حسمت القوى العراقية الرئيسة مواقفها المتذبذبة بعقد الانتخابات النيابية الرابعة منذ 2005، في 12 أيار/ مايو المقبل، بعد تجاذباتٍ هددت عقدها بظل اختلال التوازن لصالح قوتين "شيعيتين" على حساب القوى الأخرى "السُنية" و"الكردية" و"الصدرية – المدنية"، ومرّوحة النزوح الواسعة التي تغطي 90 مخيماً بعموم البلاد بحصيلة2,568,966 نازح لن يتمكن منهم سوى 400 الف فقط من الاقتراع في المخيمات، فيما يواجه 3,269,076 عائد الصناديق الإلكترونية في مناطقهم المدمرة جراء عمليات استعادتها من تنظيم (داعش) وفقاً لآخر مصفوفة لمنظمة الهجرة. ما يعني أن حقل الازمات نشط في نصب الفخاخ الى السلطة.
فخ التأجيل
منذ إعلان رئيس الحكومة حيدر العبادي من طرف واحد الموعد الانتخابي، ومحاولات التأجيل تُطرح من القوى السُنية والكردية، رغم تقاطع وجهتين، فالكرد ولاسيما الحزب الديمقراطي الكردستاني (بارزاني) يحاولون الثأر لهزيمة الانفصال والبحث عن ورقة تحرج بغداد، فيما القوى السُنية تحاول تفادي الإخفاق السياسي بتحصين مصالح ناخبيها إثر فشلها بملف الهجرة وإعمار المناطق المحررة، ما يُرسّخ مخاوفها بعدم تقبل النازحين والعائدين، بالمشاركة في الانتخابات من المخيمات والحطام، ما يؤثر على توازن تمثيلها النيابي والبلدي ويعيد كابوس الحرمان السياسي في 2005.
سعى (المحور السُني) إلى التأجيل عبر مخرج دستوري، فطلب رئيس البرلمان سليم الجبوري رأي المحكمة الاتحادية، فيما حرّك العبادي مكتبه نحو المحكمة ذاتها لاستصدار فتوى بـ"عدم التأجيل". وتجد الجبهة الشيعية أن جسمها الانتخابي مُعافى إلا من خشية العزوف، بالتالي إمكانية الاقتراع متوافرة وسَتُضّعِف الموقف "السُني" الانتخابي لجهة أن الأخير لن يحصل على تمثيله المتوقع، وهذا يعني بحسابات ما بعد الانتخابات الذهاب الى "حكومة اغلبية سياسية"، وهو المتوقع في ظل الفرز الشديد لشعبية المتنافسين.
نزلت المحكمة الإتحادية على هوى رئيس الحكومة، وألزمت القوى السياسية بالموعد الذي بات حُكماً خارج حسابات التأجيل، فسارعت القوى السُنية إلى الاعتراف مع التحفظ على إجراء الانتخابات المحلّية (مجالس المحافظات) بالتوقيت ذاته، لكن يبدو أن ثمن هذه الفتوى "السياسية" سيكون إرضاء القوى بعدم إجراء (المحلّية) تزامناً مع (النيابية) وتأجيلها 6 أشهر مقبلة، لبيان المكاسب وقياس الشعبية وجدولة التحالفات وفق صيغة تعويض خاسري المقاعد البرلمانية بحصص مجالس المحافظات - وهو أيضاً ما تؤيده القوى الشيعية -. وبهذا التأجيل الذي من المؤمّل أن يُقَرّ نيابياً، تكون الانتخابات المحلية تأجلت للمرة الرابعة.
فخ السلاح المقدس
ترفض الفصائل الشيعية المسلحة "الحشد الشعبي" نزع سلاحها الثمين مقابلالتام بعملية سياسية متقلبة وفقاً لمتغيرات الضامن الاقليمي والدولي وتكسّرات المنطقة بالفوضى.
بروز "داعش" تطلّب قوة مسلحة موازية تُرصن الجبهة الداخلية المنهارة، لكنها أيضاًتمثل قلقاً مستقبلياً إزاء ترسيخ الدولة العراقية. فـ"الحشد الشعبي" يُمثل أطيافاً من توجهات بالغة التعقيد والتنافر؛ فصائل مسلحة عقدية مرتبطة بـ"ولاية الفقيه"، وفصائل مستحدثة مرتبطة بـ"مرجعية النجف"، وأخرى عشائرية سُنية متوزعة الولاء، فضلاً عن فصائل التطعيم العرقي والمحلي من جماعات تركمانية وآيزيدية ومسيحية. هذا الإطار المُدمج من ولاءات سياسية – عقدية، هو استجابة لثقافة الدولة الغائبة، واستمرار لتلك الرؤية الجانبية الدائمة التي تريد أن تستمر بوصفهاً كياناً موازياً يساعد الدولة على الصمود أيضاً.
محاولة إفراغ "الحشد الشعبي" – الكيان الأمني الموازي – من ضرورته المرحلية المُلحة، تبدو كأنها قفزة إلى حفرة الرمال المتحركة القادرة على ابتلاع الاستقرار، لكنها أيضاً تمثل الحافة الهشة لانزلاق الدولة إلى الفوضى التي تمثلها تلك الحفرة.
عقب إعلان هزيمة داعش في (10 كانون الاول/ ديسمبر الماضي) كانت المخاوف تشير إلى أن القوة الفصائلية العائدة إلى الساحة المدنية، ستعزز تموضعها السياسي بالمشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة، رغم إعلانات رئيس الحكومة المتكررة بعدم السماح للمسلحين بالمشاركة، وهو مطلب القوى السُنية والكردية والمدنية – الصدرية ايضاً. لكن عملياً كان العبادي يُطلق دعايته التطمينية دون تقليم حقيقي لتك القوة ومنعها.
وطيلة العام 2017 كان المسلحون يحصلون على إجازة تسجيل من دائرة الأحزاب السياسية في مفوضية الانتخابات لجسومهم السياسية بمسميات مختلفة عن جسومهم العسكرية، خلافاً لقانون الاحزاب السياسية (36) لسنة 2015 الذي ينص على حُرّمة تشكيل الاحزاب بأجنحة مسلحة. وضرباً بـ"قانون تنظيم الحشد الشعبي" الذي اعتبر تلك الفصائل "كيانات مسلحة شرعية" تابعة للقائد العام للقوات المسلحة.
ولتحقيق الالتفاف المطلوب وتمكينها من الانتخابات، أطلق العبادي معادلة "نزع السلاح = المشاركة الانتخابية"، وفعلياً لم تعلن سوى [منظمة بدر – هادي العامري (12 لواء)، عصائب أهل الحق – قيس الخزعلي (4 الوية)، سرايا السلام – مقتدى الصدر: (6 ألوية) تجميد بشروط والإبقاء على قوة سامراء، سرايا الجهاد – حسن الساري (لواءان على الاقل)، سرايا عاشوراء – المجلس الأعلى (لواء على الاقل)]، الموافقة الشكلية على المعادلة الهشة، أي ما نسبته 4% فقط من الكتلة الشيعية المسلحة الداخلة ضمن الحشد الشعبي، والممتدة على 67 فصيلاً و122 ألف مقاتل (احتسبت لهم ميزانية رواتب و100 مليون دولار لغرض التسليح ضمن موازنة 2018).
ما يؤكد أن الجماعات المسلحة الشيعية غير جادة بنزع سلاحها واحترام الدولة العراقية، وأنها تتعامل ببراغماتية فجّة لغايات انتخابية وسياسية مع احتفاظها بخيار السلاح كضامن سياسي وشعبوي لها.
وبينما كانت الاوساط المدنية والسياسية تعوّل على إعلان النجف بانتهاء "فتوى الجهاد الكفائي" لسحب شرعية "السلاح المقدس" ورفع الغطاء عن المجموعات الحزبية المسلحة المنتشرة في مدن مستقرة وتهدد سيادة القانون، إلا أنها تلقت صفعة من النجف حتى بعد اندحار الجماعة الإرهابية، بأن "هذه الفتوى ماتزال نافذة لاستمرار موجبها"، ما منح الأحزاب الفصائلية المسلحة زخماً سياسياً وسلطوياً إزاء محاولات تقنين ونزع السلاح، وهو ما سيؤثر حتماً على نتائج الانتخابات المقبلة وخيارات الناخبين، بالتالي التحكم بمستقبل طويل مقبل.
فخ التحالفات
لم تتشكل أحزاب في العراق بمفهوم التنظيم والتقاليد الراسخة، بل ظلت تجارب سطحية تحاكي البرنامج الافتراضي لـ"الديمقراطية" المنتقاة كحائط صدّ لنشوء نظام "ديكتاتوري" جديد في ظل وجود "أغلبية" تفكر بـ"حكم الأغلبية" و"أقلية" تشتغل على "شراكة" مع "أغلبية حاكمة". هذا التعويم الديمقراطي هو صورة لتفكك الوعي السياسي في العراق، وانفلاش مستمر لفكرة العقد الاجتماعي – السياسي، وتدمير ممنهج لـ"الحرية السياسية" في ظل فوضى الاستقطاب الطائفي والزبائني.
أعلنت مفوضية الانتخابات توقيتات عدة لإغلاق تسجيل التحالفات الانتخابية بعد أن أغلقت تشكيل الأحزاب في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بتسجيل 204 احزاب، ضمت فصائل "الحشد الشعبي"، وأحزاب صورية مرتبطة بأحزاب أكبر لضمان حصد مقاعد عبر آلية احتساب الأصوات (سانت ليغو المعدل وفق المعادلة 1.7) التي تمنح أملاً ضئيلاً للأحزاب الصغيرة بالتمثيل النيابي.
وفقاً للأوراق الرسمية، بلغت التحالفات 54 تحالفاً، سُمح لـ 27 تحالفاً انتخابياً بالمشاركة فقط ضمّت 143 حزباً سياسياً تمثل واجهات القوى التقليدية أو الطامحين الجدد إلى السلطة، فيما يبلغ عدد الناخبين المسجلين نحو 24 مليون ناخب، حدّث 44% منهم فقط بياناته، ما يعني عجزاً انتخابياً بعزوف متوقع لنحو 13 مليون ناخب على أقل تقدير.
وللمرة الاولى يخرج حزب الدعوة الحاكم منذ العام 2005 مبكراً من الانتخابات دون تمثيل رسمي، إثر الانشقاق الذي أحدثه صراع العبادي – المالكي على ذلك التمثيل، فحرم الحزب نفسه من المشاركة حفاظاً على الوحدة التنظيمية، وفوّض قياداته التسابق انتخابياً بذواتهم الشخصية، فانفصل الغريمان: (العبادي/ ائتلاف نصر العراق – 29 حزباً وحركة) و(المالكي/ ائتلاف دولة القانون - 8 احزاب). وعلى المقسم الشيعي الاخر أعلن "الحشد الشعبي" عن لائحته (الفتح المبين - 18 حزباً وحركة) بزعامة منظمة بدر - هادي العامري.
وفجأة يُعلن في بغداد (14 يناير/ كانون الثاني) عن اندماج التحالفين الشيعيين الأقوى (العبادي – الحشد الشعبي)، ما شكل صدمة وانقلاباً بارداً من طرف رئيس الحكومة على التزاماته بنزع السلاح وتقنين الحشد سياسياً، فيما كانت اوساط مقرّبة تروّج أن ثمة تقارب اميركي – إيراني أثمر عن الاندماج، لكن بعد ساعات انفلش الاندماج، وأعلن الحشديون أنهم لن يتحالفوا مع العبادي، وغايتهم المُضمرة حرمانه من ولاية ثانية.
انهيار تحالف العبادي – الحشد، كشف عن مكامن خلل ومؤشرات مستقبلية خطرة، منها أنه كان يُصر على "تطبيق القوانين" ومكافحة الفساد وفَشَل، وحَوّل مفوضية الانتخابات إلى كيان جانبي ضمن مكتبه، ولم يف للشركاء السُنة والكرد بمنع السلاح في الانتخابات.
ووفقاً للمعطيات، تبدو شراكات ما بعد الانتخابات صعبة ومؤذية، فالحشديون يعترضون على تولي العبادي ولاية ثانية، وإن تعذر مطلبهم فسيشترطون كابينة مفروضة ومجلساً نيابياً منقسماً، بدلالة المقاعد التي سيحصدونها كفاتورة مستحقة الدفع عند الناخب الشيعي لقتالهم تنظيم (داعش). الأمر الذي تعارضه المرجعية النجفية وتعده استغلالاً سياسياً.
سُنياً يبدو مشهد التحالفات متنافراً وشديد التنافس، لجهة أن اللاعبين الكبار انقسموا على 7 تحالفات رئيسة بعضها متداخل بحكم التواجد في محافظات مُغلقة مذهبياً، لكن أبرزها (تحالف القرار العراقي – 11 حزباً وحركة) الذي يتزعمه نائب رئيس الجمهورية أسامة النجيفي ورجل الأعمال خميس الخنجر، فيما فضّل رئيس البرلمان سليم الجبوري التنافس في محافظته بتحالف (ديالى التحدي – 6 أحزاب)، وفي كركوك المتنازع عليها يخوض العرب السُنة بـ(التحالف العربي في كركوك – 7 أحزاب). لكنها بالنهاية تحالفات فئوية لم تحقق اختراقاً عابرا للطائفية.
وعلى المقسم الكردي، فإن القوى في الشمال العراقي، عززت من انقسامها وتفتتها بلائحتين انتخابيتين، أرجعت كل حزب إلى تحالفاته التقليدية دون أي اختراق يذكر بالنسبة إلى الحزبين الرئيسين (الحزب الديمقراطي الكردستاني – بارزاني) و(الاتحاد الوطني الكردستاني - طالباني) و الحزب الشيوعي الكردستاني بقائمة (السلام الكردستانية) والتي لن يدخل ضمنها حزب بارزاني في انتخابات كركوك، فيما حركة التغيير المعارضة ائتلفت ضمن (اللائحة الوطنية – ليستى نيشتمانى) مع القيادي الكردي المنشق عن طالباني، برهم صالح والجماعة الاسلامية.
فخ الشعار المدني
التجربة الانتخابية المُقبلة ستشهد صراعاً بين البُنى الحزبية التقليدية التي هيمنت على المشهد منذ انتخابات 2005، وبين الحشديين، المُنافس الثوري الذي خرج من خاصرتها بوصفه "مقاوماً" و"شعبوياً مقدساً"، وبين القوة الصدرية الجديدة المؤتلفة مع "التيار المدني" بشقه الأيديولوجي الذي يمثله الحزب الشيوعي العراقي، بعد أن قدمه الاخير إلى الناخب المدني كحليف مقبول رغم إرثه الأصولي المتشدد بـ(تحالف سائرون – 6 أحزاب)، ما مثّل نكسة اجتماعية للتيار المدني الذي يُنظر إليه كمُنقذ علماني نزيه للخروج من ورطة حكم الإسلام السياسي، لكن مع هذا التحالف الذي يبدو مُريباً لتنافر العقيدة، ابتلع الاسلاميون آخر حجرٍ في حائط الطبقة الوسطى المتهالك وهو يحاول الصمود أمام تردي الخدمات واستشراء الفساد والمحاصصة الطائفية.