[ هذه المادة جزء من ملف خاص تنشره "جدلية" بالتعاون مع "صالون سوريا" تحت عنوان:سوريا: الوضع الحالي وآفاق المستقبل: ملف خاص. للإطلاع على بقية مواد الملف اضغط/ي هنا]
-I-
ما يجري في سوريا الآن (ثورة مصنَّعة)، بدأتْ متقَنة ومحبوكة بشكل ذكي للغاية. ولا يمكن النظر إليها كحدث منفصل عن التغيرات العالمية: صعود قوى جديدة وانهيار قوى عملاقة تعجز عن استنهاض ذاتي داخلي لاقتصاداتها المتهاوية، فكان لا بدّ لهذه القوى الثانية من زعزعة أطراف الإمبراطوريات الناشئة بادئةً بالأطراف وليسبالمراكز، لأسباب تتعلق بارتباط كلٍّ من الاقتصادين. ولأسمِّ الأشياء بأسمائها: ليست الرأسمالية العالمية التقليدية، وعلى رأسها أميركا، في أزمة بقدر ما هي في حالة انهيار، ولا يسعها القيام بحروب عسكرية ضد غريمها الصيني المتنامي، على الأقلّ الآن، بسبب زواج اقتصاداتها بهذا الاقتصاد الصيني ومديونيتها له بسبعة آلافمليار دولارعلى شكل سندات خزينة. إذاً لا بدّ من تقليص المسافة بين النّموّين (أميركا -9% والمؤشر إلى نزول، والصين +13 % والمؤشر إلى صعود) –ولتكن(الحرب) بشكل غير مباشر، وبأرخص الأكلاف: إحراج اقتصاديات وزعزعة نمو الإمبراطورية الصاعدة عن طريق تجييش الأكثريات في مجتمعات الأطراف، وليكنالممر السوري/ العراقي/ الإيراني إحدى هذه المحاولات، مع الأخذ بالاعتبار أن الخلقة العراقية في هذا الممر ليست جديرة بالذكر لأنها قد تحولت إلى “دولة فاشلة”بطبيعة الحال.
نعود إلى الأكلاف: استخدام الإسلام السنّي كمطية سهلة ورخيصة ووضعه في مواجهة الإسلام الشيعي والأقلياتِ التي يرى معظمها أن لا فائدة ترتجى من وراء المواجهةالمباشرة، ولو كانت سلمية، مع نظام فاسد في بنيته الذاتية وفي تبعيته، لأسباب جيو–سياسية معروفة، للشمال الصاعد. وترى، كما يرى الكثيرون أن الإصلاح البطيء،التراكمي، هو الحل الذي يجنب البلاد الدم والخراب.
لم يدرك أحد هذين العاملين –القدَرَين الرئيسين: النظام الذي يمتلك البلاد بجيشها واقتصادها، والتصاقه العضوي الذي تكرس منذ أكثر من نصف قرن بروسيا والصين،وبالتالي استحالة انفكاكه عنه ولو كلّف ذلك تهشيم كلّ شيء. وليس أدل على ذلك من
أن أول فيتو صيني في التاريخ كان لصالح سوريا، وأن روسيا تستميت الآن فيحماية النظام السوري.
مع (تحريك) كوريا الشمالية، قد تتغير المعادلات ويفقد إغلاق الممر السوري/ الإيراني أهميته، فمعظم الولايات الأميركية باتت تحت مرمى الصواريخ الكورية الآن، وبالتالي ستربح روسيا الحرب، ولا بأس من إعطاء الشركات الأميركية بعض المكاسب النفطية والاستثمارات في إعادة الإعمار.
-II-
لا بد من التغيير في بنية النظام الفاسد القائم الآن، أو تغييره. ويبدو أن (قدر) سوريا الجيو سياسي سيأتي بنسخة تكاد تكون مطابقة للنظام القائم. لذلك فإن (الثورة)البديلة للإسلام معطوب الرأس والقلب هي (ثورة ثقافية) تعمل على تفكيك المقدس السلفي وفصله عن الدولة وإنجاز مشروع علماني مكتمل يكون فاتحة عدالة اجتماعية،وإطلاق الحريات دون شروط، وإغلاق السجون السياسية مع تفعيل القضاء المدني المنفصل عن المؤسسة الحاكمة، وترسيخ ثقافة القانون وفكرة أن النظام، ورأسه، همموظفون لخدمة الشعب السوري وليس ملاكاً لمزرعة وأقنان.
-III-
كلّ شيء يشير إلى أن البلاد تسير نحو الحلّ. ويبدو أن هذه الحرب هي حرب وجود أو لا وجود بالنسبة للأطراف المعنية، وهي: النظام السوري وإيران وروسياوالصين. أكتب هذه العبارة وأنا أسمع الآن الأصوات المكتومة الدائمة للصواريخ الروسية التي تخرج من القطع الحربية البحرية باتجاه مواقع المعارضة المسلحة فيالداخل، ما يشير إلى أن أميركا قد سحبت يدها من القضية السورية لصالح الدول آنفة الذكر، وأن المعارضة (أو المعارَضات) المسلحة قد انحصرت في جيوب تتضاءليوماً إثر آخر. ربما كان بعض ثمنِ انسحاب أميركا الاعتراف بنفوذ لها في إقليم كردي، والتخلي عن شطر من إدلب متاخم لتركيا، كجائزة ترضية.
-IV-
قلتُ أعلاه إن الحل هو ثورة ثقافية. ولن يقيض لهذه الثورة النجاح ما لم تطحْ بثقافة المحسوبيات وتتجاوز المؤسسات الثقافية الرسمية البيروقراطية. هناك مطلب إلغاءالرقابة، والسماح بصحافة حرة، ودعوة المثقفين السوريين للعودة من منافيهم الإجبارية أو الاختيارية ليقولوا ويكتبوا كما يفعلون الآن في تلك المنافي.
على المثقف أن يكون صوتَ ضميره وضمير شعبه، وليس زلمة سلطة فصامية فاسدة.
-V-
العدالة الاجتماعية، تفعيل القضاء النزيه، إلغاء المحسوبيات والمحاصصات الطائفية، الزواج المدني، بناء مؤسسة جيش وطني يُنصَّبُ قادته وضباطه على أساس الجدارةلا على أساس الطائفة أو العشيرة.
ومع الإقلاع في مشروع علمنة ومدننة المجتمع السوري، ووضع المقدس الديني على طاولة البحث، سيُمنى الفكر الديني برمته بالخسارة بالتأكيد، ما يفسح المجال أمامالجيل الجديد لأن يختار شريك حياته دون الأخذ بالاعتبار منبت وطائفة هذا الشريك.
-VI-
رؤياي قاتمة بعض الشيء.
سيبقى الجرح الطائفي ينز صديدَه إلى أمد طويل. ربما يتخامد مفعوله رويداً رويداً مع (أريحية) اقتصادية ينعم بها الشعب السوري مع عودة انتعاش هذا الاقتصاد والبدءباستثمار النفط الموعود.
ستبقى الأحزاب القومية التي أخرجت من أرحامها الفاشية، مع تغيير طفيف في الأسماء والواجهات. وسيبقى المعارض الوطني مقصىً إذا تجاوز الخطين الأحمرين:النظام، والواقع الجيو–سياسي للبلاد.
ما يلطف هذه الرؤيا، إيماني بأن شعب حضارة الـ 7000 سنة لا يمكن خصيه، أو وقف روحه الخلاقة بطبيعتها عن إعادة بعث نفسه من الرماد، ليطير من جديد نحوآفاق الإبداع في العلم والفن.
الشعب السوري هو طائر الفينيق القادم.