الكاتب: عبد الله البياري
قراءة نقديّة في رواية "يولّا وأخواته" للكاتب الفلسطيني راجي بطحيش، الصادرة عن دار المتوسط - 2017
ليست الكتابة عمليّة محايدة، وافتراض عكس ذلك يتجاوز مفهوم الكتابة بصفته مفهومًا وجوديًّا للشيء/ الذات. يقول جان جاك لوسركل في كتابه "عنف اللغة"، إنّ "هناك رابطة طبيعية تسلسلية بين القراءة والكتابة والفعل والتدمير". فالعنف في الكتابة، متمثّلًا في "التدمير"، "عنف جسدي كما هو لغوي – عنف دمار العالم، عنف نهاية الوجود"، كما يصفه لوسكرل. "فالتدمير المذكور مصدر ألم ومعافاة في الوقت نفسه، إنّه علاج مؤلم، كما اللغة نفسها، نظيرته، إذ تفعل اللغة وتدمّر أيضًا، للأفضل وللأسوأ". وكما أنّ "الكتابة جسّدت العالم في مكان ما"، فهي، أيضًا، "موضعة محدّدة لفكرة مجرّدة". و"الكتابة "كسلسلة من الإشارات الصغيرة تسير في خطّ منتظم كجيوش النمل، عبر صفحات وصفحات من الورق الأبيض"، باتّجاه فكرة ما، ومكان ما، وجسد ما.
إذًا، الكتابة معادل بنائيّ (هدمًا وبناءً) للهويّة، والسرد شكلها ونتاجها.
إلّا أنّ تلك الكتابة لا بدّ لها من "آخر" يقف مقابل الذات/ الأنا الكاتِبة، والمتكلّمة، واللغويّة؛ وإنّ ما تمارسه من عنف وتدمير بنيويّ، يغدو هو الآخر "مؤلّفًا مضادًّا" لسرديّة الذات/ الأنا المكتوبة، بالقراءة. بكلمات أبسط، القراءة، هنا، إعادة كتابة لما هو مكتوب، وتفكيك ما وقع عليه من عنف وتدمير.
أي أنّ الهويّة بالكتابة والقراءة معًا، علامة سيميائيّة حيّة ونابضة ومتغيّرة، تدلّ على ذات/ أنا/ كينونة مؤجّلة في طور التكوّن (تكتمل الهويّة بالموت، ليُعاد ابتعاثها في دورة هويّاتيّة أخرى، على الأقلّ إلى حين عودة أحدهم من "هناك" ليخبرنا ماذا يوجد بعد تلك الشهقة). اللغة ما يجعل الذات/ الهويّة/ الأنا، وكذلك "الآخر"، كائنات تداوليّة، وهي "المرحلة الأعلى" (بتعبير نيغوني واثينغو) من امتلاك متوالية الهويّة التعبيريّة/ السرديّة: الكلام/ اللغة/ الكتابة.
كلّ هذا يدفعنا للتساؤل: ماذا يكتب راجي بطحيش؟ وكيف نقرأ نصّه، "يولا وأخواته"؟ ألا تُعَدّ قراءة نصّه تواطؤًا بشكل ما أو بآخر، مع كلّ هذا العنف الهويّاتيّ الذي يسجّله؟ أم أنّها إعادة تدمير للتدمير الذي قام به "يولا وأخواته"، وليس راجي؟
******
يقول الكنديّ: "المكان نهايات الجسم، ويُقال: هو التقاء أُفُقَيِّ المحيط والمحاط به". في هذه المقولة – على ما تحمله من تعقيد مبسّط - تتحدّد فضاءات نصّ يولا.
"حقًّا، إنّ الحدود كنصل الموسى، يتوقّف عليها نشوب حرب أو استقرار السلم، وحياة الشعوب أو فناؤها"، هكذا يقول لورد كيرزن، فإذا كان لنا أن نقف على مسام جسم يولا بصفتها "مكان" النصّ، كما اقترح علينا الكنديّ وبطحيش، ونظرنا من هناك إلى حدود هذا المكان، فماذا نرى؟ الناصرة، فلسطين، لبنان؟ لماذا من على هذه المسام انطلقت حرب بيروت ومذابح صبرا وشاتيلا؟ وكيف لكلّ هذه الأمكنة والعنف أن تخترق يولا وجسده؟ ومن هو يولا بكلّ هذه الأمكنة المتسرّبة إليه من مسام جسمه؟ أليس هو وبطحيش، معًا، ضحيّة أخرى لمتوالية العنف والتدمير تلك، حتّى وإن أعقبها بناء؟
لعلّ هذا ما نراه مقولة أساسيّة في الجسد والمدينة كعمليّة تداوليّة من إنتاج الأنا، والآخر، والمكان، والجسد، والمعنى، والرمز في النصّ، بين أيدينا، من خلال عمليّات متعاقبة ومتوالية من التدمير والبناء، تدمير الجسد والمدينة وإعادة بنائهما.
لماذ التدمير والبناء من خلال الكتابة/ القراءة؟
"في الناصرة.. يهبط الخريف على أهله دون مراجع شعريّة.. نصّيّة جاهزة... تُذكر"، يبدأ النصّ، والبدايات هوس النصوص والوجود، ومبتدأ السيطرة على المعنى، بهذه العبارة. تظهر لنا الناصرة بصفتها مكانًا للنصّ والجسد معًا، لكنّها كما الجسد، منتج عنف لغويّ يقع بشكل ما عليها؛ جسدها سلبيّ، غير فاعل، تتحدّد ملامحه وحدوده وفعاليّته من خلال القواميس والشعراء، وفي مرحلة لاحقة، الأجساد وما عليها من رموز، تُبنى وتُهدم.
يقول ليوتار: "يمكن النظر إلى لغتنا كمدينة قديمة: متاهة من الأزقّة الضيّقة، والساحات الصغيرة، ومن المنازل القديمة والجديدة، ومن منازل مع إضافات عليها من حقب مختلفة، ويحيط بذلك كلّه تقسيمات حديثة متعدّدة، بشوارع مستقيمة منتظمة، ومنازل موحّدة الطراز".
إلّا أنّ جموع المهزومين في الناصرة لم يبذلوا "ذاك الجهد الكبير لصياغة قواميس تستخدم تلقائيًّا لوصف خريفها الضائع (...) فلماذا تزرعونني وسط هذا الإسمنت، وتبقوني وحيدة أنتظر؟ تقول شجرة زيتون جريحة، أُصيبت بالصمم (من جرّاء أصوات الصراخ والعويل التي لا تتوقّف، القادمة من المحيط)"، كما تقول الرواية.
هذا العنف اللغويّ الواقع على اللغة والمدينة على حدّ سواء، يتأسّس على الغربة والغياب، غربة أهالي الناصرة عنها نصًّا، وغياب الحكاية، حكاية المدينة. الناصرة مدينة قاموس، فقدت لغتها، وأُصيبت كما غيرها بأمراض الحداثة المتأخّرة، من غربة أهلها؛ "يهبط الخريف على أهلها... دون حاجة لقراءة حكاية غياب ملتزمة بالخسارة... مرّة أخرى... واستخراج مصطلحات وعبارات جاهزة منها".
ما يفعله يولا، البحث بين ركام المدينة، والغياب، والخسارة، عن طبقة أخرى من المدينة/ النصّ، "التي هي ليست لذيذة حتمًا، بقدر ما هي خريفيّة ربّما... في الناصرة... التي لا يحبّها باحثو الموروث الشعبيّ المرجو".
يقول راجي في نصّ سابق له بعنوان "الظلّ والصدى":
من صحراء العباءات البيض...
جسدٌ فارٌّ...
إلى كونٍ يبدأ في الضفّة الأخرى
*****
فتًى يتعرّى من كهّان قبيلته على ضفاف دجلة.
جسدٌ تائهٌ... في مسارات الخلاص الموحشة.
*****
فتًى غضٌّ
يسجد للمدائن... ويهديها فحولته...
حتّى كان ذلك الصباح من نيسان...
والفتى الغرير يهرب...
إلى نزق الموج...
وانكساره...
على أرض مأساة المطر
****
هذا النَفَس الذي يُموضع جسدين متقابلين في اللغة والنص: وهما المدينة والجسد، يتبدّى واضحًا في الفصل الرابع من الرواية، بعنوان "يولا". انتهاك الجسد والمدينة، أو هدمهما، هو حالة انتاج سرديّة قادمة لكليهما، تخضع لكتابة هَدْمِيّة، وقراءة بنائيّة مقابلة، فهذا الفصل، يمكننا أن نعدّه مفتاحيًّا على غرار الأعمال الفنّيّة التشكيليّة والتكوينيّة، التي تتضمّن مفتاح قراءتها/ تأويلها وهدمها. يقول بطحيش في هذا الفصل:
"لا تنس أنّك بنهاية الأمر فلّاح، نعم فلّاح... رائحة جسمك وحل وتبن، اشكر ربّك أنّني أوافق على النوم معك أصلًا، محاولاتك كلّها لتبدو مدنيًّا، فاشلة ومزيّفة، حتّى كلمة ماما التي تنادي بها أمّك أو تذكرها بها تبدو كالشتيمة أو النكتة البايخة وسط نظرات النزلاء الساخرة المستهزئة، وخاصّة بشير ومأمون، أبناء قريتك أو بلدك... لا أعرف ماذا تسمّون هذا الشيء".
هذا الجسد النصّيّ الذي يكتبه بطحيش، ويقدّمه للقارئ، يمثّل محاولة لحفر الاختلاف في طبقات المجتمع الفلسطينيّ وتحوّلاته، بين ثنائيّات لا تحتوي الجسد ولا المدينة كأفكار، بشكلٍ كافٍ: القرية والمدينة، الدولة والوطن، الأبويّ والأموميّ، الغالبيّاتيّ والأقلّياتيّ، القمع والحرّيّة، العاقل والمجنون، المنفرط والمتزمّت. يُكتب جسد راجي النصّيّ، ببساطة، من خلال ترقيعات جسديّة مقموعة، ومستورة، ومنزويّة في اليوميّ المعيش في فضاء لم تعد تكفيه الدولة الحديثة أو الهويّة الواحدة.
يرى الباحث الفلسطينيّ، إسماعيل ناشف، في كتابه "معماريّة الفقدان"، أنّ الحدث في نصوص راجي بطحيش فيه هو "انتقال من حالة جسديّة ما إلى حالة جسديّة أخرى تمرّ عبر فتحتي الجسد الأهمّ؛ العلويّة الفم، والتحتيّة الشرج. وما يميّز هاتين الفتحتين بالأساس هو العمل".
لكن في نصّ راجي، "يولا وأخواته"، ثمّة تمزق في مفهوم الفتحات الجسديّة العاملة على تحديد الشكل الاجتماعّي والمادّيّ للجسد النصّيّ، وكأنّ الجسد قد خضع في السياق الحداثيّ الاستعماريّ الصهيونيّ إلى حالة من الشدّ، جعلت كلّ مسامه تساهم في تحديد الشكل الاجتماعيّ والمادّيّ للجسد والمعنى. ففي الفصل الخامس حديث عن علاقة الروائح، بصفتها فتحة جسديّة في الزمن، ينفذ منها الخوف إلى الجسد، تحت دوافع تتعلّق بالحالة السياسيّة، والثقافيّة، والدينيّة، وغيرها، من دون إغفال مركزيّة الفم والشرج على طول النصّ.
في الفصل الرابع المفتاحيّ، تصبح الشفاه عتبة تحديد الما قبل والما بعد زمنيًّا، وفي الفصل الثامن، بعنوان "الجنازات"، يحفر بطحيش في الكيفيّة التي تتحدّد بها ذاكرة "الجماعات" من خلال أجساد قابعة تحت نظام "الأبويّ/ هتر/ طبقيّ"، كما أسماها إسماعيل ناشف في كتابه. في مشهد الجنازات يُقشر بطحيش ويولا ترميز الأجساد في الجنازة، في بنية تناظريّة بين حيّ وميت، إلّا أنّها بنية تحوّليّة كذلك، ما يغيّر المعنى، ويمنح عمليّة الكتابة، أي كتابة الجسد، بعدًا جماليًّا يدمّر صلافة مشهد الموت والحزن:
"أريد أن أغفو قليلًا، أن أفقد السيطرة على غفوتي، وأن يلمسني أحد، وأقول له بداخلي، افعل بي ما تشاء، وما يحلو لك".
"يهبط إميل من بيتهم سيرًا على الأقدام، كي لا يضطّرّ للبحث عن موقف، وبجسده المائل للسمنة ورائحة عطره القويّة يزجّ بنفسه بين الرجال حيث تعتمد شدّة الزحمة في الجنازة على من تبقّى على قيد الحياة من عائلة الميت، وأصدقائه، وأنسبائه، والناشطين من طائفته. (...) وكأنّ الناس في هذه المدينة لا تفعل شيئًا سوى الموت والزواج".
"كما لم تعد الجنازات تبتلع ضغط الخواء في الحيّز، وتشكّل الحدث الأساسيّ في الشارع الذي تسير فيه، بل أصبحت آفة كأيّ آفة تشكّل سويّة، وبالمحصّل، ما يحدث في الحيّز العامّ أو الشارع أو هذا الفضاء الذي ينتظر المارّون منه انقضاء الآفات كلّها.. ويحلّ.. الملل.. ربّما؟ ولكن الآفات لا تنقضي، بل تتقاطع السرديّات وتتعامد وتتوازى غير آبهة إحداها بالأخرى... أمّا مرور جنازة خائبة كلّ يوم من مسار هو الأشدّ اكتظاظًا وتلوّثًا وضجيجًا، فلا يوازيه شيء في غيابه وشفافيته.. بحيث يصبح الرجال من روّاد الجنازات تلك، أشخاصًا غير مرئيّين من يوم لآخر... يزداد اختفاؤهم من جنازة لجنازة، حيث يمكنهم بسهولة المرور عبر رادارات الذاكرة الجارحة دون أن تلتقطهم هوائيّاته...".
وهذا الغياب الذي تأسّست عليه الحداثة، هو ما ينتهك الجسد حتّى في احتفاليّة الموت/ الغياب المادّيّ للمعنى، إلّا أنّ يولا يصرّ على منح معنًى أبسط من انهيار السرديّات الكبرى تلك، إذ يقول في مشهد الغواية في الجنازة الفاشلة:
"نسي إميل أنّه لم يستحمّ يومها... ولا في اليوم الذي قبله.. ولا الذي قبله. فمن يستحم استعدادًا لجنازة روتينيّة تملؤها الروبوتات البشريّة.. ولكنّه تذكّر ذلك عندما عبقت تلك الرائحة الكريهة في وجه سامي الذي كان ينتظر أير إميل بفارغ الصبر. ليلج فمه المفتوح.. ولكن سامي لم يصدر أيّ صوت، بل اختفى ببساطة شديدة كفقاعة صابون كبيرة، وكأنّه لم يكن.
إذا أردنا أن نورد مثالًا أبسط على موضع مسام الجسد، جسد يولا، بصفته مكانًا تُرى منه فلسطين والناصرة وبيروت وسامي، وجانيت، ودمشق وغيرهم، بين "سوء الفهم واللاجدوى"، وهي حالة فلسطينيّة تُعاش جسديًّا بين انحباس تاريخيّ في 1948 وفقدان إمكانات الممارسة الهوياتية جامعة، أمكننا أن نرى في الفصل الرابع عشر حالة من التناظر بين الجسد والحجر، تتبدى على هذا الحجر/الجسد حدود الهوية والوطن والمدن وحتى سوائل الجسد:
"وُلدت ها هنا على هذا النتوء المستريح بين سوء الفهم، واللا-جدوى".
*****
"وُلدت ها هنا على هذا النتوء الكلسيّ... المتعرّج بين الصحراء وما ينبعث من البحر من رائحة مرض".
*****
"عندما رتّب جدّي تلك الحجارة المقدسيّة أو النابلسيّة أو حجارة قباطيا من أجل الدقّة، لي، لم يقم بحساب المسافات البينيّة بمهارة."
ثمّ تتوه حدود الجسد/ يولا والحجر/ المكان، على النحو الآتي:
"هذا أنا ... هذا أنفي، هذه جفوني، هذا فمي، هكذا تبدو أصابعي، رجوليّة وناعمة في آن، هذا حاجبي الكثّ، وذاك ما يعلق أسفل أذني، هذه خاصرتي، ومن هنا تسيل الدموع، ويسيل المني إليها، هذا قضيبي وخصيتي الأولى.. هذا شرجي وخصيتي الثانية، هذا هو اللعاب السائل نحو المسطّح الكلسيّ الأملس.. هذه لحيتي الخفيفة.. سأحلقها بسكّين الحجر المقدسيّ.. فقد تحقّقت نبوءة أكوام الحجارة المتراكمة بيني وبين السكّينة.."
الجسد والمدينة بصفتها أمكنة متماهية
في "يولا" يظهر اتّحاد الجسد والمكان وتماهيهما، فجًّا وواضحًا، ويكاد يكون صلبًا في بعض المواضع، إلّا أنّه بالغ السيولة في مواضع أخرى أيضًا؛ ففي الفصل العاشر، بعنوان "الوحدة"، ثمّة تماهٍ شديد بين طاولة "أيكيا" وجسد يولا المهان، والمدنّس، والمنتهك، والشبق المتّسع لكلّ خارج على/ في أفق النظام "الأبويّ/ هتر/ طبقيّ" القامع:
"أنظر إلى مائدة ’أيكيا’ المربّعة صغيرة الحجم بإعجاب، تلك التي يمكنها أن تحوي قمامة العالم كلّها. ينبع إعجابي من كوني استطعت أن أشكّل من تفاصيل أيّامي المتتابعة وغير المتشابهة بليلها ونهارها، ثمّ نهارها وليلها: ليل – نهار – نهار - ليل، منشأة فنّيّة موحية. أإلى هذه الدرجة تهافتت الأيّام بانسيابيّة متناهية، لترتطم بأقدام هذه المائدة التي صارت مرتعًا لكلّ ما لا مكان له في خزانة. لا خزانات في مربّع الوحدة... كلّ حاجيّاتي في الخارج، أعلّقها هنا وهنا وهناك، كما أنّها تقع منّي على هذه السجّادة، وتلك البلاطة العاديّة وهذه العتبة، ولكنّني أنسى التقاطها من هنا وهنا وهناك".
لا يقع الجسد على انهياراته واختراقه عند حدود الطاولة في المشهد، إذ ثمّة نفس متخفٍّ عن المدينة والموازاة بين سيرورتها وسيرورة الجسد، على طول النصّ، فبمقدار ما يعلو سور الجسد أمام الجسد، تعلو أسوار الحدود بين المدينة والأخرى، وبمقدار ما تُنتهك مسام الجسد، تُنتهك مسام المدن.
لعلّ انهيار الجسد البشريّ في الشرق، وتحوّله إلى دعوة مفتوحة لمرثيّة ميتافيزيقيّة من نوع جديد، تتجدّد على الدوام باسم أيّ نداء خطابيّ كان؛ الدولة، الدين، الوطن، الملك، التاريخ، الهويّة، وغيرها من الفضاءات المعنويّة التي نسكنها. الإنهيار الشاهد على اختراق تلك الفضاءات مسام أجسادنا كذلك، ومنها فضاء المدينة الحديثة.
تظهر مدن الجغرافيا العربيّة بانزياحاتها وانثيالاتها في الهويّة والجسد الفلسطينيّ، والشيء نفسه في ما يتعلّق بالمدن الفلسطينيّة؛ فلا مدينة قادرة على حماية الجسد اليوميّ، سواءً في السياق الاستعماريّ الإسرائيليّ، أو حتّى في السياق العربيّ، ويظهر ذلك جليًّا على مستويين، بمقدار ما يتعاضدان ويتماثلان، إلّا أنّ فصلهما هنا لدواعي التوضيح لا أكثر:
1. ابتعاد المدن عن حدود الجسد.
2. انهيار الجسد وانهيار المدن.
في ما يتعلّق بالمستوى الأول، جاء في الفصل الثاني:
"تلك السعادة التي لم نتذوّقها، لورد التي لم تزوريها، سويسرا التي لم تعيشي فيها يومًا، مقهى ’فوكيت’ في الشانزيليزيه الذي لم أجلس فيه معك، أو بدونك، و/ أو برفقة الكلب الإفرنجيّ الذي يتغوّط ورودًا، والذي لم نملكه يومًا، الشقّة في تل أبيب التي لم أشترها، أعرف أنّك لم تزوري تل أبيب لاستصدار تأشيرة دخول لأمريكا.. وطن الرعاع ثمّ بيروت التي لم تزوريها بعد، لبنان بلدك، هل نسيتيه؟ ألم نردّد طويلًا ونحن أطفال: ’ردّني إلى بلادي’".
هذا البعد الذي أسّسه الاحتلال، والحروب، والهزائم، والسياسة، لم تقع ضحيّته الجغرافيا فقط، إنّما الأجساد أيضًا؛ فبيروت التي يتحدّث عنها يولا في الفصل الحادي عشر، مستعرضًا تفاصيلها المدينيّة والثقافيّة ككفّ يده وما بها من مسام وخطوط، تجعلنا نتساءل: كيف لبيروت أن تكون قريبة هكذا، على قرب حرب وجسد، وبعيدة هكذا، على بعد لحن فيروز فينا؟
أمّا المستوى الثاني، فظهر في أثر صبرا وشاتيلا على الأجساد في الناصرة، التي اخترقها الجنون ورائحة الموت، وأمّ يولا التي أصابها الصمت كما الناصرة، والهولوكوست الذي سَجن جانيت، وأطلق جنون سوسن، ودمشق التي يُغنى بتفاصيلها الحيّة في الذاكرة البعيدة كما الأمّ في الحروب؛ فالأمكنة تقع بين الجسد والأرض، والارتحال بين الطرفين، فقدًا أو موتًا. أمّا أمّه فيقول عنها: "لا أمّي بقيت ولا الشام سلمت"، وأمّا أباه فقد مات، "واتّضح بعدها في جهاز كشف الكذب الذي خضع له في المطهر أنّه كان يكذب... طيلة الوقت.
وأنّه لم يزر الشام أبدًا".
"نعم، الهندسة... الهندسة تضايقني، ولا أفهمها..." –من الرواية
[لقراءة مقطع من رواية "يولّا وأخواته" اضغط/ي هنا]
* قدمت هذه المادة ضمن مداخلة على سكايب في أمسية لتوقيع رواية "يولّا وأخواته" للكاتب الفلسطيني راجي بطحيش، أقام الأمسية مسار – مركز للتربية، بالناصرة، فلسطين المحتلة، في الثامن من كانون أول، 2017