[ هذه المادة جزء من ملف خاص تنشره "جدلية" بالتعاون مع "صالون سوريا" تحت عنوان:سوريا: الوضع الحالي وآفاق المستقبل: ملف خاص. للإطلاع على بقية مواد الملف اضغط/ي هنا]
-I-
لم تشهد سورية حالاً أشد دمامة من الذي تعيشه الآن، منذ تكونها ككيان سياسي حتى اليوم. ما يحدث اليوم يتجاوز ضياع فرصة أو احتمال قيام دولة مواطنة مدنية بدستور وقوانين عصرية يخضع لها ويحتمي بها جميع السوريين. ما يحدث اليوم يجسد هزيمة جديدة لمشروع “الالتحاق بالعصر“، سواء انتصر النظام أو الميليشيات الإسلامية.
لاحظ معي أن دعاة قيام الدولة المدنية الديمقراطية، على قلتهم، قد تشتتوا بفعل القمع الذي لم يبخل به أي من أمراء الحرب بما في ذلك النظام بطبيعة الحال. واضح للجميع كما أعتقد أن النفوذ على وفي سورية موضع تقاسم بين نظام دكتاتوري مهلهل تدعمه (وتشاركه النفوذ) ميليشيات دينية فاشية (إيرانية ولبنانية وعراقية بوجه خاص) لها طابع مذهبي، ناهيك عن الميليشيا المحلية وقوى إقليمية ودولية، وميليشيات معارضة يغلب عليها طابع التطرف الديني الفاشي والعداء للديمقراطية، تتلقى بدورها الدعم بل والأوامر من قوى إقليمية ودولية تحت طائلة إيقاف الدعم. وفي الوقت الذي يحقق فيه النظام وحلفاؤه انتصارات عسكرية، يشارك حلفاء النظام وعلى نحو مباشر في حكم سورية بل يسهم بعض الحلفاء في فرض العديد من القرارات المتعلقة بحاضر ومستقبل سورية، إلى حد يغيب فيه السوريون في أي موقع كانوا، بما في ذلك النظام طبعاً، حتى عن نقاش حاضرهم ومستقبلهم في العديد من اللقاءات الدولية التي تنعقد بهذا الخصوص.
لم تتجاوز الدكتاتورية المهلهلة بنيتها، ولا أعتقد أنها ستفعل، وبالتالي لن تستجيب لمصلحة البلاد في التغيير الديمقراطي السلمي، أما أغلب تيارات المعارضة فقد غلب عليها تبني الحلول العنفية والعسكرية التي فرضها حملة السلاح ومن يساندهم، وتمت تنحية أو شل فاعلية القوى التي تحمل مشروع التغيير الديمقراطي، بالقمع المباشر حيث مورس القتل والاعتقال والتهجير من قبل النظام ومن قبل التيارات الجهادية. وتحول المجتمع السوري إلى ساحة سوريالية لإعادة إنتاج المآسي والقمع العاري بأبشع صوره من القصف بالأسلحة الفتاكة إلى التجويع والتركيع والموت تحت التعذيب، إلى الذبح بالسواطير، والتفنن في إدارة التوحش ومختلف أشكال احتقار وامتهان الكائن البشري. ولا يخفى على أحد كيف التحق بعض دعاة التغيير لإقامة دولة مدنية عصرية بالنظام، وبعضهم الآخر بالقوى الجهادية، ولم يفتقر أي منهم إلى الديماغوجيا لتسويغ موقفه الداعي إلى المزيد من القتل! وشكل ذلك كله مناخاً لانتشار الوباء الطائفي واستثماره وتعويمه.
نحن أحوج ما نكون إلى العقلانية، بصفتها بديلاً للعنتريات الفارغة أو للأحكام والأفكار السلفية، وعلى وجه العموم لا أرى مكاناً للعقلانية في صفوف الحركة الدينية التي هيمنت على المعارضة، بقوة السلاح والجهل والانحطاط، ولا في صفوف النظام الذي يفصّل العقلانية أو الدين –أو ما شئت – على مقاس ديمومة تسلطه.
يكابد السوريون اليوم، في سياق العنف العاري الذي يشهده المجتمع، مختلف أشكال القهر :السجن والموت والفقد والجوع والفقر والتشتت واللجوء والضياع.
وسورية الآن ساحة حرب دولية يتصارع من أجل النفوذ فيها وعليها قوى إقليمية ودولية، ضمن خارطة معقدة للتناقضات، فلكل ميليشياته وقواه وشروطه. وتتناقض المصالح والتوجهات ضمن الحلف الواحد: فالإيرانيون لا يريدون ما يريده الروس، والأميركيون لا يأبهون كثيراً للمخاوف التركية من تشكل دولة أو قوة كردية متاخمة لهم. أعتقد أن الحرب في سورية ستنتهي في المدى المنظور مخلفة بعض الجيوب التي ستستمر في ممارسة العنف، الأمر الذي سيسوغ ويتماشى مع استمرار الدكتاتورية.
بكثير من الأسى أقول إن كل شيء في سوريا أضحى منتهكاً أو معرضاً للانتهاك وخصوصاً الإنسان. يمكنك أن تتحدث عن انتهاكات تكابدها الغابات ومختلف الكائنات الحية الأخرى وعن انتهاكات طالت الجمادات من بيوت وآثار وحجارة بكر! أما الحديث عن السيادة الوطنية فقد أضحى مزحة أو جزءاً من هذه الكوميديا الشديدة السواد.
-II-
تبدأ خطوات الحل الأنجع، وأظنه بعيد المنال، بوقف الحرب على أن تضمن ذلك قوة عسكرية دولية تحت مظلة الأمم المتحدة، وعلى أن لا يكون هناك أي نفوذ لأي دولة أو ميليشيا خارجية داخل سورية، ويتم بعد ذلك مباشرة تشكيل حكومة انتقالية تتكون في ظلها جمعية تأسيسية وتجري انتخابات برلمانية حرة ونزيهة، ويتم وضع دستور مدني عصري يفصل الدين عن الدولة. سورية من أحوج البلدان ربما لدستور يقوم على أن في التعددية غنى وفي الأعراق والأديان والقوميات والثقافات حدائق لا بنادق، دستور لا يكرس سيطرة عرق أو دين أو قومية، ودولة قانون تساوي بين السوريين بصرف النظر عن الاعتبارات الدينية والعرقية والقومية والجندرية. إن البديل الوحيد للانتقامات والمظلوميات التاريخية هو دولة القانون. وأرى أنه لا بد من “العدالة الانتقالية” ولا بد من تحقيق الشرط السياسي والاجتماعي الذي يخلص سوريا من مفاهيم وشعارات الإبادة أو الاجتثاث والتعصب الديني أو القومي أو العرقي. أحياناً أرى أن الحل الواقعي يبدو مثل حلم بعيد المنال ولكني لا أرى حلاً آخر. فالتقسيم أو المحاصصة الطائفية أو الإخضاع بالقوة ليست إلا تأجيل للعنف وإعادة إنتاج له.
-III-
لا أعتقد أن سوريا ستشهد الاستقرار قريباً، يلوح في الأفق انتصار النظام، ويلوح في الأفق أيضاً الكثير من العنف بدوافع مركبة: ثأرية وانتقامية تخدم وتغذى في المحصلة من قبل أصحاب مصالح محددة. ولا أظن أن العنف سيأخذ بالضرورة شكل حرب جيوش بل أرجح أن تشهد البلاد حرب عصابات.
-IV-
على المثقفين أن يشكلوا كتلة بعيدة عن الاصطفاف وراء الدكتاتورية أو القوى الدينية ويعملوا ما بوسعهم لتكريس ضرورة قيام دولة المواطنة المدنية الديمقراطية بصفتها الحل الذي يمكن أن ينهض بسورية من الحضيض الذي تعيشه وتنظف المستقبل من طاعون الانتقام والتعصب الديني والقومي . عليهم كما أرى ممارسة مختلف أشكال النشاط المتاح في سورية وفي الشتات لتكريس الاهتمام بسورية واحدة تعددية وديمقراطية.
-V-
إن استبدال الهوية الدينية أو المذهبية أو القومية أو العرقية بهوية المواطنة هو السبيل الوحيد أمامنا نحن السوريين ولا بد من خلق سياق قانوني وثقافي واجتماعي يجعل هذا الاستبدال أصيلاً وعميقاً، ولا أرى أن هذا الاستبدال ممكن في ظل هيمنة القوى الدينية أو في ظل هيمنة الدكتاتورية العسكرية. أعتقد أن تخليص الدولة والمجتمع من مقومات ومقدمات الدكتاتورية العسكرية أو الفاشية الدينية هو الخطوة التي لا بد منها للانتقال من ضيق ودمامة التشنج الطائفي إلى رحابة التعددية في مجتمع مدني لا يتم فيه قبول الآخر فحسب، بل يتم التعامل والتعاون معه في شتى الميادين. عندما تكون حرية التعبير جزءاً من نسيج الدولة والمجتمع، وعندما لا يخضع تشكيل الأحزاب لإرادة العسكر أو المشايخ بل لقانون أحزاب عصري فعلي، وعندما تنشأ الأحزاب المدنية القائمة على خدمة برامج اجتماعية واقتصادية محددة وتحل محل الأحزاب الدينية التي تبشر بأنها ستفرض بالعنف ما لا تقبله الحياة المعاصرة، سيحل الصراع السلمي تحت قبة البرلمان محل الصراع العنفي في الساحات والشوارع وسيكون لصناديق الاقتراع معنى. عندها ستناقش الآخر برنامجاً لبرنامج ، بالأحرى عندها لن يكون الآخر هو ابن الطائفة أو القومية الأخرى بل من يؤيد مشروعاً اقتصادياً أو اجتماعياً أو كونياً يختلف عن مشروعك.
-VI-
لدي العديد من المخاوف فالقوى الفاعلة في الوقت الراهن لا تزرع سوى المزيد من الدمار الذي يطال الناس وبيوتهم وشوارعهم وأشجارهم (أكتب الآن والصواريخ تتساقط على نحو عشوائي على بلدة سلمية وعلى بعض مناطق الغوطة الشرقية على ذمة مواقع التواصل الاجتماعي) لا أعتقد بالتالي أن من يزرع الشوك سيحصد القمح أو الورد. إن الحضور المباشر لقوى مختلفة، ومصالح متناقضة على الساحة السورية، وانتشار ميليشيات دينية فاشية مؤيدة للنظام أو معارضة له، لا يبشر بالخير.
لا يزال النظام يمجد الخضوع، ولا أظنه سيتجاوز ذلك. ما معنى تمجيد التجانس في خطاب رأس النظام؟ المواطنة تقوم على التعددية لا على التجانس! لا أرى أن الحل بمعناه الدائم والأصيل يمكن أن يتم ويستمر بمعزل عن قيام دولة المواطنة وبمعزل عن التحول من “رعايا” إلى “مواطنين” على حد تعبير أستاذنا طيب الذكر أنطون مقدسي. عندها يمكن أن نكون محكومين بتطلعاتنا إلى المستقبل. ما لم نتمكن من تحقيق ذلك سنبقى أسرى أسوأ ما في ماضينا مثل رايات ” ثارات الحسين” وفتاوى ابن تيمية المذهبية، وتجليها المعاصر في شعارات مثل “عندك ناس بتشرب دم“، وغير ذلك من الدعوات الوقحة للعنف.
لقد اجتمع السلاح مع الانحطاط الثقافي والأخلاقي، وأضحى تسويغ جرائم القتل الجماعي أمراً عادياً.
نحن أمام احتمالات عديدة، وأتمنى أن لا تصدق النبوءات السوداء التي تبدو واقعية ولها حظ في التحقق. آمل أن تبقى سوريا كياناً واحداً وأن تصبح التعددية من علامات الغنى الاجتماعي والثقافي لا عباءات تخبئ أحقاداً وقذائف تنشر الرعب وتوسع دائرة الجرائم.