أدخلت رضوى عاشور في روايتها "ثلاثية غرناطة" (1994) حقبة الوجود الإسلامي في الأندلس إلى المجال الروائي العربي. بهذا المعنى يمكن اعتبار ثلاثيتها عملاً تأسيسياً لفتحها الباب أمام العديد من الروائيين لاختيار هذه الحقبة الزمنية الطويلة إطاراً زمانياً ومكانياً لأعمالهم، فظهرت روايات متعدّدة ومختلفة في الأسلوب والمضمون كـ"رحلة الغرناطي" لربيع جابر، و"راوي قرطبة" لعبد الجبار عدوان، و"البيت الأندلسي" لواسيني الأعرج.
دخول الأندلس إلى الرواية سبقه دخولها إلى الشعر، وهو ما يظهر جلياً مع محمود درويش على سبيل المثال لا الحصر. هذا الحضور المتزايد ابتداءً من القرن العشرين لا يمكن فصله عن عوامل اجتماعية وسياسية مختلفة، وهو ما تعبّر عنه رضوى عاشور في المحاضرة التي ألقتها في مدريد بمناسبة صدور ترجمة الثلاثية إلى الاسبانية في العام 2000: "رأيت صورة المرأة العارية التي تبدأ الرواية بها ذات مساء شتائي وأنا أتابع على التلفزيون قصف الطائرات الأميركية لبغداد. الأرجح أنّ المشهد فتح باباً للذاكرة فالتقت بالمشهد مشاهد مثيلة: قصف الطائرات الإسرائيلية لسيناء عام 1956 و1967، قصف لبنان عام 1978 و1982، والقصف المتصل للمخيمات الفلسطينية ومدن وقرى الجنوب اللبناني. في ذلك المساء وأنا أتابع أخبار قصف العراق، رأيت المرأة العارية تقترب مني وكأنّني أبو جعفر الورّاق في الرواية يشاهد في عريها موته. استبد بي الخوف وأنا أسأل: هل هو الموت الوشيك؟ وإن كان فأيّ علاقة أديرها الآن مع موتي؟ ومع السؤال داهمتني غرناطة فبدأت أقرأ(...) كلّما قرأت أكثر تشكّلت أمام عيني ملامح تاريخ مقموع ومهمّش، مسقط في الغالب الأعم من الكتابات العربية، لماذا؟ تساءلت وما زلت، ففي الفترة تاريخ موازٍ، في عناصره من أسئلة الحاضر أكثر من سؤال: سؤال الانكسارات والنهايات، وسؤال الهوية والعلاقة بالآخر، سؤال التهميش وقمع الحريات والحق في الاختلاف؟".
في السنوات الثلاث الأخيرة ظهرت أكثر من رواية عربية تدور أحداثها في الأندلس مع اختلاف التواريخ المنتقاة كإطار زمني للأحداث. اليوم سنتناول خمسة منها على تفاوت جودتها. إضافة إلى حوارين مع روائيين مصريين هما أحمد عبد اللطيف ومحمد عبد القهار، للبحث عن الأسباب التي تدفع المزيد من الروائيين لتناول الموضوع، ومدى تداخل الماضي بالواقع الراهن.
"الموريسكي الأخير"
يسعى صبحي موسى في روايته الصادرة عن "الدار المصرية اللبنانية" (2015) لكتابة رواية أجيال، على غرار ثلاثية رضوى عاشور أو "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز. يمزج موسى الماضي بالحاضر، فيوازي بين أحداث ثورة الموريسكيين في البشرات بين عاميّ 1568 و1571، وأحداث مصر بين ثورة 25 يناير وصولاً إلى إسقاط "الإخوان" في 30 يونيو، من خلال شخصيتيّ محمد بن عبد الله من بني جهور في غرناطة، وشخصية حفيده مراد رفيق، آخر ذكور العائلة في القاهرة.
تتشابه شخصية محمد مع شخصية رفيق، كلاهما يعمل في الفن (محمد نحات ورفيق رسّام) وكلاهما يعيشان في فترة مضطربة، لكن بينما ينخرط محمد في الأحداث، يقف رفيق طوال الوقت متفرّجاً على ما يجري حوله غير قادرٍ على الانخراط. يقود محمد إيمانه بصواب خياره وجذوره الممتدة طويلاً في الأرض، بينما يكبّل رفيق إحساسه بالغربة والوحدة كموريسكي لا يعرف لنفسه هوية واضحة.
الفكرة الجذابة للوهلة الأولى، امتلأ تنفيذها بالمشاكل. يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى الاسقاط المفتعل لأحداث يناير على أحداث البشرات، فإذا استثنينا مصطلح الثورة، لن نجد أي تلاقٍ بين الحدثين. وإن بدا سرد فترة البشرات مترابطاً ومتماسكاً، فإنّ سرد الزمن الحاضر متشعب بخطوط كثيرة لا تخدم مسار الأحداث ولا تلتقي ولا تكتمل بل تشتّت القارئ.
يمكن القول إنّ موسى كاتب جيد وروائي سيء، إذ ضاعت اللغة المتينة والعديد من المشاهد المكتوبة بإتقان في بنية غير محكمة. يضاف إلى ذلك التسرع وانعدام المراجعة اللتين تبدوان سمتين رئيسيتين للعمل، وهو ما يظهر في العديد من الأخطاء التاريخية، أبرزها إعطاء مساحة واسعة في السرد للعلاقة بين ثوار البشرات وقائد أساطيل الخلافة العثمانية خير الدين بربروس، رغم أنّه ولد ومات قبل وقوع الثورة بفترة طويلة!
"غارب"
يستعيد محمد عبد القهار في روايته الصادرة عن "مدارات للأبحاث والنشر" (2016) سيرة موسى بن أبي الغسان آخر قادة غرناطة العسكريين قبل استسلامها للتاج الإسباني. وإن كان موسى على الأغلب شخصية غير حقيقية، إلّا أنّ عبد القهار يعيد بناء حياته منذ الولادة وحتى الموت في قالب فني محكم وبنية سردية شديدة التعقيد وشديدة التماسك في الوقت نفسه.
ينسب عبد القهار موسى إلى أسرة بني الأحمر ملوك غرناطة، كابن للسلطان سعد المستغني بالله، جد أبو عبد الله الصغير، ويستعرض قصة حياته عبر الضمائر الثلاثة، أنا، وهو، وأنت. يعتمد الأول على تقنية الرسالة، حيث يروي موسى فيها ما يجري معه لابنه عبد الملك في المغرب، أما الثاني فهو بصوت الراوي العليم الذي يسرد لنا ما يجري مع الشخصيات، بينما يجري الثالث بصيغة المخاطب، ونتابع فيه صراعات موسى الداخلية.
تلعب اللغة إلى جانب البراعة في الوصف دوراً رئيسياً في رفع مستوى الرواية ونقلك إلى أجواء الحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث. يبدو واضحاً الجهد المبذول في الاعتناء باللغة وصقلها لتبدو أنّها خطّت في تلك الفترة، وهي إلى ذلك تتغيّر بتغيّر الصوت، من الشعرية العالية في بعض الأجزاء إلى التقريرية في أجزاء أخرى. أما الوصف فيُبيّن غوص الروائي في كتب تلك الفترة للتعرف على عادات الناس وطرق عيشهم.
وبعيداً عن التقديس أو الشيطنة التي ترافق تناول الشخصيات التاريخية، تُجرّد الشخصية هنا من أسطوريتها، وتُرجع إلى طبيعتها البشرية العادية. نتابع شخصية موسى في مواقف وظروف مختلفة، تتكشّف فيها التناقضات بين ما يؤمن به وبين ما يفعله، كأيّ إنسان عادي، وصولاً إلى موته وحيداً في لحظته البطولية الأخيرة بعد استسلام الجميع أمام جنود أراغون وقشتالة، كصورة تصلح لهزائم الماضي كما تصلح لهزائم الحاضر.
"حصن التراب"
يعود أحمد عبد اللطيف في روايته الصادرة عن "دار العين" (2017) إلى الفترة التي أعقبت سقوط غرناطة، من خلال قصة عائلة محمد دي مولينا، سارداً بلغة شعرية معاناة المسلمين على يد التاج الاسباني منذ بدايات القرن الخامس عشر وصولاً إلى الطرد في العام 1609.
يعتمد عبد اللطيف في سرده على ما يمكن اعتباره ثلاثة أصواتٍ سردية: الرسائل والمخطوطات التي دوّنها أبناء عائلة دي مولينا، والوثائق المأخوذة من ملفات محاكم التفتيش، إضافة إلى روابط لأفلامٍ وثائقية ومقطوعاتٍ موسيقية على الإنترنت التي يشير في المقدمة إلى ضرورة متابعتها للتمكّن من استحضار حالة الرواية وأجواءها.
يبدأ السرد من الرواي المجهول الاسم، ويتنقّل دون ترتيب زمني في الفترة الممتدة بين العامين 1414 و1679، وبين المدن التي عاش فيها أفراد العائلة بين كوينكا، مسقط رأس العائلة، وصولاً إلى مدريد، مروراً بتطوان. تقوم الرواية على تشظية السرد وتفكيك الحبكة والتسلسل التقليديين، لنتعرف بشكل متقطّع وعلى حدة على كلّ شخصية من الشخصيات، وعلى ما عانته كلّ منها في زمانها. وإن كان هذا "التعقيد" في السرد يفرض درجة أعلى من التركيز على القارئ إلّا أنه متّسق مع مسار القصة ومع طبائع شخصياتها.
يظهر الحاضر في الرواية فهي بتناولها لما عانته أقلية مستضعفة تحيلنا إلى زمننا الحالي مع الحديث المتزايد عن الحريات الدينية وقمع الأقليات واضطهادها. وإن كان موضوع الرواية تراجيدياً، إلّا أن طريقة تناوله كانت شديدة الذكاء، بعيدة عن البكائيات واستدرار الدموع، إذ اعتمدت بشكلٍ كليّ على سرد الأحداث كما هي ودون مبالغة، ناجحةً إلى حد كبير بتقديم عملٍ مختلف ذو بنية متماسكة وجذّابة.
"ربيع قرطبة"
بعد روايته "الموريسكي" (2011)، المنشورة بالفرنسية، يعود حسن أوريد مرّة جديدة إلى الأندلس في راويته الصادرة مؤخّراً (2017) عن "المركز الثقافي العربي" إلى الأندلس، لكن هذه المرّة إلى الفترة الأموية، في آخر أيام الخليفة الحكم المستنصر بالله، ابن عبد الرحمن الناصر مؤسّس الخلافة الأموية في الأندلس.
يدور السرد على لسان الحكم المحتضر في سريره، حيث يروي لعددٍ من تابعيه الخلص كجوذر أحد كبار خصيان القصر، والفتى البربري زيري، والطبيب اليهودي شرحبيل، سيرة حياته، منذ ولادته، مروراً بمرافقته لوالده الناصر ومن ثمّ توليه الحكم بعد وفاته، وصولاً إلى مرضه وسيطرة الحاجب المنصور بن أبي عامر على مفاصل الدولة.
يدخلنا أوريد إلى قلب القصر، ويعرّفنا على كيفية إدارة الدولة وآلية عمل نظم الحكم فيها، وكيف تؤثّر مزاجية الحاكم وهواجسه الشخصية في اتخاذ القرارات. على سرير موته يشرّح الحكم نفسه أمام المقربين، ويكشف الجانب المخفي لشخصية الخليفة، فإلى جانب الحزم والقوة والثقة المطلقة، هناك جانب آخر مليء بالضعف والقلق والخوف، وهو جانبٌ بدأ بالتكوّن منذ الطفولة مع الوفاة المفاجئة لشقيقته الصغرى زينب، وتعمّق عبر الزمن مع خسارته لحبّه الأوّل والوحيد هند، وابتعاد صديقه باشكوال عنه وانقطاع الصلات بينهما.
وإن كانت الرواية مكتوبة بلغةٍ جميلة، شاعرية في بعض المواضع، وبأسلوبٍ ممتع رغم اتّباعها التسلسل الزمني التقليدي للأحداث، إلّا أنّ شخصية أوريد وأفكاره تطغى بوضوحٍ في مواضع كثيرة على شخصية الحكم، ليبدو أنّه من يتكلّم لا الخليفة. يحوّل ذلك الرواية في مواضع كثيرة لتبدو أشبه ببيان سياسي أو تصورٍ لخطّة عملٍ للمملكة المغربية الحالية، خاصة مع الإشارة المتكرّرة لضرورة المساواة بين العرب والأمازيغ أو التحذير من الخطر الشيعي (الفاطمي وقتها) والتنبيه إلى مساوئ حصر السلطات في يد واحدة، بمصطلحاتٍ ومفاهيم بعيدة تماماً عن تلك المستخدمة في ذلك العصر.
"غرناطة الحصن الأخير"
انطلاقاً من رحلة امتدت شهراً في إسبانيا ومن قراءات متعدّدة لكتب تاريخية وروايات تتناول حقبة الحكم الإسلامي للأندلس، ألّف الفلسطيني فايز رشيد روايته الصادرة مؤخّراً عن "منشورات ضفاف" (2017). تتناول الرواية زيارة ماجد طالب الدكتوراة الفلسطيني في باريس إلى إسبانيا وتعرّفه في الطائرة على لوليتا ووقوعهما في الحب، متنقلين خلال الرحلة بين المدن والأثار الإسلامية في اسبانيا.
كُتب في تقديم الرواية أنّ "عناصر من عدّة فنون تجتمع فيها: الرواية والرحلة والسرد التاريخي"، وهو صحيح إلى حدٍ ما، فالنص الموجود أمامنا خليط من هذه العناصر كلّها، دون أن يكون مشابهاً لأيّ منها. نحن أمام بنية سردية ركيكة وسطحية تتشكّل وتترابط بشكل مكشوف وبدائي. تنقسم الرواية إلى خطين رئيسيين، الأوّل أشبه بـ"روايات عبير"، نتتبع فيه وقوع ماجد في غرام لوليتا من النظرة الأولى وصولاً إلى موته المتوقع في النهاية، مع ملأ الفراغ بين الحدثين بالكثير من العبارات العاطفية المبتذلة والمكررة والمشاهد الجنسية المكتوبة بمراهقة واضحة. أما الخط الثاني فنتعرف فيه على الآثار الإسلامية من مدريد إلى طليطلة مروراً بغرناطة بأسلوبٍ تقريري يصلح لكتيّبٍ سياحي أكثر بكثيرٍ ممّا يصلح لرواية. بين هذا وذاك، يحاول الكاتب خلق طبقاتٍ ومستوياتٍ أكثر عمقاً للسرد، لكنّها بدت جميعها مبتورة وشديدة السطحية تقوم على التحسّر على الماضي العظيم والمجد التليد.
يبدو الدافع الوحيد لكتابة هذا النص رغبة "الروائي" في تحقيق أمنية شخصية في الكتابة عن رحلة قام بها، دون أيّ تفكير أو اهتمام أو عناية بالنص الروائي إن كان من ناحية البنية السردية أو من ناحية اللغة.
متى استفاق أهل المشرق على الأندلس؟
يشير الدكتور ماهر جرّار في دراسة بعنوان "خيمة للحنين: محمود درويش والأندلس" إلى أنّ العرب بدؤوا باستعادة تاريخ الأندلس أواخر القرن التاسع عشر، مع بداية الاستعمار التي ترافقت مع تفتّح الشعور الاسلامي والقومية العربية. لافتًا إلى جهود المستشرقين والرحالة الغربيين الرومنسيين، كشاتوبريان ورينهارت دوزي وواشنطن إيرفنغ التي لعبت دورًا مهمًا في اكتشاف العرب لـ"فردوسهم المفقود، ومجدهم الضّائع". افتتح شكيب أرسلان تلك المرحلة بترجمة "سراجيات" شاتوبريان وأتبعها بتأليف "خلاصة تاريخ الأندلس" (1897). لاحقًا نشر أمين الريحاني "نور الأندلس" (1910). وتبعه في العام 1923 نشر عبد الرحمن البرقوقي كتاب "حضارة العرب في الأندلس"، وفي السنة نفسها بدأت تظهر أندلسيات شعراء "العصبة الأندلسية" في المهجر الأميركي الجنوبي. وابتداء من العام 1936، ومع إعلان الفلسطينيين ثورتهم على الإنكليز بدأ استحضار الخروج من الأندلس عند الحديث عن فلسطين في قصائد غلب عليها الطابع الخطابي، وهو ما بدأ لدى الشعراء النجفيّين والعامليين قبل أن يتلقفه الشعراء الفلسطينيون.