أبيض. وهذا فخ تقع فيه النسويات ليصبحن شريكات بتكريس المجموعات التصنيفية، والستيريوتايب الكولونيالي، الأمر الذي يخدم قوى المستعمِر\ة” ص142. لذا فيرى هذا البحث أنّ فهم ممارسات الخطاب الوطني الفلسطيني وتكثيف سيطرته على أجساد النساء خلال الانتفاضة يتطلّب تحليلًا نسويًا وشموليًا يتطرّق إلى تقاطع الخطابات والممارسات بين المستعمِر والمستعمَر.

تشير شلهوب-كيفوركيان، إلى أنّ انعدام التوازن بين القوة الإسرائيلية الخارجية والقوة الفلسطينية الداخلية يؤدي إلى إعادة توجيه هذه القوة (الإسرائيلية) نحو مجموعات داخلية ذات قوة محدودة – عادةً النساء. ومن هنا، فإن تحليلها يشير إلى أن العنف ضد أجساد النساء الفلسطينيات وجنسايّتهن تعزّز بيد الدولة الصهيونية من أجل تقوية البُنى الذكورية الأصلية. كما أن الدولة الإسرائيلية استغلت التهديد بالعنف الجنسي ضد النساء الفلسطينيات، والمفاهيم الذكورية للجنسانية و"الشرف" من أجل تجنيد الفلسطينيين كمتعاونين ولردع محاولات المقاومة المنظمة. (Ibid, p. 135).

إنّ هذه الخطابات والممارسات ليست بالأمر الجديد والمفاجئ في مجتمع محافظ كالمجتمع الفلسطيني، ولا تقتصر فقط على أيديولوجية الحركات الوطنية والإسلامية، إنما هي جزء من بنية اجتماعية وعلاقات قوة موجودة داخل الصياغات الخطابية المختلفة. إضافةً لأنّ السيطرة والتشديد على أجساد النساء، رفض المثلية والعلاقات الجنسية خارج الزواج وحصرها داخل العائلة هي ممارسات ليست بالجديدة أيضًا، إنما هي ممارسات يومية ومتكررة مترسّخة في البُنى المجتمعية، لكنها كثيرًا ما تكون مفهومة ضمنًا وغير مرئية وواضحة. ولكن مع تفاقم التهديد الخارجي تصبح مرئية، واضحة وعنيفة حدّ القتل. فمن الممكن الإشارة إلى الحملات والممارسات المحليّة كعوارض لمجتمعٍ قابع تحت حالةِ ذعرٍ مستمرة قد أخرجته من توازنه. هي عوارض لمجتمع مبني من أساسه على مثل تلك القيم المحافظة والذكورية، ونتيجةً للتهديد القومي يصبح في أمسّ الحاجة لسدّ الثغرات التي تزعزع ثباته، وبالتالي لتشديد قيمه، على هويّته، حدوده وبقائه المرتبط في الأساس بأرحام النساء وأجسادهنّ. فالحركات الوطنية هي جزء من هذا المجتمع وقيمه وليست فوقه تعمل بمنعزلٍ عنه، أو في فراغٍ واسعٍ، إنما تعمل داخل هذا المجتمع، وداخل علاقات القوة المنتشرة في كافة أرجائه.

تتوقّف هذه الدراسة عند توقيع معاهدة أوسلو وتشكُّل السلطة الوطنية الفلسطينية، وترى ضرورة استمرار البحث حول تمثيل أجساد النساء في الانتفاضة الثانية، وفحص كيفية تدوين علاقات القوة والمعركة التنافسية الآخذة بالازدياد بين الحركات الوطنية على هذا الجسد. كيف وُلدت الاستشهادية الفلسطينية في الانتفاضة الثانية؟ كيف تحوّل جسد المرأة الفلسطينية، في الخطاب السياسي، من رمزٍ للاختراق الكولونيالي إلى رمزٍ وطنيّ ورحمٍ متفجّر في وجه الكيان الصهيوني؟

هذا التحوّل في الخطاب السياسي يجب فهمه في سياقه التاريخي، السياسي والاجتماعي الأوسع واسقاطاته علينا حاضرًا، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى الأدوار التي "سُمح" بها للنساء في الانتفاضة الثانية فقط على أنها تخطّت حدود الأدوار الأنثوية، إنمّا التركيز مرة أخرى على المفهوم الغيري الذي تم تكريسه وبقوة، وفهم كيفية تحقُق إمكانية تسليح أجساد النساء تحت ظروف استعمارية.

 
المصادر

[ii]  هذا التوجه لم ينحصر فقط في الخطابات الوطنية، إنما تجاوزها ليصل مجالات أخرى كالشعر والرسم والسينما والرواية الفلسطينية أيضًا. انظر\ي مثلًا شعر فدوى طوقان "نداء الأرض"؛ فيلم "عروس الجليل" لميشيل خليفة؛ بداية رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، حيث وُصفت الأرض كزوجة ورائحتها ك-"رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطبًا"؛ ولوحات الفنان التشكيلي إسماعيل شموط وإظهار الأرض الفلسطينية كجسد امرأة.  

[iii] جانوس أو يانوس هو إله الانتقالات والبوابات والمداخل في الميثولوجيا اليونانية. وهو ذو وجهين، وجه ينظر للماضي ووجه يتطلّع نحو المستقبل.

[iv]  انظر\ي ميثاق الحركة، ص 19، في الرابط الالكتروني التالي

[v]  من المهم الإشارة هنا إلى أنّ ارتداء أو عدم ارتداء الحجاب في غزة قبل هذه الحملة كان لاستعمالات مختلفة واعتمد بالأساس على الجيل، الطبقة الاجتماعية، الخلفية الإقليمية وعوامل أخرى (Hammami). وبهذا السياق، من المهم التوضيح أنني لا أدّعي بأنّ الترويج للحجاب من قِبل حركة دينية هو أمر سيء بحدّ ذاته، ولكن استغلال الحجاب واستخدامه كأداة لفرض السيطرة ولكسب أهداف سياسية، أي إخراجه من سياقه الاجتماعي، هو المشكلة هنا.

 
المراجع

بالعربية

-         مسعد، جوزيف "إدراك الذكورة: النوع الاجتماعي والوطنية الفلسطينية" XXXX . 1995.

-         ظاهر-ناشف، سهاد وشلهوب-كيفوركيان، نادرة. الرغبات الجنسية في آلة الاستعمار الإسرائيلية الاستيطانية. مجلة الدراسات الفلسطينية، 104. خريف 2015.

-         جاد، اصلاح. "الانتفاضة وتأثيراتها المتناقضة على النساء والحركة النسوية". جريدة السفير العربي. كانون الأول 2014. 


بالانكليزية 

-         Amireh, Amal. “Activists, Lobbyists, and Suicide Bombers: Lessons from the Palestinian Women’s Movement”. Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East, 2012, Vol. 32 (2), Pp. 437-446 [Peer Reviewed Journal].

-         Cinar, Alev. “Clothing the national body: Islamic veiling and secular unveiling”. In: Modernity, Islam and secularism in Turkey: Bodies, places and time. University of Minnesota Press, (2005) p. 53.

-         Hammami, Rema. “From Immodesty to Collaboration: Hamas, the Women’s Movement, and National Identity in the Intifada”, in: Joel Beinin and Joe Stork. Political Islam: Essays from “Middle East Report,” (London: I. B. Tauris, 1997), p. 194 – 2 10.

-         Kandiyoti, Deniz. Gendering the Middle East: Emerging Perspective. London: I.B. Tauris publishers 1996. Ch. 1 – introduction.

-         McClintock, Anne. “Family Feuds: Gender, Nationalism and the Family”. Feminist Review, No. 44, Nationalism and National Identities. 1993, Pp. 61-80.

-         Mills, Sarah. Michel Foucault. Routledge, 2003.

-         Peteet, Julie. “Gender and Sexuality: Belonging to the National and Moral Order", in: Asma Afsaruddin (ed), 1999. Hermeneutics and Honor: Negotiating Female "public" space in Islamic/ate societies. President and Fellows of Harvard College. Pp. 70 -88.

-         Petee, Julie. “Icons and Militants: Mothering in the Danger Zone”. Signs, 23 (1). University of Chicago Press. 1997, Pp. 103-129.

-         Saigol, Rubina. “Militarization, Nation and Gender: Women's Bodies as Arenas of Violent Conflict", in: Pinar Ilkkaracan (ed) 2008. Deconstructing Sexuality in the Middle East. Ashtage Publishing Limited. Pp. 165 – 167. 

-         Yuval-Davis, Nira. Gender and Nation. London: Sage Publications 1997.

 

اقتصاد الشهوات في الرأسمالية المتأخرة: قراءة في السّياق الأمريكيّ والفلسطينيّ


[هذه المادة ضمن ملف خاص تنشره"جدلية" بالتعاون مع مؤسسة "القوس" الفلسطينية. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الكاتبة: هديل بدارنة

"وانت؟ بتركضي بتركضي بتركضي وغير اللقمة اللي نزلتيها بتمّك ما في، كلشي عندِك بالأجرة، بيتك بالأجرة، وشغلك بالأجرة، ولسا بتقوليلي مستورة، لأ مانها مستورة أنا حاسة حالي عايشة بالزلط، منيح هيك؟!"

من  احد مشاهد المسلسل السوري "قلم حمرة" |٢٠١٤    

قد تمضي هذه الكلمات أمامنا دون أن نتساءل كثيرا ما لانعدام السترة أو"الزلط" والعيش بالإيجار، الا أن نصّ كاتبة السيناريو يمّ مشهدي يلقي القبض على "المفهوم ضمنا" بمنتهى الإخلاص الفكري، ويروي على ألسنة نسائية حاقدة طبقيا عن معنى الأمان الاقتصادي وعلاقته بالجسد المهدًّد. هذا الربط في الخاطرة النسائية بين السترة والاستقلال المادّي هو ربط معاش لا يسعفه الشرح أو التنظير، لكنه نافذة صغيرة تطلّ على التنظيم الاقتصادي لأجسادنا وجنسانيتها، ولفهمنا لها. وهو ما يدفعنا للتساؤل: هل لواقعنا المادّي ولانتماءاتنا الطبقية هذا الكم من قوة الصقل الجسدي والجنساني؟ أيلتقي الجسدي بالاقتصادي؟ أهما منفصلان كي يلتقيا؟ والأهم ما لنا ولهذه الأسئلة كلّها؟ 

إنّ فهمنا لمحرّكات أجسادنا ليس بأمر بديهيّ، وإن كان كذلك فعلينا بإعادته لموضع الشّك والمقارعة الفكريّة. وفي محاورة مفاهيم الجنس والجنسانية بالذهنية البشرية يتحتم علينا الحفر في الذات الاجتماعية الإيروسية دون اختزالها طاقةً كونية غرائزيّة متّسقة مع الطبيعة، بل باعتبارها بنية متشكلة داخل التاريخ مصاغة عبر قوى دفع، ودفع مضادّ، تتفاعل في المجتمع.

لأي مدى إذاً يمكن للنظام الاقتصادي أن يشكّل وعينا؟ هل فعلا يملك القدرة باجتياح جنسانيّتنا؟ أو أنه كما ادّعى فرويد، ما رغباتنا سوى طاقات لا-منطقية متّقدة في اللاوعي خارج تعرّجات التاريخ[1]؟ هل يعقل أن يكون هذا القدر من تقرير مصير أجسادنا خارجنا؟ أو أن تكون الإجابة على ذلك خارج إدراكنا؟ تصبح هذه الأسئلة ملحّة أكثر فأكثر عندما نحللّ أنفسنا  وواقعنا عبر عيون مُهيمِنة متزعمّين، بل متيقّنين، أنها عيوننا نحن، نحن المقموعين والمنتهكات، المتمرّدين والمقاومات، نسير صوب هوّة هذا الكمين وننكرها فور السقوط؟

بسياقنا الاستعماري، تعاني عيون أصحاب الخطاب التقدّمي فيما يخص الجنسانيّة من قصر نظر ذي  تجليّات عدة;

يُسَخّر الخطاب الأكثر انتشارا التحليل الجنساني لخدمة "القضيّة الوطنيّة" دون المساس بالأبويّة والذكوريّة المتأصلة داخل المؤسسات الوطنيّة عقائديّأ وبنيويّا، فيختزل كلمة "جنسانية" ب"امرأة" (مغايرة ضمنيّا) ويحوم حولها وحول دورها كشريكة في العمل الوطني انسجاما وتعريفها أما صالحة وأختا فاضلة، فهي متألّقة أكثر هكذا. يرتبك ذات الخطاب في حرج ذكوريّ مفرط حيال الجنسانية بمعناها الشامل، إذ يصعب على الرّجل المستعمَر تشريح الرجولة وتعريتها من الفحولة المناوئة للاستعمار، ما بالِك إذا كانت ذات ميول مثليّة أو راغبة في التحوّل. وليحفظ ماء وجهه يفضّل التحدّث عن "قضيّة المرأة" متمنّنا عليها بتقدميّته، لا لشيء سوى لطمر ذاته الهَلِعة، فردية كانت أم جمعيّة، طمرها بعيدا عن ساحة الاستئثار والبطولة الوطنيّة من جهة، وعن مكانته المتفوّقة اجتماعيا من جهة أخرى. لذلك عندما يدعو هذا الخطاب نساء الطبقات العاملة  للانخراط في "سوق العمل" يكون ذلك مشروطا "بطبيعة الحال" بعملها المنزلي غير المأجور، وعندما يحتفي بنساء الهبّات الوطنيّة، وأمّهات وأخوات الأسرى والشهداء، يكون ذلك منوطا بعودتهن اللاحقة إلى نوعهن الاجتماعي ودورهن الإنتاجي، فللقضيّة أحكام  وللوطن أولويّات.

يترددّ هذا التحرّر الأجوف للمرأة على ألسن تدّعي "ممانعة قوى الغرب والتحرر الاجتماعي والسياسي" لكنه بالحقيقة امتداد لصناعات التّمكين وحقوق الإنسان المتدفقة من صميم الاقتصاد النيوليبيراليّ. أما إذا خدش الحياء، يظهر خطّ فكريّ آخر نجده بالغالب في الأكاديميات والأبحاث، يقرّ بتعريف أوسع للجنسانيّة غالبا ما يحظى به الرّجل المثلي على اهتمام أكبر من المرأة المثلية، ويقوم على تحليل الانتظام الجنساني كمادّة ذات خصوصيّة ثقافيّة تتشكل إزاء المركزيّة الأوروبيّة والمشاريع الاستعماريّة، وتكاد تنتفي دونها. وفي وصف الصراع الثقافي مع الغرب صراعا مُعرِّفا لجنسانية المستعمَر، لا ينتج الفكر معانٍ ومفاهيم مستقلّة بل يمضي في منزلقات التجوهر مكرّسا ما ينتقده. 

قد يختلف توجه الخطابين ويصل في بعض الأحيان حدّ التضادّ، ورغم أن الأول ذو طابع تعبوي والثاني بحثيّ إلا أن كلاهما يلتقيان في نقاط تماس عديدة الأهم منها هنا هو: التغييب الصارخ للعوامل الاقتصادية والتحليلات الطبقية للجنسانية تحت الاستعمار، تغييب يعود بالفائدة على السّلطة الاستعمارية ووكلائها.

تشكيكا في المعرفة المقتصرة على دراسة الخطابات ونقدها نتساءل; هل تختلف جنسانيتنا كأجساد مُستعمرة عن غيرها في تأثرها بالعوامل الاقتصادية من حيث كونها "كولونيالية"؟ إلى أي حد؟ وبسياقنا المحلّي، أتكون للجنسانية الفلسطينية خصوصيّة بظل الرأسمالية المتأخرة؟   

تستهلّ هذه المقالة بما قد يبدو انحرافا عن عنوانها، وتأخذ بالقارئة إلى أولى المجتمعات البشرية قبل الميلاد، لتعود بها، من خلال ذات العدسة النقديّة، مباشرة إلى حقبة الرأسمالية حيث ستُعالج الهويات الجنسية والتحركات الكويريّة انطلاقا من السياق الأمريكي وانتهاء بالنموذج الكولونياليّ في فلسطين.

في كلا السياقين ستتمعّن المقالة في تشكلات العائلة والعشيرة كمتغيّرات أساسية في الانتظام الجنساني الجمعي، ومن خلال النموذجين الأمريكي والفلسطيني ستنظر في الفروقات وأوجه الشبه بين الجسد الجنوبي من جهة والشمالي من جهة أخرى. وربّما ما تتمناه روح المقالة هو استفزاز نقد نسويّ لا يهاب الاقتصاد السياسيّ والماديّة التّاريخيّة بل يخوضهما مساحة للتحدّي وأرضية للتّصعيد.                     

 
في البدء كان المجتمع أموميّ..

 أيقظ البحث الأركيولوجيّ من باخوفين وحتى السّواح الشك حول الفرضية السائدة إن المجتمع لطالما كان ذكوريا أبويا، وأخذت صورة الرّجل المقاتل كالقائد الأول للتجمّع البشري تندثر شيئا فشيئا. فإذا انطلقنا من أولى المدن في سومر والتزمنا امتداد الثورة النيوليتيّة خطّا تاريخيا، منتقلات إلى المجتمع الزراعي الممتد من حلب حتى سيناء، سنتيقّن عبر ما خلّفته المنمنمات، والأساطير، والمعابد أنه في البدء كان المجتمع أمومياً.[2] مع تراكم الأبحاث وازدحام الدلائل  تهاوت أسطورة الأبوية الأبديّة وظهرت المرأة رمزا للقوة الإخصائية الكونية في الضمير الجماعي للإنسان القديم (وليس بتصوّرها الذكوريّ الحديث)، إذ كانت إلها في الأساطير وسيّدة على الأرض. يعود ذلك لمركزيّة دور الأم في التنظيم الاجتماعي المشاعي حيث لا أحد ملك لأحد ولا من قيد على الممارسات الجنسية بين الرجال والنساء وبين بعضهما البعض، الأمر الذي جعل النساء المحددات الوحيدات للنسب، ووثّق التكوين الأموميّ للمجتمع المتمحور حول "حق الأم".[3] بناء على هذا الحق كانت تنتسب الأجيال الجديدة لمن ولدتهن وترث عنها، أما الأب فلم يلد ولم يورِث، وضعيّة قد يتعذر على مخيّلتنا المعاصرة تصوّره فيها. وبذلك هيمنت السياديّة النسائيّة على عدة قطاعات في اقتصاد المشاعات القديمة،; فكنّ صانعات الفخار، وكنّ الناسجات للجلود، ورحن يبحثن عن الأعشاب الصالحة للأكل ومن ثم للشفاء فصرن الطبيبات، ووسط هذا كلّه مضى "الجنس الناعم" في تبوء عرش الجماعة، وكنّ  قوّامات على الرّجال.

لن نسهب كثيرا في هذه النوستالجيا الأموميّة، لكن لا بدّ من الإشارة إلى استمرارية آثارها في المجتمعات الأبوية المتأخرة. ومن ذلك يستحضر السوّاح في "لغز عشتار" عقود زواج مصريّة قديمة والتي سردت على لسان الرّجل "منذ اليوم أقر لك بجميع الحقوق الزوجية، ومنذ اليوم لن أتفوه بكلمة تعارض هذه الحقوق، لن أقول أمام الناس بأنك زوجة لي، بل سأقول اني زوج لك منذ اليوم لن أعارض لك رأيا وتكونين حرة في غدوك ورواحك دون ممانعة مني، كل ممتلكاتك وبيتك لك وحدك وكل ما يأتيني أضعه بين يديك".[4] ليس المثال هذا (فقط) بفشّ غليل جندريّ مننا، بل جاء ليبين تأثير نمط الإنتاج وتقسيم العمل على ماهيّة الأنواع الاجتماعيّة ومدى سلطاتها.  

كما نعلم جيّدا، لم تستمر الحياة الاجتماعية الأمومية إلى الأبد، وبعدما تفتّتت الملكية الجماعية للأراضي مع تزايد الثروات واستقرار نمط الإنتاج الزراعي، أخذ التمرحل الجديد على أعتاب التاريخ المكتوب يزج الاقتصاد الجماعي إلى اقتصاد فردي ذكوري يمضي نحو الملكية الخاصّة، لتتمخض عنه نظم أسرية جنسانية جديدة، وتنشأ بأعقابه تقسيمات عمل استندت عليها المجتمعات منذ ذلك الحين فصاعدا. شيئا فشيئا، ولأسف نساء العصور التالية، ظهرت العائلة الأحادية المغايرة، كمؤسسة ضبطيّة، وتم إحكام سيادة الرجل عبر أبوة ثابتة لا جدال فيها من أجل تمليك وتوريث أبناء المجتمع الجديد: المجتمع الأبويّ.[5]


بالمال ولا بالعيال: النظام الرأسمالي والبنية الأسريّة

تعرّف سيلفيا فيدريتشي الرأسمالية كالنظام الاستغلالي الأول الذي "يرى في العمل، بدلا من الأرض، الشكل الأساسي للثروة"[6]، هذا الانتقال هو بالضّبط ما أدى الى مأسسة السلطة على الجسد النسائي (بشكل خاص) وطوّع عمالته غير المأجورة، ونظّم إنجابه للأيدي العاملة القادمة، وهو أيضا الذي استمرّ بالمحافظة على محاصرته في الأسر المغايرة الأحاديّة.

يتوجّب علينا التأكيد أن البنية الأسريّة، بتقسيم العمل المتعلّق بها، ليست فقط متغيّراً أساسيّاً في تعقّب التشكّلات الجنسانيّة للمجتمع، بل في هندسته الاقتصاديّة-إنتاجية. بالتالي الاعتقاد السائد الذي يرى بالحيّز الخاص عالما عاطفيّا منفصلا عن الحيّز العام، نعود إليه بعد نشاطاتنا السياسيّة وبعد مساعينا في التغيير والانعتاق الاقتصاديين، هو وهم تنعم به السّلطة فيتردّد عبر ممارسات المتسلّطين لتعاني منه النساء العاملات تحت ثقل المنظومة الصامت داخل الأسر (بفتح الألف وتسكين السين أو ضمّ الألف وفتح السين) وخارجها.

ستحاول الأسطر التالية تمحيص النظر في العوامل المركزيّة التي تؤثّر على مفاهيم الجنس والجنسانية في ظل النظام الرأسمالي، بالسياق الأمريكي تحديدا، وذلك باعتباره بوقا للعولمة التي اكتسحت الجنوب، ولعبت دورا عابرا للحدود داخل الجدليّة بين الذهنيّة والممارسة الإيروسيّة.  

لا يسلم الجسد من نهش الرأسمالية، خصوصا إذا وقع خارج معقل الرجولة المغايرة البرجوازيّة. يتّسم هذا النّهش، منذ القرن السابع عشر، بتحوّلاته في مرحلة الرأسمالية الحديثة إذ يتقلّب داخل حقبها الفرعيّة. حتى القرن التاسع عشر، ظلّ النظام الرّأسمالي في أمريكا مرتبطا ارتباطا عضويّا بالأسر المغايرة البيضاء، أينما تكدّست الملكيّات الخاصّة وادّخر رأس المال بتوزيعه الطبقي غير المتكافئ. حتى ذلك الحين كانت العائلات وحدات اقتصاديّة تتمتّع بنوع من الاكتفاء التكافلي من خلال قوّة إنتاج داخليّة، بمعنى أنها كانت تسدّ حاجاتها عبر قوّتها الإنتاجيّة، فتوكّلت صناعة المنتوجات المنزلية كالصوابين والشموع، واقتاتت على محاصيل الزراعية التي عالجتها بنفسها، وبذلك استهلكت ما أنتجت. وبينما قبعت النّساء في الحيّز الخاص وراكمت العمالة غير المأجورة، تحرّك الرّجال بتحكّم كامل في الموارد في الحيّز العام.[7]

 داخل اقتصاد العائلة النووية الأمريكيّ يعود اسم "العائلة" على مسماه; وحدة اجتماعية مبنيّة بشكل كليّ على اقتصاد الإعالة، وملاذ ينتظم داخله كل من يستطيع ذلك،[8] ليحتمي بمأمن مادّي[9] وأخلاقي داخل المجتمع الرأسمالي، ذلك بغض النظر عن ميوله أو عن الرغبة في التمأسس. أمّا الأجساد التي جنحت عن إملاءات مؤسسة العائلة والزواج فلا نبالغ إذا قلنا أنها هدّدت نمط الإنتاج الرأسمالي واقتصاد العائلة تهديدا مباشرا، فكيف للطبقات الحاكمة أن تراكم رأس مالها وملكيّتها الخاصّة بدون حماية مفهوم ودور العائلة في الذهنيّة الجمعيّة؟ تبعا لذلك، أن تمارسي ممارسات مثليّة علنا، وأن تخرجي عن تعليمات المرأة الصالحة يعني أن تزعزعي أسس المنظومة الرأسمالية المادّية، وهذا سيفضي بكِ وبأمثالك إلى حالة جمعيّة من الاستثناء. باستعارة من جورجيو أغامبن، ترتبط حالة الاستثناء هذه بال"هومو ساكر"،[10]وهو"المخلوق غير المستحق للحياة" بحسب القانون الرومانيّ القديم. يفترض منطق هذا القانون القديم أنه في انحراف الهومو ساكر عن السلطة يكمن تبرير قتله، فالتخلّص منه يكون بمثابة فعل مشروع مقونن وممأسس. وبالفعل، في سياقنا تم تجريم جنسانيّة "الهومو ساكر المنحرف" للحفاظ على الهيمنة المغايرة وعلى دورها في مراكمة رأس المال. وبعد أن جرّم القانون الجنائي الرّوسي الرّجولة المثليّة عام ١٨٣٢، قامت ألمانيا بذات الخطوة عام ١٨٨٧، وكانت قد وضعت الولايات المتّحدة قوانين عدّة عبر ولاياتها منذ منتصف القرن السابع عشر فصاعدا.[11] 

ولعلّ اختيار الخطاب البصري أدناه لتسويق القهوة (نعم القهوة) في خمسينيّات القرن الماضي في السوق الأمريكيّ يبرز تكلفة التمرّد على سلطة "ربّ المنزل" بمجرّد شراء القهوة غير المناسبة، ويرسم صورة مجازيّة  يتقمّص بها النّظام الرأسمالي دور الرّجل الذي يعنّف المرأة المتمثّلة بأجساد الاستثناء حين تنحرف عن متطلّبات الرأسماليّة من مجتمعها. لا حاجة لدخول عالم الاستعارات والتشابيه لوضع هذه المقاربة، فهذه الصورة ليس بمجرّد صنع المخيال الذكوريّ المازوشيّ أو خطاب تسويقي بائس لمقولة "ضرب الحبيب زبيب"، بل هي تماما ما قوننه النظام الرأسمالي. حتى بداية القرن العشرين سمحت قوانين أمريكا الاستعمارية ضرب الزوج لزوجته، طالما لم يخلّ ذلك في أيام الأحد وساعات معيّنة من المساء. وبحسب القانون الإنجليزي حتى ١٩٣٧ سُمح للأزواج بحجز زوجاتهم في حال رغبن هجرهم.[12]يمكننا إذا القول، دون ارتباك وتلعثم، إن للرّجولة المغايرة دوراً محورياً في النظام الرّأسمالي يتماسك عبره نمط الإنتاج وتتوطّد من خلاله السّلطة الأبويّة. 

 

 إعلان تسويقي للقهوة  لشركة Chase and Sanborn Coffee في أمريكا عام ١٩٥٢.  "إذا علم زوجك أنك لا تختبرين القهوة في الأسواق لشراء القهوة  الطازجة...".  

 
الرأسمالية الورديّة: سياسات من الاحتواء وأقطاب من الفيتيش

 فجرّت الثّورة الصّناعية حدود النواة الإنتاجيّة في العالم الشمالي وبدأت الرأسمالية تخلق واقعا حديثا ضاربة فيه جذوراً عقائدية جديدة لتضمن اجتياحات اقتصادية وتوسّعية جغرافية لم تحقّقهما من قبل. إثر تسارع إيقاع الإنتاج الرأسمالي في الشمال الصناعي تفاقمت صناعات واستثمارات تجارة المنتوجات، وشاعت أسواق العمل المأجور، ولم تمض هذه التغييرات الاقتصاديّة بريئة من التحوّلات الأيديولوجيّة المجتمعية. وبسياقنا، مفصلت الحاجة الملحة لزيادة كل من العمل المأجور والاستهلاك حقبة جديدة، نشهدها اليوم تعيد صياغة مفاهيم الجنس والجنسانية في الذهنية المعولمة.

بما سنسميه ب"الرّأسمالية الورديّة" يستلزم الإفراط في الإنتاج الصناعي تصاعدا مستمرا للاستهلاك الجماهيريّ، وعبر آليّات التّسويق يبزغ أمامنا اقتصاد استهلاكي يتحرّك بدافع الشّهوات والرّغبات وليس الحاجات الأساسيّة، فنحن اليوم نعلم جيّدا أننا لا نشتري السلع بدافع الحاجة الموضوعيّة وإنّما الرّغبة التي قد تبلغ حدّ تحقيق الذات. والذات هنا جمعيّة (رغم أنها "مفردنة" نيوليبراليا) غارقة بهاجس الاستهلاك الوجوديّ سعيا وراء متخيّلات السّعادة والاكتفاء. ومع التفاوت الشديد بين ما يتمناه المرء وما قد يدركه وفقا لانتمائه الطبّقي، إلا أن مقولة "أن تملك يعني أن تكون" هيمنت على وعي المجتمع بأسره.

ما لهذا كلّه ولجنسانيّة الجسد؟ للإجابة على هذا السؤال يجدر التمّعن جيّدا في السلعة، بغض النظر عن نوعها أو سعرها، وإعراب موقعها من المنظومة الرأسمالية واقتصاد الشهوات. فما يميّزها هو وقوعها بين قطبين من "الفيتيش"،[13] أي حالتين متخيّليتين، يكون الفيتيش الأول مرتبطا في صيرورة إنتاج السّلعة والثّاني في استهلاكها.

في القطب الأول، تكون عمليّات انتاج السّلع مشروطة بصيرورة روتينيّة من التشييء والتعرية الرغباتية لجسد العاملة والعامل، وذلك ابتغاء استخراج أكبر قدر من فائض القيمة ضمن العمل المأجور، فلا تتجرّد أجساد الطبقة العاملة من الجنسي والجنساني فحسب بل تتشيّأ بالكامل. يحاكي هذا الاغتراب اليومي الجاثم على الأجساد العاملة مصطلح "الاحتياجات الممنوعة" لدى ديبورا كيلش أو ما يمكننا إدراجه بندا ضمنيّا في عقود العمل المأجور، وما لا مفرّ للطبقة العاملة منه.[14] أمّا الفِتيش (المتخيّل) فيكمن في تناسي هذا كلّه لحظة الاستهلاك، وهو ما يشير إليه ماركس سريعا في رأس المال بما يعرّفه ب"فِتيش السلعة" .(Commodity Fetishism)[15]تتكثّف هذه الحالة المتخيّلة في تجريد السلعة من الاستلاب الجسدي المقترن بها لنعيش تجربة استهلاك نقيّة من الهموم العمّاليّة، ولنبلغ نشوة الملكيّة الخاصّة دون أن نستشعر بصمات، أيدي، ووجوه الطبقة المغتربة عن ذاتها. وبكلمات بيير بورديو "بين "شانيل" وعلامتها التجاريّة تقبع منظومة كاملة من علاقات القوى المجتمعية"[16] ولو أنها غير مرئية ومحجوبة عن وعينا المستهلك.

في عودة إلى التناسي، بتعريفه للفتيش يتناسى ماركس التشييء المعاش داخل العمل المنزلي غير المأجور كما أنه خارج الواقع المادي المباشر. بالطبّع، تختلف صورة عاملة المنزل عن عامل المصنع، فهي أفظع بكثير! عدا عن اختلائها في الحيّز الخاص، لا من دوام محددّ ينهي من استغلالها ولا تنال حتى من أجور بخسة تنقلها من حالة استعباد تقليدية إلى استعباد حديثة، هذا إلى جانب اغترابها هي الأخرى تحت وطأة العمل المأجور في الرأسمالية الحديثة، فكيف لهذا كله أن يكون مدعاة للتغافل والتناسي بدلا من الحقد المضاعف في وعينا الطبقيّ؟!

بالمرحلة اللاحقة لعمليّة الإنتاج، داخل محرّكات الاستهلاك الجماهيرية يمكننا تشخيص القطب الثاني من الفيتيش.

مقابل تصاعد الإنتاج الصناعي أخذت السّلع تنهال عن رفوف الأسواق، وعندما تخبّطت الشركات الخاصّة في كيفيّة نقل الجماهير إلى الإفراط في الاستهلاك، بدافع الرّغبة لا الحاجة، بدأت تفوح رائحة فرويديّة اخترقت الأسواق بمعظم صناعاتها. مستشار الشركات، ادوارد بيرنيز، كان من أول عقول القرن العشرين التي وظّفت النظريات الفرويدية لتحريك شهوانية الجماهير الجنسية نحو مراكمة الأرباح، فكما ألهمه معلمّه وعمّه سيجموند فرويد بذاته، تحكم الإنسان شهوات لا منطقيّة متأججة تحت السطح قمعتها الحضارة في أوروبّا.[17] انطلاقا من هذه القناعة حثّ برنيز الشركات باستفزاز كبت الشهوات المدروس لتحويلها رغبة عنفيّة استهلاكية تتدفّق عبرها الجماهير نحو سد نهم السوق التوسّعي. يتمظهر ذلك جليّا في الخطاب البصري التسويقيّ حيث تُبثّ تعليمات يوميّة في تأجيج جنسانية الجسد المستهلك. 

على سبيل المثال، عندما سعت الشركات الأمريكيّة في خمسينيّات القرن الماضي لتسويق السجائر للجمهور النسائي واجهت الحظر الاجتماعي الذي منع النساء من التدخين في الحيّز العام. للتخلّص منه ولتكسب شريحة مستهلكة جديدة، نصح بيرنيز اتباع النظريات الفرويديّة وربط تسويق التدخين النسائي بمركزيّة القضيب وبما عرّفه فرويد مرحلة "الحقد القضيبي" أو"Penis envy"[18]، أي مرحلة إدراك الأنثى لدونيّتها الجندريّة أمام الرّجل الذكوريّ المهووس بفحولة متمركزة بالقضيب. بناء على التشخيص الفرويديّ للحقد القضيبي، تم تسويق الفكرة انه مع فعاليّة التدخين النسائيّة تمارس المرأة حالة من التمرّد وتحقيق المصير، محصّلة بذلك القضيب المجازي (السيجارة) الذي لم تملكه قط. في اللحظة المتخيّلة هذه، اي لحظة شراء واشعال السيجارة وسط القناعة اللامنطقية انه بها يستعاد تحقيق المصير، يكون مربط الفيتيش!

  

 من اليسار إلى اليمين: "ننتج سجائر "فيرجينيا"  للنساء بشكل خاص لتفوقهن البيولوجيّ على الرّجال"- عنوان الدعاية التسويقية لشركة السجائر فيرجينيا عام ١٩٦٨. "آمني بنفسك" - عنوان الدعاية التسويقية لشركة السجائر فيليب موريس عام ١٩٥١.

على نفس المنوال، تم تسويق الكثير من السلع، فارتبطت مثلا السيارات بالشهوة الايروسية (الليبيدو) والأنا العليا (السوبر ايغو) الذكورية، وعمل الخطاب البصري التسويقي على ترسيخ الرجولة المستفحِلة والأنوثة المُغَرَّضة، وبالحالتين تأجّجت شهوانية الأجساد المستهلكة لمراكمة أرباح الشركات الخاصة في أنحاء العالم. وهكذا، بمجرّد النّظر الى السّلعة، من إنتاجها وحتى استهلاكها، تتعرّى أمام النّاظرة أجساد مشيّأة في القطب الأوّل ومؤجّجة في الثّاني تخضع كلّها، بتضادّها، لمنظومة واحدة تسلب العمال إنسانيّا لتراكم فائض القيمة من ناحية وتؤجج المستهلكين جنسيّا لتجني أرباح مبيعاتها من ناحية أخرى.

 تناسي الأجساد المغتربة في منظومة العمل غير المأجور والمأجور إلى جانب الاشتهاء المفرط في الاستهلاك ليس بحدث أو حالة عابرة، إنما هو لازمة حسّية يوميّة تتأبّد في الأيديولوجيا الجمعيّة المتشكّلة على يد وفي خدمة الطبقة المسيطرة.[19]

 
من  " الهومو ساكرإلى  "الهومونورماتيف" !

لا تكتفي الرأسمالية في استحكام التسلط الأيدولوجيّ فلها وقعها على الممارسات والهويّات الجمعيّة كذلك. وبعدما صعّد النظام الرأسمالي الإنتاج الصناعي والاستهلاك الجماهيري وتيرة وكمّا، لم تعد الغريزة الجنسية رهينة إنتاجية، ووهنت الدوافع الماديّة للحفاظ على العائلة كبنية مركزية تكترث بها الرأسمالية الحديثة.[20] فسلطة عائلة، كسلطة الدين والدّولة، كينونة متغيّرة، لا تتحرّك الرأسمالية قدما بدافع الحفاظ عليها، فهي غير ملتزمة لها ولأي من أدوات الإنتاج طالما لم تعد في خدمة مصالحها ومساعيها. وكما تنبّه ماركس وانجلز إن النزعة نحو التراكم تعني إعادة صياغة المؤسسات التي خلقتها الرأسمالية بنفسها، وأنه “لا يمكن أن تحافظ البرجوازية على بقائها دون إدخال تغييرات مستمرة على أدوات الإنتاج، وبالتالي على العلاقات الإنتاجية ومعها العلاقات الاجتماعية بأسرها".[21]

قد لا ندرك مدى تأثير أدوات الإنتاج الاجتماعية على ممارستنا إلا عند زوالها. في الوقت الذي لم تعد العائلة المغايرة شرطا وجوديا للطبقة البرجوازية ومأوى لرأس المال، أتيح انتظام الميول المثلية لهويات فردية في الحيّز العام لمدن العالم الشمالي على الأقل. ومثلما بيّن جون ديميليو في "الهوية المثلية والرأسمالية"، سمحت الرأسماليّة الورديّة بالتنظيم الهوياتي المثلي الأمريكيّ، لا بل يمكننا هنا القول انها احتوته ومدّت قوس القزح من سان فرانسيسكو وحتى تل أبيب. بينهما، نتجت حالّة تسمّيها ليسا دغان بال"new homonormativity"، أي المعياريّة المثليّة الجديدة، وهي تقبّل الهويات الانسيابيّة الجنسيّة والحركات الكويريّة على شرط اتّباعهم نهجا ثقافيا غير مسيّس، وسقفا مطلبيّا يمكن الاستفادة من سلعنته وتسويقه. وهكذا، يُنقَل الهومو ساكر الى بوتقة جديدة من الهومونورماتيف. وبخلاف مع ديميليو، لا نساوي بين الهويّة والميول المثلية، إذ إن الأخيرة كأي ميول ايروسيّة، ليست بنت مرحلة تاريخيّة أو مجتمع ما، هي جزء دائم في المجتمع البشريّ وذلك بغضّ النّظر عن مدى إقصائها خارج الحيّز العام أو حتّى عن إمكانية ممارستها، بالمقابل يتوّلد الانتظام الهويّاتي كتعبير اجتماعيّ عند لحظات اللقاء ما بين علاقات القوى الجمعية والشروط الماديّة المتغيّرة عبر التاريخ. 

ليس المراد هنا التقليل من إنجازات الحركات الكويريّة الراديكاليّة وإلغاء تأثيرها، ولا يجوز تناسي رهاب المثليّة الملازم للعالم الشمالي المعاصر، لكن رصد سياسات وصناعات الاحتواء الرأسماليّة وفهم محرّكاتها هو ما لا غنى عنه في العمل التحرّري أينما كان.  

وما يسترعي الانتباه، هو استمرار جدليّة التناقض ما بين الرأسمالية الحديثة والأسرة بهيئتها الجديدة. من جهة، تفكّك الرأسمالية الدعائم المادية للأسرة متيحة مساحات جديدة خارجها، ومن جهة أخرى تحفظ  مكانتها من حيث هي مضخّة الجيل العامل القادم. لكن بالنهاية، مازالت مخلّفات الأسرة الأيدولوجيّة مرسّخة عميقا في العقلية المجتمعية، ومنذ تأسيس الأبوّة الاستعماريّة على يد "الآباء المؤسسين" (The founding fathers) وحتّى اليوم، ظلّت للعائلة مكانة رمزيّة ذات أهمية بالغة. دلالة على ذلك عندما سئل المرشّح الأمريكي للانتخابات الرئاسية جون ميكين عمّا إذا كان باراك أوباما عربيّا أجاب ميكين بنبرة المتنافس المتعالي على المنافسة "كلا، أوباما ليس بعربيّ، هو رجل عائلة جيّد".  

المرشّح  للرئاسة الأمريكية جون ميكين في إحدى ندوات حملته الانتخابية ١١ تشرين أول ٢٠٠٨

الجسد الفلسطيني: صنع محليّ؟

قد يكون مغرياً للبعض سلخ الحالة الفلسطينيّة عن المشهد المعولم والاستفراد بخاصيّتها الاستعمارية-الاستيطانيّة وبميّزاتها التاريخية، فتكون بناها التحتية أو تفاعلاتها مع النظام الرأسمالي مبعثا للملل، وتشوب مقارنتها بنماذج أخرى في العالم الجنوبي شيئا من التكفير، وكأن مسألة الحفاظ على تفرّد القضيّة الفلسطينية أصبحت أهم منها. وبحالنا، الإغراق في الخاصيّة الاستعماريّة وعزلها المصطنع عن حوافزها الاقتصاديّة وعن كونها جزءا من نظام عالميّ يستدعي الهدم الكلّي، يُضبّب الواقع  وينأى به أكثر عن بصيرتنا. 

لا جدال حول وقوع الجسد الفلسطيني فريسة الكيان الصهيونيّ كونه نظاما يجمع بين مطامع اقتصادية ومساعي استيطانية، إذ لا يكفي افقار الفلسطينيين الممنهج، واستلاب أراضيهم، واستغلالهم كأيدي عاملة رخيصة، فكانت ولا تزال هناك ضرورة لعمليات إبادة، وتهجير، ونهش جسدي ومعنوي مستمر، ليس فقط كأداة إرهابية ضبطية مثل أي نظام قمعي، إنما كشرط استيطاني أساسي. لكن لبنية الاستعمار الرأسمالية تأثيرات جسيمة أيضا على الجسد المستعمر، وبسياقنا على جنسانيته كذلك.     

إذا في عالم يسوده نظام رأسماليّ كونيّ التأثير هل من اختلافات جوهرية بين أجساد "الغرب" و"الشرق"؟ وإن وجدت، ما هو مداها؟ هل للجسد المستعمَر رواية ذاتيّة خاصّة؟ ماهي ومن يرويها؟

بداية، علينا التأكيد بأن الرأسمالية لا تتّخذ هيئة متجانسة في توسعيّتها الجغرافية، ولا تتناسخ عبر انبساطها ثقافات متطابقة أو أنسجة اجتماعيّة متماثلة، فكما يشدّد تشيبر فيفك لا يجوز استبدال كونيّة التأثير الرأسمالي على المجتمعات المستعمرة بالتجانس الثقافي.[22] ما يرغبه رأس المال عندما يتوسّع جغرافيا هو إخضاع آليات الإنتاج الاجتماعي بما يلائمه وظيفيّا لا غير، وهذا وحده كافي أحيانا كثيرة لإحداث تغييرات ملحوظة في أبعادها الاجتماعية والطبقيّة وإن لم تتطابق بالحذافير لتنصهر في قالب واحد معولم.

في العالم الجنوبي، ومع صعود الموجات الاستعماريّة والرأسمالية، خُلِقَت محميّاتٌ اقتصاديّة محاصرة ومهيّئة لامتصاص الاستهلاك وتوفير الموارد وإفراز الأرباح. لم ينته التّاريخ كما يدّعي فوكوياما، بل أخذ يروي انتصارات السلطات البيضاء التي هرولت "لإنقاذ" دول الجنوب المتأخرة والرجعية من "الانتخاب الطبيعي" في العالم المعاصر، وراح يسرد عن مستعمرات أقيمت باسم القيم الأخلاقيّة، والديموقراطية، والتقدميّة العلمانيّة. ما كان ذلك بالواقع إلا إقحاماً ممنهجاً لمشاريع تجارية استعمارية ومأسستها عبر آلة الدولة القوميّة الحديثة. ومع إعادة رسم حدود الجغرافيا المعرفية في السيّاق الاستعماريّ الرأسمالي الحديث، يقترن الإنتاج الكولونيالي بالإنتاج الرّأسمالي الإمبريالي اقترانا بنيويّا، تقوم من خلاله الأنظمة الاستعمارية وال "ما-بعد استعماريّة" بضبط اقتصادي محكم لكل من الموارد الطبيعية والبشريّة: الضامن الأساسي والمركزي لصيانتها وإعادة إنتاجها. وفي فلسطين أضعف ذلك الإنتاج المحلّي وقضى بالكامل على أي محاولة لتقرير مصير جمعيّ يتجاوز الحكم الرئاسي الوظيفيّ.

هذه البنية التبعيّة هي أحد الأركان الأساسيّة "لنمط الإنتاج الكولونياليّ" بتعريف مهدي عامل، بمعنى أنه في السياق الاستعماريّ يرتطم نمط الإنتاج بصيرورة تشكّل مأزومة مستمرّة  تعود لبنيته الاقتصادية الملجمة بتبعيّة إمبرياليّة.[23]  فخاصيّات الاقتصاد الاستعماري بتحويل الفلاحين لعمّال موسميين بالأجرة، وإعاقة البروليتاريا الصناعية، الى جانب غياب طبقة رأسمالية صناعية، ليست بسمات من التحرّر الاقتصادي والإفلات من سطوة الرأسمالية بل هي امتدادات مشوّهة لها، تنقشع بوضوح في الفضاء المستعمًر وتصيغ التحرّكات المجتمعية داخله.

بالفضاء الفلسطيني تحديدا يحبط هذا المدّ الرأسماليّ الكولونياليّ إيقاع التشكل الحداثي داخله ويبطئ، تغيّرات المجتمع الرأسمالي إلا ان هذا لا يعني أنه ينفيها أبدا. وبالتالي، لا يستوقف الجسد الفلسطيني، كجسد مستعمر تأثيرات الرأسمالية الكونية. ولنا بذلك أن نستشفّ بعدين مركزيين يصقلان الجسد الفلسطيني المستعمر جنسيّا وجنسانيّا وهما النمط الأسري والحيّز الرّيفي. 


النمط الأسري المستعمَرَ

كما سبق وذكر، تحدّد البنية الأسرية التخوم الجندريّة لأدوار أفرادها، انصاعوا لها أم تمرّدوا عليها، كما وتهندس أدائيات المجتمع الجنسانية وتقوم بعمليّة تنميط سلطويّة على صعيدي الممارسة والأيدلوجيا. بالحيّز الفلسطينيّ، تدّعي الأصوات الناقدة للسلطة الأسريّة وتلك المناصرة لها ادّعاءً مشتركا وهو أن العائلة والعشيرة الفلسطينيّة وحدة متراصّة يتعزّز تماسكها التقليديّ في وجه الاستعمار الحداثيّ. فالاعتقاد السائد يرى بالنمط  الأسري الفلسطيني إرثا شعبيّا حيّا ذا جوهر ثقافيّ جامع للطبقات يقابله ضخّ ثقافي مضادّ يتدفّق من صلب السلطة الاستعماريّة الرأسمالية. الّا إن هذه النظرة ليست دقيقة فهي تتعامل مع العائلة  كمتحجّر لا يتفاعل إلا وبيئته المحليّة، وتعتبر الأسرة الفلسطينية سدّا منيعا أمام الحداثة والغرب، لا أداة إنتاج اعتمدتها الرّأسماليّة نفسها وأدلجتها عميقا في ذواتنا. ذات الرأسمالية تطلّ الآن من جديد بزيّها الحداثيّ لتهدّد ما ثبّتته من ملاذ أسري وما حسبناه من صنعنا نحن.

ليس هنالك ثمة شكّ أن لعمليّات التذرير المجتمعي التي ينتهجها الاستعمار الصهيونيّ ولسياسات التجريد الماديّة والمعنوية المستهدفة  للفلسطينيين وقعاً مباشراً على أجسادهم وفهمهم لها. إن الانكماش العشائريّ والاستفحال الرجولي، نتيجة مباشرة لحالة فقدان ماديّة ومعنوية تعيشها الرجولة المستعمَرة، والتي تجرّد الجسد من استقوائه الذكوريّ (تؤنّثه) في الحيز العام وتستفزّ ما يتبعه من استنفار دفاعيّ يتم تفريغه في الحيّز الخاص، هناك حيث لا من محاسبات ولا من قيود تذكر. وهذا تماما ما يبتغيه الاستعمار في سرّه، فبحال لم يندمج المستعمَرين عبر الأسرلة، من الأفضل أن ينشغلوا بانتماءاتهم الآخذة بالانقسام كانت جغرافية و\أو حزبية و\أو طائفية و\أو عشائرية. وبالنسبة للرجولة الفلسطينية المستفحلة فهي بمعظمها أداء مسرحيّ بالنسبة للكيان الصهيوني; لا يهدّد الاستعمار فتل الشوارب، ولا تربكه العنترة في الشوارع، وبالتأكيد لا يقلقه قتل أو تعنيف النساء الفلسطينيات، بل هو ما يدفع نحوه تعزيزا لشرعيّته السياسية في "تحرير الفلسطينييّن من تخلّفهم العرقيّ".

إلا أنه حتّى مع هذه الانكماشات نحو الدّاخل والتعصّب العشائري الموطّد من قبل الاستعمار لا تحافظ الأسرة الفلسطينية على شكل ثابت ولا تنفذ من تأثيرات الرأسمالية ونظام العمل المأجور. بالتالي لا يدلّ تمسّك الخطاب المجتمعي بالأسرة بالضرورة على صلابتها بل يكون في الكثير من الأحيان ردّا مدافعا عن ضعضعتها. إنّ تشكل التصدّعات في البنية الأسريّة التي أحدثتها الرأسمالية الحديثة في السياق الاستعماري يعمل ببطئ مقارنة بما نشهده في دول الشمال كما أمريكا، لكنه في صيرورة ظاهرة للعيان تتضّح أكثر بالمدن وأِشباه المدن في فلسطين. ومن هذا التصدّع الأسريّ ترصد لنا الإحصاءات في العقد الأخير وفرة من الدلائل، فشهدت الضفة الغربية وقطاع غزّة انخفاضا في نسب المتزوّجين مصحوبا بارتفاع في نسب الذين لم يسبق لهم دخول مؤسسة الزواج قط، فقد انخفضت نسبة المتزوجين من الرجال عام  ١٩٩٥  من   ٥٦.٣  إلى ٥٤.٨ عام ٢٠١٠ انخفضت لدى النساء  من ٥٩.١ عام ١٩٩٥ إلى ٥٦.٥ عام ٢٠١٠.[24]  أما بالنسبة لعدد حالات الطلاق المسجلة في المحاكم الشرعية في الضفة والقطاع (دون رصد حالات الانفصال)، فبلغت ٨١٧٩ في عام ٢٠١٥ و ٧٦٠٣  في عام   ٢٠١٤ مقابل ٣٤٤٩ عام ١٩٩٧.[25] وفي أراضي ال٤٨ شهدت نسب الطلاق ارتفاعا نقلها من ٦.٣٪ عام ٢٠٠٢ إلى ٧٪ عام ٢٠١٢ (بحيث أن نسب الطلاق لدى الإسرائيليين تصل ال٩٪).[26] وفي صحراء النقب تحديدا، حيث تعمل آليات إفقار شرسة ومستشرية، كشفت معدلات الولادة الأخيرة عن تراجعا حادا من 8.7 في 2001 حتى 5.3 في 2013. في ذات الفترة، وسط ظروف مادّية نقيضة، ارتفع معدل الولادة الإسرائيلي من 2.5 إلى 3 ولادات.[27]

في ضوء المذكور، يقع الاستعمار في ورطة تضع مطامعه في شيء من التناقض، فيستفيد من تدعيم الانكماش الأيدولوجي العشائري الفلسطينيّ من جهة، ومن جهة أخرى يحثّ على تفكيك الترابط الاجتماعي بما يخدم منفعته الديموغرافيّة،  فيقونن منع لمّ الشّمل، ويدفع نحو تخفيض معدلات الولادة . ولربّما أن تكون العقلية الفلسطينية موبوءة في التعصب العائلي وأن تلازمها في ذات الوقت ممارسات فعالة من التفكّك المجتمعيّ هي شهوة أخرى من شهوات المخطّط الصهيونيّ.  

تماشيا مع كل ذلك، يستمرّ تمظهر الوقع الرأسمالي الحديث في خصخصة الحيّز الخاص الفلسطينيّ وتسليعه. فما يمكن رصده في الطبقات الوسطى بشكل خاص هو أن اجتذاب المرأة الفلسطينيّة للعمل المأجور، كضرورة مادّية وليس كخيار تحرّري، إلى جانب عملها غير المأجور ولّد فجوات إنتاجيّة في الاقتصاد المنزليّ حيث أن التوفيق بين ما يستغرقه العمل المأجور وغير المأجور من وقت وطاقات أصبح استحالة مطلقة. وما إن تتوّلد هذه الفجوات الإنتاجية في يوم المرأة العاملة تهرول الرأسمالية في سلعنتها، فتشرع الشركات في خصخصة الحضانات وخدمات النظافة والطبخ معتمدة على عمالة نسائيّة رخيصة تنتهز بواسطتها فرص متجددة من مراكمة الأموال.

وفي ظل إضعاف السلطة الأسرية في فلسطين وفي الإقليم تتموّه حدود الممنوعات وتُخلق مساحات جديدة، ولو صغيرة، يمكن للجسد بها أن يهجر تعليمات الرجولة والأنوثة الملتزمة. لذا لا يفاجئنا اضطرار شخصيّة قياديّة محافظة كحسن نصرالله لتداول التفكّك الأسريّ علنا والتحذير مما يصدّره الغرب ك"ثقافة المثلية التي تعمل على منع تكوين العائلة". الملفت للانتباه بخطاب نصرالله هو أولا استخدامه غير المتكلّف لزوج الكلمات "العلاقات المثليّة" كمن ينتقيهما بكامل الأريحية من خزينته اللغويّة، وثانيا اختيار توقيت خطابه في منتصف آذار في "يوم المرأة المسلمة" أياما بعد "يوم المرأة العالمي". لسبب ما، جهله أم تفطّن اليه، لم يعتبر نصرالله أياً من هذا منطقاً غربياً دخيلاً على طهارة نواياه.

بعيدا عن دواخل حسن نصرالله، هناك، كما هو واضح، انشغال سياسيّ (لحزب الله) بالتفكّك الأسري. وكيف له ألا يكون عندما تشكّل القبليّة أسسا صلبة في بناه الحزبيّة فلا يكون حرصه على التماسك الأسري إلا درءا لزعزعة هيكليّته الحزبيّة ولا سيّما سلطة الأنظمة الداعمة له. لسنا بحاجة للاجتهاد الفكري للمقاربة بين مصطلحات نصرالله وتغطيات النظام الأسديّ الإعلامية إبّان الثّورة السورية عام ٢٠١١، وخير مثال هو أحد الشعارات التي نصت على أنّ "التماسك سر البقاء: الاحتجاجات لم تنجح في تفكيك عائلة الأسد".[28]

كلمة حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، في مناسبة "يوم المرأة المسلمة" المتزامن مع ذكرى ولادة الزهراء في ١٨ اذار ٢٠١٧.

نهاية، فيما يخص النمط الأسري المستعمر من المهم أن ننظر إلى العوامل الجندريّة والطبقيّة وتأثيراتها المعقّدة على سلوكيّات المأسسة في كل من الزواج والإنجاب، بحيث أنه يمكننا التعميم إلى حدّ ما أن غلاء المعيشة وثقل العمل المأجور يؤخرّان جيل الزوّاج بشكل ملحوظ في صفوف رجال الطبقات العاملة مقابل أبناء الطبقة البرجوازيّة وأصحاب قدرة تمويل الزوّاج في سنّ مبكرّ نسبيّا.[29] في هذه الأيام نكاد لا نرى نفس الإقدام لأبناء الطبقات المفقرة على الزواج حتى منتصف عشرينياتهم إلا إذا حثّت عائلة الزوجة على ذلك وكانت قادرة على الدعم المادي. وهذا أيضا ما لحظناه في انخفاض مستويات الإنجاب الحادّ في آخر عقدين،[30] فالكلفة البشرية والطبقية كافية لتغيّر الأنماط المجتمعية دون وسيط. أمّا في الشقّ النسائي، فتختلف الصورة بعض الشيء، إذ إنه ضمن الارتفاع الكلّي لمعدلات سن الزواج لدى النساء ما انفكّت  نساء الطبقة العاملة تتزوّج في سنّ يسبق نساء الطبقات الوسطى والبرجوازية بفرق واضح، وذلك لأسباب عدة لن نخوضها هنا لكن أهمها هو ارتهان نساء الطبقات المفقرة في الاقتصاد المنزلي وتعلّقهن النسبيّ في دخل السلطة الأبوية وبالتّالي تحوّلهن إلى عبء مادّي يُخفّف عند الزواج.       


المدينة المفقودة: المشهد الرّيفي الفلسطينيّ

وسط هذا التناقض الصيروريّ بين الأصالة والحداثة أو بتعبير مهدي عامل "بين الأمانة للذات والأمانة للعصر" يعلو شبح المدينة المفقودة ويطوف مضطربا داخل الوجدان الفلسطيني الجمعيّ. فالانعطاف التاريخيّ الذي أحدثه الاستعمار نزع الفلسطينيّ عن بيئته الزمكانيّة وسلب منه وعود المدينة الفلسطينية، وإن كانت متخيّلة. ومن خلال إجهاض المركزيّة التجاريّة للمدينة الفلسطينيّة، ونهشها ديموغرافيّا، وعزلها عن المدن والعواصم المحيطة بها، نتج مشهد عمرانيّ ريفيّ محاصر يتوسّع بتعداده السكّاني مكوّما المزيد من الاسمنت دون أن يبلغ التكوّن الحداثيّ للمدينة. وهو الأمر الذي أنتج عقدة ريفية جمعيّة أصابت المخيّلة الفلسطينيّة فغزتها أحلام تحت عنوان "لو لم تحصل النكبة"، واعتلتها أيقونة حداثية متخيلة ليافا ولحيفا تتبعها أحيانا أمسيات رومانسية على ساحل بيروت.

إن غياب المدينة الحديثة كما في رام الله ونابلس وغزة إلى جانب فقدان السيادة على حيّز المدن المستعمرة كيافا وحيفا وبئر السبع، يلعب دورا مركزيا فيما يتيحه الفضاء من تحرّكات اجتماعية وما يفسحه من مجال ينعتق فيه الجسد عن سلطة الرقابة الريفية. لكن في الاحتدام الحاد بين المدينة المتخيلة والواقع الريفي تنشأ حالة مركّبة يعيشها الفلسطينيّ والفلسطينيّة. ورغم تداعيات الغربة الموجعة في الوعي الفلسطينيّ يتوق الجسد أحيانا للذّوبان في صخب المدينة والاغتراب داخلها. يعود ذلك للاغتراب المعاش بالمدينة ولتجربة الخلاء النفسي الذي يمكن للذات به أن تختبر حدود أدائياتها وتتمرّد عليها أو أن تتقمّص أدوارا جديدة وتطلّ بهيئة مختلفة بعيدا عن مُشاهِد يعرفها وعن تكلفة اجتماعية تتكبّدها. وحتى عندها قد تلازم أجساد الاستثناء حالة من هوس المراقبة فتتسلّح الكثير من الفلسطينيّات مثلا بنظرات متفقّدة تتفحص الحيّز قبل ان تسلّم نفسها له. لكن مع هذا "النعيم الحداثي"، وفي المدن المستعمرة الأكثر حداثة في فلسطين، باللحظة التي تنتقل هذه الأدائية لحالة جمعية مسيّسة تهدّد أركان السلطة الرأسمالية الاستعمارية تهديدا مباشرا، تعود الأجساد فورا إلى خانة الهومو ساكر فيسترجع الاغتراب طعمه المرّ، وتستعيد التكلفة دمويتها.   

من هنا، لا يتماثل ظاهر الشيء بماهيّته. وما شعور التفوّق على منظومة الرقابة إلا وهما تنتجه المنظومة بنفسها. يكون المنطق الرقابي وراء الهندسة المعمارية للمدينة الحديثة ووضعيّة الأجساد المستعمرة فيها شديد الاحكام. بمعنى أن تقسيمات الشوارع، والإنارة، والتحريش، وإحداثيات المراكز التجارية، ومراكز الشرطة، وتقسيمات الأحياء الطبقية-عرقية كلها، لا تكون منثورة عشوائيا كما في عمل فني ما بعد حداثيّ، بل هي مدروسة ومعتمدة تعزّز ضبط ورقابة وربح السلطة الاستعمارية على ومن الأجساد داخلها. دون تجاهل ذلك، في العالم الرأسمالي اليوم بوسع المدن استقطاب بما يكفي من العمال والطلاب لتتكون، بظل ظروف وقضايا جامعة، حالة غليان شبابيّة تدفع نحو إنتاج ثقافي وسياسيّ أكثر غزارة وانتشارا من ضواحيها. يمكن ملاحظة ذلك بانعكاسات محدودة في المدن وأشباه المدن بفلسطين. وبالنسبة ليتامى "المدينة المحرّرة" في فلسطين، ظلت المدينة ممتحفة مجمّلة في حيّز فوق زمني يجوب طيفها الرّومانسي عبر المسرد الثقافي الفلسطيني حتى يومنا هذا. 


تابوت الخاتمة

كثيرة هي الأدبيات الما بعد حداثية التي قدّمت قراءات في الممارسات والهويات الجنسية على طبق ثقافوي يتخذ بنى الثقافة الفوقية انطلاقةً ومصبّا للتحليل، ويكتفي بحركة نقد دائريّة مأسورة في الإفرازات الثقافية للمجتمع بوصفها "المحرّك الأساسي لصراعات القوى".[31] إلا أن القناعة أن الجنسانية تتمفهم، على نحو حصري داخل صيغتها الثقافية ما هي إلا ضربا من الهذيان، تعرقل مسيرتنا المعرفية التحررية وتعيق إدراكنا لقدرتنا على الإدراك. وبسبيل الخلاص المعرفي، عندما نلجأ إلى بعض الكتابات التنويرية والتحليلات المادية المعاصرة، نكتسب منها  تأسيسا هاما في التحليل الاقتصادي، لكنّها غالبا ما تكون مصابة بفقر نسويّ عندما، أو بحال، تطرّقت للجنسانية، فإما تموضع العمالة النسائية والحيز الخاص على هامش الرأسمالية، أو تَغفل دور الرجولة المغايرة في الحفاظ على الهيمنة الاقتصادية، على الأقل حتى أولى مراحل الرأسمالية الحديثة. 

بالواقع، يؤكّد لنا الإمعان التاريخي الجينيالوجي للجنسانية، أنه لا يمكننا إلا أن نعزوَ أساس التحركات المجتمعية المجنسنة للعوامل الاقتصادية والقواعد المادية المنظمة لها. إن أنماط الإنتاج ببناها التحتية، وتقسيم العمل الناجم عنها، وإن كانت تبدو غير مرئيّة، تؤثر تأثيرا ملموسا على المفهمة الديناميكية (المتغيّرة) لشهوات الجسد، والأدائيات الجندرية، وما يتبعها من عمليّات مأسسة، وآليات صهر للهويات المنبثقة عنها. لا نقصد بهذا وصف القواعد المادية قالبا مجمّدا لا-تاريخيا أو إلها مُنزلاً ذا قدرة حسم اجتماعية  مطلقة. على العكس تماما، على تحليلنا أن يكون نقديّا حيّا يتتبّع عمليات التفاوض والتناحر الجارية عبر الصراعات المجتمعية وانعكاساتها، كانت مباشرة وفورية أم آتية وفي قيد التشكل.

وبسياقنا الفلسطينيّ، يتخبّط الجسد الجنوبي، بين النظام الرأسماليّ الحديث والسلطة الاستعماريّة بكلّ تجلياتهما، فقد تظهر تناقضات داخل حركة التفاعل ما بين مدّ السياسات الاستعمارية وجزر كونيّة التأثير الرأسماليّ لكنّها لا تكون اختزاليّة، بمعنى أنّ الأولى لا تأتي نفيا للثانية، فعلينا أن نعي أنه لا من تضادّ بنيويّ بين جوهر الرأسماليّة العالمية وأذرعها الاستعمارية في المنطقة.

وبمساعي التحرّر منهما تبرز ألغام أيدولوجيّة تارة وتكتيكيّة تارة أخرى، فترسو نفس التساؤلات المزمنة في أولويات التحرر، أو بالأحرى ثانوية المسائل الاجتماعيّة والطبقيّة أمام "السياسيّة" بتعريفها الضيّق.

وبينما تحتدّ التحسّبات حول حدود الاستفزاز المجتمعيّ المحمول وذاك المرفوض دون أن يكون هناك استفزاز مطلوب، يتم إلحام الفكر النسويّ المسيّس بالدّاء النخبويّ ليخفت صوته خجلا ويطأطئ رأسه تواضعا قبل تجذيره عملا سياسيا تعبويّا. وكأن محاكاة القمع الذكوريّ في صيرورة التحرر الوطني لا تمت لتجارب المجتمع بصلة، أو أن الجسد الشعبي هو جسد فوق جنسانيّ له رواية واحدة متجانسة لا يحتقن داخله قهر نسوي أو حقد طبقي في يوميات معاداته للاستعمار.

بالحديث عن "الفكر الناقد" و"العمل السياسي الجذريّ" ليست القضية في التعابير المختارة ولا في مداها اللغوي، بل بالمعنى المفاهيمي الذي تحمله وبرؤيتها التحريضية نحو عملية تحويل ثورية لبنية علاقات الإنتاج القائمة. إن الهدم الشامل للاستبداد الاستعماري يستلزم فكرا ناقدا قادرا على فهم سلطويّة نمط الإنتاج الرأسماليّ ووكلائه وعلى شحذ الوعي النسوي-الطبقيّ كقوّة دفع للنضالات الشعبيّة وكحجر أساس في الصراع الأيدولوجيّ ضدّ العقيدة الصهيونيّة.    

عند دقّ المسمار الأخير في تابوت الخاتمة، سنختار ألا ننهي بمقولة مهدي عامل المستهلكة "إما إن يكون الفكر نقديا وإما أن يكون مخصيّا" ولن نكون قاتلات للبهجة بالتساؤل عن مصدر الهوس الذي ما زال يصرّ على ربط الإخصاء الذكريّ بالعجز الفكري، بل سنكتفي بما ورد في السطور السابقة وما تقدّم بينها.     


هوامش
 

[1] بحسب فرويد إن "كافة الطاقة التي ينطوي عليها الجهاز النفسي إنما تصدر عن الغرائز والدوافع التي فطر عليها الإنسان". فرويد، سيغموند، ما فوق مبدأ اللذة، ترجمة: اسحق رمزي، دار المعارف، مصر. ص29

[2] انجلز فردريك(2011) ، أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدّولة، ترجمة أديب يوسف شيش، دار التكوين، دمشق. ص١٧. 

[3] لغز عشتار: الألوهة المؤنّثة وأصل الدّين والأسطورة، دار علاء الدّين، دمشق. ص٣٥

[4] السواح،فراس ، لغز عشتار: الألوهة المؤنّثة وأصل الدّين والأسطورة، دار علاء الدّين، دمشق. ص٣٨ و٣٩

[5] في كتابهما الأيديولوجيا الألمانية يؤكّد ماركس وانجلز انّ الانتقال من الاقتصاد الجماعي للفردي و"انفصال المجتمع الى أسر مفردة متخالفة، يتضمن بصورة متزامنة توزيع العمل ومنتجاته… وبالتالي توزيعا غير متكافئ للملكية" . انظري: انظر ماركس، كارل، وانجلز فريدريك (2016)، الأيديولوجية الألمانية، ط1، دار الفارابي، بيروت. ص52

[6] Federici, Silvia. 2014. Caliban And The Witch. 1st ed. New York: Autonomedia, p.63-64.

[7] John D'Emilio, Capitalism and Gay Identity, from Powers of Desire: The Politics of Sexuality, edited by Ann Snitow, Christine Stansell, & Sharan Thompson. 1983. New Feminist Library Series. New York: Monthly Review Press. p104.

[8] دليبانو، باتريسيا (2012)، العبودية في العصر الحديث، ترجمة: أماني حبشي، ط1، دار كلمة، أبو ظبي. ص89

[9]انظري هامش ٨، جون ديميليو، ص١٠٣.

[10]  Agamben, Giorgio. 1998. Sovereign Power And Bare Life. 1st ed. Stanford, Calif.: Stanford University Press.

[11] Hennessy, Rosemary. 2000. Profit And Pleasure. 1st ed. New York: Routledge,p38.

[12]"Theorizing Women's Oppression - Part 1 | International Socialist Review". 2017. Isreview.Org. http://isreview.org/issue/88/theorizing-womens-oppression-part-1.

[13] لا نقصد هنا بالفيتيش بالتعريف الفرويدي المتعلّق بعقدة الابن حول اختلاف جنسانية أمّه الجسديّة مقارنة بجسده. للمزيد انظري: Freud, Sigmund, and Philip Rieff. 1997. Sexuality And The Psychology Of Love. 4th ed. New York: Touchstone.p150-155

[14] Hennessy, Rosemary. 2000. Profit and Pleasure. 1st ed. New York: Routledge, p228.

[15] Marx, K. (1915). Capital, Vol I. Chicago, IL: Charles H. Kerr. p81.

[16] Bourdieu, P. (1993). Sociology in question. London: Sage. P. 138.

[17]Freud S. (1985), Civilization and its discontents. Penguin Freud Library, Vol 12.

[18] Sigmund Freud, On the Sexual Theories of Children, 1908.

[19] باستلهام عن ألتوسير يدّعي مهدي عامل أن الممارسة الأيدولوجية المجتمعية هي بالضرورة ممارسة الفكر المهيمن والمتسق مع مصالح الطبقات البرجوازية. يحمل هذا الادعاء إشكاليات عدة لا نريد إلا التحفظ من أهمها وهي أننا لا نقصد بذلك غياب الوعي النسوي والطبقي عن الجماعات المقموعة (بسبب هيمنة أيدولوجيا السلطة) بل نقصد أن لصهر السلطة الأيدولوجيّ وقعاً يومياً على تاريخ الممارسة البشرية لا يمكننا إلغاؤه وغض النظر عنه.  عامل،مهدي(1985)، مقدّمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرّر الوطني، دار الفارابي، بيروت. ص٦٠.

[20] "يرى ماركس أن "استمرار الحفاظ على الطبقة العاملة وإعادة إنتاجها يظل شرطا ضروريا لإعادة إنتاج رأس المال ولكن بوسع الرأسمالي ان يوكل هذه المهمة، باطمئنان، إلى العمال انفسهم متكلا على غريزتي حفظ الذات والتكاثر. انظر: ماركس، كارل، وانجلز فريدريك (2016)، الأيديولوجية الألمانية، ط1، دار الفارابي، بيروت. ص38 وما بعدها

[21]  ماركس، كارل، وانجلز، فريدريك (1975)، البيان الشيوعي، ترجمة: العفيف الأخضر، ط1، دار ابن خلدون، بيروت. ص56

[22]Chibber, Vivek. 2013. Postcolonial Theory And The Specter Of Capital. 1st ed. London: Verso. p 150-151.

[23] عامل، مهدي (1985) ، مقدّمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرّر الوطني، ط4 دار الفارابي، بيروت ص٦١.

وفيما يخصّ مفهوم نمط الإنتاج الكولونياليّ كنمط ذي خصوصيّة إنتاجيّة لا يسعنا إلا نتساءل عن مدى هذا الخصوصيّة. ألا يقوم الواقع الاقتصادي الكولونيالي على أساس طبقي رأسمالي لصالح رأسمالية المركز؟ هل يغيّر شيئا من المنفعة الطبقية باستخراج فائض القيمة؟ لا يمكن أن تحتل هذه التساؤلات في هذا النص أكثر من تنويه على هامشه.

[24] المرأة والرجل في فلسطين، قضايا واحصاءات، تشرين ثاني ٢٠١٣، الجهاز المركزي الفلسطيني، ص ٣٤.

[25]  أي انتقلت من معدل طلاق خام 1.7 لكل ألف من السكان لمعدل طلاق خام ١.٢ لكل ألف من السكان. مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - وفا نقلا عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني

[26] معهد فان لير،  كتاب المجتمع العربي في اسرائيل (٨) شريحة سكانية، مجتمع، واقتصاد. (٢٠١٦) تحرير: رمسيس غرّة.ص ٣٠-٣٤

[27]  ووفقا لتوقعات التغيرات الديمغرافية التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أن نسبة العرب ستنخفض من 21% عام 2016 إلى ما يعادل 19% في حلول العام 2065. معهد فان لير،  كتاب المجتمع العربي في اسرائيل (٨) شريحة سكانية، مجتمع، واقتصاد. (٢٠١٦) تحرير: رمسيس غرّة.ص ١٧.

 [28] https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2011/09/28/194983.html

[29] بحسب إحصاءات الجهاز المركزي الفلسطيني التي أجريت عام ٢٠١٣ والتي مسحت مناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة " ارتفع العمر الوسيط عند عقد القران للذكور في عام ١٩٩٩من ٢٤.١ إلى ٢٤.٦ في العام ٢٠١١، في حين ارتفع العمر الوسيط عند الزواج الأول لدى الاناث من ١٨.٨ عام ١٩٩٧ إلى ٢٠ سنة عام ٢٠١١". المرأة والرجل في فلسطين، قضايا وإحصاءات، تشرين ثاني ٢٠١٣، الجهاز المركزي الفلسطيني، ص ٣٤.    

[30] استنادا إلى نتائج مسح الأسرة الفلسطيني للجهاز المركزي الفلسطيني (والتي لا تنظر إلى العائلة الفلسطينية في مناطق ال٤٨) فقد "طرأ انخفاض على معدل الخصوبة الكلية، حيث بلغ ٤.٤ مولودا للفترة ٢٠٠٨-٢٠٠٩ مقابل ٦.٠ مولودا في العام ١٩٩٧"

انظري:  المرأة والرجل في فلسطين، قضايا واحصاءات، تشرين ثاني ٢٠١٣، الجهاز المركزي الفلسطيني، ص ٣٤.

وفي أراضي ال٤٨، هناك ارتفاع أيضا في سنّ الزواج الأول يمكن ملاحظته في العقدين الأخيرين. وبحسب معهد فان لير الاسرائيليّ ارتفع معدّل سنّ الزواج لدى الرجال من ٢٦ عام ٢٠٠١ إلى ٢٧ عام ٢٠١٢، أما لدى النساء فارتفع من ٢١ إلى ٢٢ في ذات الفترة.

 انظري:  معهد فان لير،  كتاب المجتمع العربي في اسرائيل (٨) شريحة سكانية، مجتمع، واقتصاد. (٢٠١٦) تحرير: رمسيس غرّة.ص ١٧-١٨.                                               

[31] انظري: مقدّمة اشتهاء العرب. مسعد، جوزيف(2014)، اشتهاء العرب، ترجمة: ايهاب عبد الحميد، ط2، دار الشروق، القاهرة. ص21