[الصورة للكاتب الفلسطيني راجي بطحيش عمل وتصويرالفنانة الفلسطينية راية مناع]
ماري
أيلول 1982
لا أحد يعرف كيف كانت تحصل ماري على مونتها من الكحل العربي الأسود الحالك، وكانه كان يسافر إليها بطريقة مسحورة ما عبر درب حرير خاصا به وخصيصا كي يكون باستطاعة ماري ان تكحل عيونها أو بالأحرى ترسم حدودا سوداء حولهما لترسخ خلاصة معنى القسوة والجمال الخالصين والقليل من الشر المستتر عندما يلتقيان سوية، كان السواد لدى ماري مكثفا وكأنه صنع هو الأخر خصيصا لها حيث أنه خلافا لملابسها دائمة السواد أو الداكنة التي لا يكاد المرء يميزها عن الأسود لشدة ظلمتها..كانت تطلي شعرها بصبغة سوداء غريبة بخلطة سرية لا تكلح أبدا بحيث لم تظهر لماري يوما شعرة بيضاء واحد في العلن على الرغم من تجاوزها الثانية والسبعين في ذلك العام الملعون 1982. اعتادت ماري أن تضع الحكل داخل قارورة نحاسية أثرية صغيرة جدا لا تكاد تتسع لخمسين ملمترا لإكمال المشهدية الدراماتيكية ثم تبحث عن القضيب الفولاذي الدقيق الخاص الذي يؤخذ عبره القليل من سائل الكحل ليُرسم بعدها حول العينين ، ولكنها في كل مرة كانت تتذكر ان ذاك القضيب هو بالأحرى ضائع منذ دهر وهي لا تتذكر حتى كيف يستعمل وما الشعور أثناء استعماله الخ الخ..فكانت تلجأ أحيانا لقطن الأذنين المثبت بعود خشبية او بلاستيكية لتكتشف بعدها أن انسجة القطن هذه قد تسرب دخل العين مسببة احمرارها وتحسسها ولتصل في النهاية إلى حل عملي يتمثل باستخدام الدبابيس السوداء هي أيضا والتي تلملم أشلاء شعرها المتهاوي لدهن الكحل حول عيونها لتستخدمها بعدها في تثبيت شعرها وهكذا دواليك فالسواد حول العين لا يفرق عن السواد على الشعر أو فوق الحاجب ...
كان العالم يتهاوى خارج البيت وكأن يوم القيامة المنتظر حل أخيرا..بدأت أخبار صبرا وشاتيلا تتسرب ورائحة الموت في المكانين تسافر كم بيروت باتجاه البحر وتقطع رأس الناقورة ثم تتجه جنوبا ومن ثم شرقا إلى الناصرة حيث كانت قد بدأت رائحة موت أخرى تتكون ولكن ببطء على مهلها كالطبخ على نار هادئة ..طبخة تجهيزها طويل ويستغرق دهورا ..كانت ماري أو التيتا ماري بسوادها هذا تطهو اعمال السحر على مهلها في الغرفة السرية السوداء من شدة الشحبار والعفن والتي تسمى "الأمبوب" تلك التي كانت تقلي فيها السمك والباذنجان وتنظف فيها الكروش والفوارغ...وأمور أخرى ...
لم يسمع أحد من قبل بزوج الكلمات "صبرا وشاتيلا" ربما لم يسمعوها سوية بمعنى أن صبرا كان مكان مستقل لوحدة ويذكر لوحده وكذلك شاتيلا ولكن لا شك أن شاتيلا لوحدها كانت معروفة أكثر وأكثر شيوعا ..لقد تعرف الناس منذ السادس من حزيران (شهر المصائب والمحن والموت المفاجئ) على الكثير من أسماء المناطق في لبنان وبيروت تحديدا وخاصة تلك التي يدخل إليها الجيش الإسرائيلي ..مثل بعبدا..وعاليه..وبرج البراجنة والمينة الرياضية والوزاعي وبئر الحسن وبرج حمود والأشرفية..وسيبحثون وسط دمارها عن ينابيع ماء وطعام لبناني شهي وعرق زحلاوي وفرق دبكة لمخنثين يتمايلون بمؤخراتهم قرب شارب يقف عليه النسر كما يقولون...ولكن الثنائي "صبرا وشاتيلا" كان جديدا وقتها ليصبح بناءا ثقافيا مستقلا لا يمكن فصل شقه الأول عن شقه الآخر، كما لا يمكن تخيل أي حفلة شواء على خلفية أصوات فيروز وصباح ووديع الصافي أو أي شيء يبعث على الطرب النمطي والتصور المبتذل للبنان ..فبعد أن بدأت صور الجثث المتفسخة والمنفوخة من الحر تصل وتتناسل بسرعة بدأ عصر جديد فيما يتعلق بعلاقة الجمال بلبنان وذلك على الرغم من فظاعة الصور التي كانت تصل على مضض من الحصار ونتائج القصف والحروب الصغيرة التي كانت تندلع هنا وهناك..ولكن صور صبرا وشاتيلا فاقت كل هذا ..لأن تعابير مثل الاغتصاب الجماعي ثم الذبح ..أو بقر بطون الحوامل وإخراج الأجنة منها أو تفسخ الجثث من شدة حرارة أيلول الغادرة وصور تفتق البناطيل والقمصان عن أجساد الرجال صغار السن بسبب انتفاخ جثثهم بعد اعدامهم ...كل هذا العالم من الفظائع والعار البشري المجلجل أجهز على كل ما يمكن لصوت فيروز أن يضيف ..حتى أن ماري التي كانت تبكي طيلة الوقت على أخوتها وأقاربها الذين "تبخروا" في بيروت ولم تعد تسمع عنهم شيئا ولا حتى عبر صوت إسرائيل من أورشليم القدس ..نسيتهم وكأن صبرا وشاتيلا هذا كان حدثا في كوكب آخر غير كوكب لبنان، وخاصة وهي لا تعلم أن هاتين الكلمتين المجموعتين سوية ستصبحان منتجا ثقافيا ولغويا تلقائيا مثل .."ريا وسكينة" أو "مريم ومرني" وهما أختين عوانس كانتا تتلازمان كل واحدة كظل الأخرى في المآتم والأتراح أكثر من الأفراح ..خاصة ان مصائب الغير كانت تذكرهما على ما يبدو أن مشكلتهن مع العزوبية الأبدية تهون أمام مصائب الناس...
لقد اطلت ماري على مدار عشرات السنوات التي عاشتها في هذا البيت حيث انتقلت من أحياء الروم لأحياء ال"كتلوك" كما كانت تسمي المسيحيين الغربيين بتهكم، على الاف الجنازات والمظاهرات وملاحقة حرس الحدود للشبان الذين أصبحوا رجالا بالغين لا يحملون سوى حسرة العمر الذي انقضى دون أن يتغير شيء او يكافئهم أحد على جرأتهم هذه...لكن رائحة الموت الغريبة ومصطلح مجزرة وقيظ أيلول وأخبار جنون سوسن حفيدتها ..."بنت الكتلوكية" كان غريبا عليها ...لم يصب الناس في ذاكرتها بالجنون هكذا فجأة لقد كانت تعرف أنهم يولدون مجانين أو عقلاء كما لم تكن تعرف أن في بيروت أماكن تسمى هكذا..ولسان حالها يقول : " من وين طلعولنا صبرا وشاتيلا هدول كمان..عوقتنا ما كانوش، أنا عارفة شوه هالوقت هدا، هالدنيا بطلت لولاد المنيحين"، كانت وكأنها تنتظر شيئا ما ..رجالها الذين لن يعودوا، لن يزوروها بعد وهم في طريق عودتهم من دكان الحلاقة الذي يقبع عنيدا أسفل الدرج او قططها اللاتي اختبأن بعد أن شعرن بخطر داهم..وداكن كالكحل الذي بدأ يتحبب على طرف جفنها.. كانت ماري مصابة بهوس غريب تجدر قرائته بلغة ما بعد حداثية..يتمثل برغبتها في أن يحلق جميع الرجال في حياتها شعورهن بوتيرة عالية ..وبواقع كل أسبوعين على الأقل ..وحتى أحفادها من الذكور الآخذين بالتناقص أو الاختفاء عن حيز وجودها إما بسبب الهجرة او لأنهم لسبب ما لم يتصالحوا بعد مع ذكورتهم..الاجتماعية على الأقل..
" أنا عارفة شو موضة تطويل الشعر هاي عند الشباب"
"الرجال بكونش رجال غير ما يحلق كل جمعة"
وكأنها مصابة بهوس جنسي بشعر الرجال ..أو بالأحرى اختفائه تماما..ما يرشحها في يومنا هذا لتصبح إحدى رواد نوادي الهوس الجنسي المتخصصة وفق المواضيع في أوروبا..أما الرجال من حولها فقد كانوا بحالة تناقص دائم ابتداء من زوجها الذي ذاب كالشمعة بجيل مبكرة نسبيا في عام 1971 كما أدعت .."انمقت حظيط على أديب عشان رحل" ..مرورا بأولادها الذين هاجروا واخوتها الذين هُجروا عام 1948 ..
ولكن شيئا ما لفت نظرها في صور الحرب في لبنان بالأمس والتي تحولت إلى صور مجزرة ...لقد كان معظم الرجال في ذلك العام والأعوام التي سبقت يتبعون موضة الشعر الطويل الذي يصل حتى اكتافهم ويلامسها ، باستثناء اصحاب الجثث المتكومة فوق بعضها والمنفوخة بفعل الحرارة..فقد كانوا بشعر قصير..كما تحب.
جاء حبيب..
-شو حلقت؟ اه هيك بيّن وجك...وإميل وينتا ناوي يحلق؟
- بعرفش
- مالك مهموم، اللة يقطع البنات وخلفتهن ..هو بيجيب أخرة الرجال غير بناتو
- يمّا مش ناقصك انا ...اسا بطلع...تعمليلنا قهوة
- اللة يقطع القهوة ...شو انت بدك تقتل حالك بالقهوة والدخان، اياني فايتة أحضر لعزومة الجمعية خليك هون اسا بسخنلك القهوة
-بتعرفي اني بحبهاش مسخنة، عندك جريدة...شو صاير بلبنان؟
- أبوك ترجاني نهج علبنان مع العالم اللي هجت من حيفا مع دار خالك ، كان ‘سا كانوا مدبحينا
- يما ما انت عارفة انهن أعطوا المسيحية جنسيات..عن شو بتحكي؟
تدافعت النساء بالأسود إلى زيارة الجمعية، اخترقن الشوارع والاختصارات الموصلة من حارة الروم البعيدة وحارة الميدان القريبة جدا وكذلك الحي الشرقي من المدينة نحو مقر الزيارة...كانت قوافل السواد هي نفسها، نساء يتثاقلن في مشيتهن في الشارع وقد انصبت الدهون بأشكال عجيبة في مؤخراتهن ، فمع أنك كنت تشاهد مجموعة نساء تمشين الهويناء في الشارع العام إلا أن الأمر كان يبدو مثل سرب غربان يخرج من مقبرة بعد الانتهاء من دفن ميت، أو جماعة نساء في طريقهن من أو إلى جنازة وليس زيارة خيرية ...ولكن الفرق لم يكن بهذه الجوهرية..فالأهم هو القيام بالشيء...كانت أسراب النساء هذه تتثاقل في الشارع الرئيسي والشوارع المحيطة، في جميع الأحوال وبكل ثمن ، في أيام الإضرابات، والمظاهرات وحرق الإطارات والمناسبات العامة والأعياد وعيد الاستقلال الإسرائيلي وعيد الغفران، في نهاية الأسبوع وبدايته وحتى في وسطه وخاصة في أيام الأربعاء حيث يعمل الأشخاص نصف يوم، وحتى في ذلك اليوم القائظ من أيلول حيث بدأ التوتر الناجم عن أخبار المجزرة يكتنف الجو، لم تتوان أسراب الغربان عن التقدم نحو فتوحاتها...كانت تلك الطوائف من المخلوقات تتقدم وكأنها ذاهبة لتجهيز سحر ما ...سحر يغير مسار حياة الأشخاص ...سحر لا تفقه تجهيزه سوى الأرامل والعوانس الغاضبات، والأمهات اللواتي هجرهن أولادهن غربا ولم يعودوا أبدا، والأمهات اللواتي مات أبنائهن قبلهن في عز الشباب فامتلأن بالقدرات السحرية الجاهزة للانتقام ممن لم يمت...
تقدمت النساء بالأسود من جهة الأحياء الشرقية ذات الأغلبية الإسلامية نحو الغرب بينما تقاطعت طريقهن مع جماعة نساء بألوان زاهية موردة تميز الفلسطينيات من المناطق كانت تلك النسوة تلطمن وجوههن بشدة على أقارب لاجئين من محيط الناصرة كانوا غالبا قد قضوا ذبحا في المجزرة...
وصلت معظم النسوة إلى زيارة الجمعية النسائية الخيرية، وكانت معظمهن تعانين بشكل مزمن من داء السكري من النوع 2، أي المكتسب وغير الوراثي، ولكن ومع ذلك فقد كانت معظم التضييفات مليئة بالسكر كأنها بالفعل حفلة انتحار جماعي وذلك بالتأكيد بعد طقس تحضير السحر أو جمع السحر ...فلنقل السحورة ...
لم يكن القاسم المشترك الأعظم للتضييفات هو السكر القاتل في هذه الحالة فقط بل الجلاتين أيضا ذلك المكون الذي يساعد المكونات الأخرى في طبق الحلوى من التمازج وتشكيل ما يشبه حالة مقززة ما بين السائل والصلب ، وهكذا تدافعت أطباق الحلوى ...كل عائلة لوحدها، أولا، أطباق الجلو الأحمر والأخضر والتي تتوه فيها كرتي عنب وشريحة موز بالمعدل، ثم يأتي دور الحليب المحلى بحالته الجيلاتينية أيضا مع السكر المذاب بالماء ونبتة العطرة والجوز المهروس، ثم جاء دور مغلي القرفة بالأرز وهو عبارة عن الفقرة الأخيرة في برنامج التضييفات ...قبل القهوة طبعا، وذلك دون أن تبدأ السيدة رفقا والملقبة بالريسة أي رئيسة الجمعية، بتلاوة برنامج عمل الاجتماع حيث لم تعطها أي ثرثارة من الحاضرات فرصة التفوه بكلمة واحدة، فمع كل طبق يحضر كانت تحضر معه الأحاديث والتقولات والأكاذيب ووصفات الحلويات المختلفة المتشابهة ..من سيخطب من ومن تبحث لابنها عن عروس مؤدبة وموظفة في ذات الوقت وأيضا بنت عيلة...جميلة...عاقلة..
تقدمت ماري وهي تحمل صينية المغلي بالأرز تتبعها صديقتها التي كانت تفضل دائما تجاهل الحدود الفاصلة بين دور الصديقة ودور الخادمة...رن جرس الباب رافقه طرق عنيف على الباب...
- سوسن شو جابك...
ساد صمت مريب ومربك
- فكيلي سحوراتك ولي انت وياها فكيلي يلا..
وانقضت سوسن على شعر جدتها الخفيف أصلا أو ما تبقى منه، وأوقعتها أرضا فتطايرت أطباق المغلي واختلطت ببقايا الجلو والكستر ولكن طبقا واحدا تطاير وسافر مسافة لا بأس بها ليستقر محتواه داخل كعكة الشعر ،
أو الدائرة المجدلة على رأس الريّسة رفقا ...حيث بدا رأسها أنذاك كأنه عش يمتلئ بالقيء...
[اضغط/ي هنا لمراجعة عبد الله البياري عن رواية يولا وأخواته لراجي بطحيش]