”كانت له لحية أيضاً وذكريات وقطع السياج وجهه إلى عشرات القطع، قذف اتهامات ثقيلة بوجهي كأخ، وقال غاضباً: إنني صرت منفياً، مثقوباً بكراهية الذات، ومحباً للعرب، وخائناً ومخبراً حول شعبه في القصائد، وأكثر خطراً من المعادين للسامية، زعيم في المافيا، وذكرني بأوصاف وحشية لحارقي أوشفيتز وباليد الممدودة للرب الذي وعد بأن يعيد شعبه إلى أرضه أو أرضه إلى شعبه. واعتقدتُ لبرهة أنه يمكننا العودة إلى كوننا من أبناء الدين نفسه، يهوديين متعبين من تبادل الاتهامات، فأمسكت يده واقترحتُ الذهاب إلى ضريح شمعون الفاضل، والبكاء برقة على الرجل الورع والجراح التي سببناها لقلبه المكتهل، إلى أن يبكي الرجل الصالح علينا وعلى عمق الشق الذي يهدد بتقويضنا، وعلى أرض إسرائيل بين ألمانيا وفلسطين.»
ألموج بيهار، الشيخ جراح 2010. ترجمة تشانا مورغنتيرن
منذ عدة أسابيع ذكّر القائد العمالي آفي غاباي، الذي يُعتبر الأمل الجديد "لليسار الإسرائيلي"، الإسرائيليين بلحظة خاصة جداً حدثت منذ عشرين سنة وهي أن بنيامين ناتانياهو، الرجل الذي يمتلك حقاً غرائز بدائية لقراءة روح إسرائيل، همس في أذن الحاخام الضعيف قادوري قائلاً:“لقد نسي اليسار ما يعنيه كونك يهودياً“. يُعبّر هذا الشعار بدقة عن مشروع ناتانياهو السياسي، والذي يستند في الحقيقة إلى توليد عداء بين الصهيونية واليهودية. إن غاباي، والذي هو يهودي مشرقي ترعرع في معسكرات الترانزيت المشهورة بالمعاناة الناجمة عن إهمال الدولة الإسرائيلية، لم يستحضر أيام أوسلو واغتيال إسحاق رابين فحسب، بل أعلن أيضاً أن ناتانياهو كان مصيباً.
سيكون التفسير المشترك لحركة سياسية كهذه هو القول إن غاباي، مثله مثل يائير لابيد، يحاول بشكل انتهازي أن يربح الناخبين المحافظين من أجل الانتخابات القادمة من خلال محاكاة ناتانياهو. لكن تفسير الأمر بشكل مغلوط كهذا يعني إغفالاً كاملاً وصرفاً للنظر عن سياسة ناتانياهو الخاصة، والتي تعكس انقساماً طويلاً متأصلاً على نحو عميق في تاريخ اليهودية الحديثة. وينبغي أن نسلط بعض الضوء على المسألة، ففي إسرائيل يشير مصطلح يسار أو ”يساري“ تقريباً بشكل كامل إلى أصول إثنية واجتماعية-اقتصادية. ذلك أن ”اليساري“ هو شخص من خلفية أشكنازية (أوربية شرقية) لا يحتوي أبداً على أية سمات إثنية أو شتاتية. وقد نشرتُ مرة مقالة أثارت الجدل قلتُ فيها إن ”اليسار“ في إسرائيل هو الآن مسألة سياسة هوية وليس معتقدات سياسية. وأعلنتُ أنه بالرغم من أنني أقرُّ بالنكبة، وأدافع عن حق الفلسطينيين بالعودة، وتخليت عن وجهات النظر الاقتصادية، إلا أنني مع ذلك لا أعتبر نفسي يسارياً. إن اليسار في إسرائيل يعني ما يفهمه كثيرون في مكان آخر من مصطلح ”ليبرالي“ وفضلاً عن ذلك يعكس مواقف المؤسسة الإسرائيلية القديمة، لهذا السبب، إنه بالتالي مشكَّل من الخلاف بين اليهود المشارقة واليهود من أصل أوربي شرقي.
بعد نشر كتابها المشهور عن محاكمة أدولف أيخمان في القدس في 1961 شرعت حنا آرنت في مراسلات مع صديقها جيرشوم شولم صارت مشهورة جداً بعد أن اتهمها الأخير بأنها تفتقر إلى ”حب إسرائيل“. وكان نقد شولم موجهاً إلى تصوير آرنت للموظفين اليهود الذين ساعدوا في تدمير شعبهم أثناء الهولوكوست. وبالنسة لشولم، افتقر التصوير إلى ”فعل القلب“، وهذا عيب قال إنه موجود لدى اليسار اليهودي الألماني كله. إن هذا التوتر بين حب اليهود كمجموعة إثنية وكشعب، وبين الموقف الأكثر بعداً عن اليهودية كدين فقط، اتخذ أشكالاً كثيرة مع مرور الأعوام واعتمد على ثنائية في الديانة اليهودية نفسها. فمن ناحية، إن اليهودية موروثة عن الأم، هي علاقة بيولوجية، ومن ناحية أخرى، أن تكون يهودياً فإن هذا يرتبط بأداء الوصايا. وشدد على الفرق بين اليهود الألمان زاعماً أنهم براجوزيون منفتحون بقيم كونية، وبين أخوانهم من الشرق، زاعماً أنهم أكثر ارتباطاً بالخصوصية والطقوس اليهودية، وهذا ناجم عن وضعهم كأقلية بين الأقليات في الوفرة الإثنية والواقعية العنيفة لأوربا الشرقية. ويتغاير هذا مع الدول القومية في غرب القارة حيث كان اليهود أقلية تم التسامح معها، بالمعنى الدقيق للكملة. ويعتنق وجهة النظر هذه، مثلاً، الباحث البارز في التصوف اليهودي موشيه آدل. ويلعب اليساريون اليهود دوراً مهماً في هذا. ففي إسرائيل تم لوم اليساريين الإسرائليين المحليين على شيء آخر مختلف وهو حب العرب.
إن هذا الاتهام الخطير مهم لأنه ينطوي على سخف فحسب. ذلك أن معظم اليساريين الإسرائيليين لا يتحدثون العربية، ونادراً ما يتحدثون مع العرب، إن حصل هذا. وكقاعدة، ليست لديهم علاقات ودية أو حميمية معهم. مما يثير السؤال: لماذا يتّهم اليسار بحب العرب؟ في الحقيقة، إن الاتهام هو أيضاً طريقة للقول بأن اليسار غير مخلص، إن فعل ”يحب“ هنا يعني ”لا يكره بما يكفي“. لكن الجواب الكامل سيعالج فجوة داخل الخطاب الإسرائيلي وفي خارجه في آن واحد معاً. هنا، يشير الدخان المتصاعد إلى نوع مختلف جداً من الحب:حب اليهودي المشرقي. وهذا يعني، حب كل اليهود، بصرف النظر عن أصولهم.
هذا ما فهمه ناتانياهو حين كان يهمس لقادوري. فقد أشار بدقة إلى الشق الذي ربما كُتبت عنه حتى الآن ملايين الكلمات. إن الصهيونية، التي تدعم نفي الشتات، تعزّز العلمنة، والتي هي في حد ذاتها غريبة على اليهودية. وهي بالتالي تسعى إلى تحرير اليهود من يهوديتهم وتحويلهم إلى أوروبيين (”مثل كل الأمم“). وفي حملته الأولى في 1996 كان ناتانياهو هو الذي استخدم شعار ”ناتانياهو جيد لليهود“.
وكما بين المؤرخون والباحثون الثقافيون أمنون راز كراكوتزكين وجيل النجار وجيل هوخبرغ، فإن النموذج الذي قدمه الفصل الأوربي بين العلمنة والتنوير من ناحية وبين الدين من ناحية أخرى أشار بشكل واضح إلى اليهودية. ففي الوقت الذي كان الأوربيون يرسخون فيه انفصالاً كهذا في أوربا، نظرت الثقافة المسيحية إلى اليهود كغير عقلانيين وغامضين ومعذبين. وأعيد بناء التمييز بين الغرب والشرق وسار متوازياً مع تمييز كهذا. وبدورها، بدأت الثقافة العلمانية السائدة بالنظر إلى الدين (أي الدين اليهودي) كجزء من العالم غير الأوربي. وقَبِلَ اليهودُ المتحررون والمتعلمون والعلمانيون والصهاينة والإصلاحيون وبعض الشيوعيين بمبدأ نفي الشتات في معناه الأعمق، أي نفي كل شيء غير مشمول في الدولة العلمانية التقدمية، نفي الدين والشرق، الدين الذي بُني كجزء لا يتجزأ من ذلك الشرق نفسه. وبطرق كثيرة فإن اليهودية (ذلك الدين الغامض والمشرقي) هي التي صاغت علمانية أوربا منذ البداية.
ربما كان اعتناق الصهيونية لأدبيات العهد القديم ورفضها للنصوص اليهودية الحاخامية المقدسة المثال الأوضح على هذه الظاهرة. وفي الحقيقة، فإن ميلاً كهذا هو بروتستانتي بشكل قاطع. بدأ مع مارتن لوثر كينغ وتتوج في النازيين، الذين اعتبروا أن العقيدة اليهودية الأساسية هي التلمود، النص الأكثر أهمية للروح الدينية اليهودية الشتاتية (أي غير الإسرائيلية). وكان اختيار العهد القديم أيضاً خياراً لا يبعد المرء كثيراً جداً عن المسيحية. إنه كتاب مرجعي وقانوني عرّفت اليهودية والمسيحية نفسيهما على أساسه فقط بعد أن قبلتْه اليهودية الحاخامية وآباء الكنيسة، على التعاقب. فضلاً عن ذلك، إن اختيار العهد القديم هو فعل كلاسيكي من الاقتلاع المشرقي، كما فهمه إدوارد سعيد. ففي هذا الفهم، فإن القدماء سواء كانوا مصريين أو عبرانيين أو كنعانيين أو مؤابيين، إلخ هم مبجلون كمُثُل لكل اجتياح استعماري، بينما المقيمون المعاصرون في الأراضي نفسها (المصريون والفلسطينيون) ”غير مرئيين“ أو حتى موضوع للاحتقار. كان هذا النوع من الاقتلاع السيكولوجي مهماً بشكل جوهري للاستيلاء على الأرض، ويمكّن من تأصيل المستوطنين الاستعماريين بين السكان الأصليين. ويتلاءم هذا بشكل مذهل مع فكرة أن الأمة جماعة متخيلة، لأن الماضي هو دوماً نتاج الخيال، وفي الحاضر، يمكن أن يُقْمع الماضي (كماضي الفلسطينيين اليوم).
حين وصلوا إلى فلسطين، حاول اليهود أن يطيحوا بالشرق: سواء كان الشرق الأوربي لليهودية، والتي كانت قد بهتت جداً بسبب الهولوكوست، أو بشكل أكثر تكرراً، الشرق الذي كان يتحدث العربية، اللغة العدو. وعليه، إن النفي الأوربي (واليهودي) لليهودية استبدل في إسرائيل بنفي العرب، وكان هذا هو الموقف حتى 1967، ولكن بعد أن أصبح دور اليهود المشرقيين بارزاً، ذُكّر اليهود الإسرائيليون بأصولهم المشرقية، كما نُظر إليهم في أوربا. بدوره انقسم الاقتلاع في اتجاهين: كراهية العرب ومحبة العرب.
وهنا نصل إلى التهمة المذكورة سابقاً: محبة العرب. ففي زيارته التي تأخرت كثيراً إلى جنوب تل أبيب في أيلول\سبتمبر 2017 سمح ناتانياهو بأن تُلتقط له صورة مع امرأتين يهوديتين من أصل مشرقي أكبر سناً كانتا تقبلان يده، كما لو كان المسيح تقوده أمه مريم ومريم المجدلية. شغل اليسار نفسه بالنقد التشكيكي لزيارته مصرّاً على حقوق اللاجئين الأفارقة البائسين، الذي يسكنون في الجنوب إلى جانب السكان المشرقيين القدامى. وشددوا أيضاً على انشغال جماعات حقوق الإنسان المعتاد بالأراضي المحتلة. وفي الوقت نفسه، نشرت الصحيفة الإسرائيلية الليبرالية ”هاآريتس“ مقالة حول التوجه المتواصل لأطفال بلدات التطوير، التي كان سكانها حصرياً من أصول شرقية، إلى التعليم المهني. وكانت تلك الاتجاهات الثلاثة: شعبوية ناتانياهو، وتركيز اليسار المنظم على اللاجئين والفلسطينيين، والمشرقيين في بلدات التطوير الذين تُركوا في الخلف كما دوماً، جرعة مركزة لمدة أسبوع، وهذا ما دفع الروح الإسرائيلية منذ أن تأسست الدولة. ويمكن تلخيص هذا في الحقيقة البسيطة بأن اليسار الإسرائيلي هو ببساطة غير مهتم باليهود الذين من أصل مشرقي.
أشار إلى هذه الحقيقة المرعبة يهودا شينحاف سابقاً في 1996، وقلتُ مؤخراً إنها تقوض حق اليسار بالوجود. وقد حاولتُ في تلك المقالة نفسها أن أظهر أن منظمات مثل ”بيتسيلم“ و"كسر الصمت“، لا حق لها بالتحدث إذا لم تنخرط في الاحتجاج الذي يقر بالعرق والطبقة والحيوات المستقبلية بعد الاستعمار التي تتكشف في المسبق اليهودي الداخلي وتفاوتات السلطة بين اليهود. لكن هذا في الحقيقة يشكل جزءاً من تشكيل اليسار لذاته ولعلاقته مع الآخر. ومن خلال الاحتجاج على وضع العرب في مكان ما هناك في ”الأراضي“ يتم تمكين اليهودي الليبرالي الجيد. إنها مسألة تقرير مصير وتأكيد للذات. وحين يثير ناتانياهو اليساريين قائلاً إنهم نسوا كيف يكونون يهوداً، فإنه يلوم ضمنياً اليسار الإسرائيلي على نسيان اليهود المشرقيين. وبالفعل، حتى هذا اليوم لم يتصالح اليسار في إسرائيل مع الفجوة الرضّية في وسطه. وفي الذكرى الخمسين للاحتلال، يجب أن نعبر عن المعنى الأعمق لحرب الأيام الستة. فقد منح احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عمقاً جغرافياً ومعنى للفصل بين اليهود والعرب، وسمح بإنشاء إسرائيل الشرعية المفرغة من العرب بشكل فعال، وضمنياً المفرغة من اليهود. وصوّر اليسار الإسرائيلي دوماً السنوات التسع عشرة الأولى من الدولة كعصر ذهبي، بدون حروب. وكانت حرب الأيام الستة أيضاً الحرب الأولى التي لعب فيها اليهود من أصل مشرقي دوراً فعالاً في اضطهاد الفلسطينيين. وسمح التركيز على هذا لليسار الصهيوني بأن ينغمس في فكرة أنه لولا اليهود و العرب (اليهود الذين هم عرب، بكل المعاني المرتبطة بالمصطلح، كمثل المشرقي، والمتدين والمتشدد والجاهل) لن يكون هناك احتلال أو عنف. إن اليهودي الصهيوني الجديد، عضو الغرب، مُشكَّل من خلال محو العرب. وتقدم حرب 1967 تطهيراً لذنوب 1948. لكن لا بد من توضيح الأمر هنا، فأنا لا أقول إنه قبل 1967 لم تكن هناك كراهية لليهود الشرقيين أو بعامة للعرب من قبل المؤسسة الإسرائيلية. بالطبع كانت هناك كراهية. لكن حرب الأيام الستة رسمت الانقسام، وعلى جانب منه كانت كراهية العرب، من قبل اليهود المشرقيين، وعلى الجانب الآخر الحب المفترض للعرب من قبل اليساريين. وكانت هذه نتيجة الحرب. ويمكن التعبير عن الموقف كله هكذا: مع وصول اليهود الذين ليسوا من بلدان غربية إلى إسرائيل، وخاصة بعد مشاركتهم في اضطهاد الفلسطينيين، استطاع اليهودي الأوربي أن يكمل ثورته الصهيونية ويصبح يهودياً بلا إله. للمرة الأولى، استطاع اليهودي الأوربي أن ”يقتلع“ و“يُسْقط“، وهما مصطلحان سيكولوجيان يشرحان كيف تمكّن البيئة الذات المتخيلة. وهذا اليهودي الجديد يستطيع في النهاية أن يحقق المشروع القومي كما عبر عنه راز-كراكوتزكين، شارحاً آرنت في جوابها لشولم:“لا يوجد رب، لكنه وعدنا بالأرض“.
لم تثر تعليقاتي المنشورة سابقاً رد فعل من أصدقائي الناشطين الذين يقومون بعملهم المهم، لكنه مضلل، في منظمات حقوق الإنسان سابقة الذكر. هنا، سأسعى إلى الكشف عن النفاق في قلب اليسار الإسرائيلي، الذي يصيب أيضاً المفكرين الراديكاليين (لم يصب المفكرين الصهاينة و جزءاً من المؤسسة) مثل جدعون ليفي ودانيل بلاتمان أو إلانا هامرمان، الذين يركزون في نقدهم على 1948 لكنهم يواصلون تجاهل اضطهاد اليهود المشرقيين. إن خطاب حقوق الإنسان في إسرائيل، وخارجها، يتردد في ذكر الإثنية والسلالة والطبقة، وبالتالي يُسْكت المعاني الضمنية الاستعمارية لحكمها كله، في ”أراضيها“ وخارجها. ويقف هذا في تغاير صارخ مع ناشطين مثل عضو الكنيست جمال زحالقة أو المحامي باراك كوهن، أحدهما يهودي عربي، بما أن تجربة المنفى، كما فهم محمود درويش المسألة، تجمع سوية العرب واليهود، والآخر يهودي عاش بين العرب وصادف أيضاً أنه كان متديناً.
يستند المشهد الاستعماري إلى التمييز بين الداخلي وبين الخارجي، بين الدولة الميتروبوليتانية وبين المستعمرة، بين الشرعي وبين اللاشرعي. وتنسخ الصهيونية بشكل فعال المقاربة الاستعمارية حين تميز وتفصل ”الأراضي“ عن الدولة. وهذا يخدم اليسار لأنه يسمح له بأن يتخيل أن الدولة الاستعمارية توجد فقط هناك، بينما يستقر إنجاز إسرائيل الاستعماري الأكثر وضوحاً أقرب إلى الوطن: يتحول ”البائع البولوني المتجول إلى مفكر ألماني“، هذا إذا استعرنا عنوان كتاب عالمة الاجتماع عزيزة خزوم، بينما يكون لدينا دوماً شخص يصنع الفلافل والكبة والشاورما ضمن الحدود ”الشرعية“ لتل أبيب.
إن النفاق متضمن في الاستعمار، وربما هو أيضاً شرطه الجوهري. وتتبع الإمبراطورية أسلوب تقديم مظهر حميد بينما بعيداً في ”الأراضي“ تمارس سياسات إبادة جماعية. ولا يقتصر اتهام اليسار الإسرائيلي بالنفاق على إسرائيل. إنه يعكس حقبتنا برمتها، حيث عززت المصالح الذاتية وورثت المكان الذي كان يحتله النفاق سابقاً. وبطرق كثيرة، هناك تبرير لانتخاب دونالد ترامب: تمتلك الدول الصناعية مصانع مليئة بالعمال المستغلين أيضاً في الوطن، لكنها تتجاهلهم بينما تستورد بسخاء (وفي الغالب من خلال أعمال خيرية) طلاب دكتوراه أجانب من كل مكان آخر في العالم. وبينما ترامب بليونير وُلدَ مالكاً للثروة فإن افتقاره للغة المصقولة رد فعل على النفاق المتضمن للإمبراطورية، النفاق الذي يمكّن الحكم الاستعماري. وبالرغم من أن ناتانياهو لا تهمه إلا مصالح معينة إلا أنه يحقق على الأقل وعداً واحداً. تستطيع أن تقول أشياء كثيرة عنه، لكنك لا تستطيع أن تتهمه بأنه يحب العرب. وفي الواقع الصهيوني (هذه هي الثورة الأكبر التي أنجزتها هذه الحركة الأوربية) كراهية العرب هي التعبير الشرعي الوحيد عن حب اليهود. وهذا يفسّر، ربما، كيف استقرت تهمة كراهية الذات بين اليهود خارج إسرائيل، ولو بطريقة مشوهة، في الذهن الإسرائيلي. إن الكراهية كتعبير وحيد عن الحب هي السمة الكريهة التي يجسدها ناتانياهو والتي يتماهى كثيرون معها بشكل وثيق. وربما كان ناتانياهو السياسي اليميني الأكثر تمرساً في العالم اليوم، وألهم شخصيات مثل ترامب ومتطرفي أوربا الحاليين. هذا، مرة ثانية، ما يسم الصهيونية كلها. ففي إسرائيل 1948 خُلق اليهودي المتطرف من خلال نفي العرب، وفي إسرائيل ما بعد 1967 خُلق من خلال نفي اليهودي المشرقي، والذي يحصل إلى جانب الحب المزعوم للعرب. بالتالي، من يذكّر اليهود بيهوديتهم؟ ليس ناتانياهو، الذي ليس متديناً. ففي الصيف الماضي، في أحد الاحتجاجات الأسبوعية ضد ناتانياهو، صاح أحد المتظاهرين، وهو يهودي علماني، بمتظاهر متدين، قائلاً له ”أخرجْ السجادة من رأسك“ وكان يعني القبعة. سرى الفيديو، الذي وثق تلك الحادثة، كالنار في الهشيم في مواقع الإعلام الاجتماعي، واتُّهم المتظاهر العلماني (بشكل مبرر) بالعداء للسامية. بالطبع، خارج إسرائيل، حصلت حالات كهذه بتواتر أكبر. هناك شيء مقلق حيال رؤية هذا يحصل في إسرائيل لكن المفارقة المرة هي أنه أثناء الحكم الاستعماري، في البلدان اللاغربية هوجم اليهود من قبل جيرانهم العرب الذين أشاروا أيضاً إلى مظهرهم. ولم يكن هذا عداء للسامية بالمعنى الكلاسيكي، على أي حال، لكنه احتجاج ضد التعاون اليهودي مع الغرب. وكما قالت إيلا شوحيط، هاجم العربُ اليهودَ الذين تمسكوا بالعلمانية الأوربية من خلال حلق لحاهم وخصلات شعرهم الجانبية.آنذاك، كان العرب هم الذين وبخوا اليهود الشرقيين بقسوة لأنهم ”نسوا ما يعنيه كونهم يهوداً“. واليوم يعبّر الكثير من اليهود الشرقيين عن احتجاجهم من خلال الجملة التلمودية:”يجب أن تكون الأولوية لفقراء مدينتك“ التي صارت في إسرائيل مؤشراً على الكراهية والانفصال عن مواطنيها الفلسطينيين. لكن في أساس البنية الأخلاقية لليهودية، في التوارة، ثمة كلام عن الحب أيضاً:“أحبب جارك كما تحب نفسك“، تقول الوصية التي صارت حجر أساس الروح الحاخامية، بعد الحاخام أكيفا والحاخام هيليل.وكما بين ألنجار، تتغاير هذه الوصية مع وصية المسيحية البولسية:“أحبب عدوك“، والتي تتضمن جرعة النفاق الضرورية للمشروع الاستعماري. لا شك أن هناك وصية طاعتها أصعب، ووصية ربما تعبر عن جوهر الحب نفسه، والذي يوجد أولاً وأخيراً معك، أنت نفسك، كيهودي، كعربي:”كنفسك“.
[ترجمة: فريق الترجمة في جدلية]