أحمد عبد اللطيف: "حصن التراب صوت المهزومين مقابل السلطة"
بداية، ما الذي دفعك للكتابة عن فترة الوجود الإسلامي في شبه جزيرة إيبريا؟ ولماذا باعتقادك بدأت الروايات التي تعالج هذه الفترة تكثر في الآونة الأخيرة؟
في الحقيقة لا أعرف الأسباب التي تدفعني للكتابة عن شيء معين في وقت معين، لكن لو فكرت الآن ربما أجد أسبابًا كثيرة، ربّما منها علاقتي بالثقافة الإسبانية ودراستي لتاريخ هذا البلد واهتمامي بفترة إسبانيا المسلمة تحديدًا، وربّما لأنّي شعرت في لحظة أنّ ذاكرتي امتلأت بمشاهد كثيرة عن عائلة متخيلة كانت تعيش في تلك الفترة. عشت فترة في العديد من المدن الإسبانية الإسلامية، وكان تخيل حياتهم حدثًا شبه يومي، لهذا أقول إن "حصن التراب" رواية كتبت في عامين، لكنها ظلت تتكوّن في ذهني على مهل على مدار عشرين عامًا. أما أسباب معالجة روايات أخرى لنفس الفترة أعتقد لأنها فترة ملهمة لكل كاتب، فترة تحقق فيها التعايش المنشود في العالم ثم أعقبه ظلم بيّن على أفراد لم يعاقبوا على شيء إلّا معتقدهم الديني. أظنها تمثيل لتاريخ الإنسان على الأرض بكل ما فيه من قسوة وعنف، تمثيل ينتهي عادة بالدم لكن لا يتوقف عنده.
نحن أمام رواية عن الفترة التي أعقبت سقوط غرناطة. لكن لا يمكننا أن نعتبرها رواية تاريخية بالمعنى المتعارف عليه. أنت لا تسرد أحداثًا، بقدر ما تدفعنا لمتابعة يوميات عائلة موريسيكية (كما يتضح من العنوان) في ظل حكم التاج الاسباني. كيف توصلت إلى هذه الصيغة؟ ولماذا ابتعدت عن النمط المعتاد في الروايات التاريخية؟
هي بالطبع رواية تاريخية بحكم زمنها، لكنّها كما تقول ليست رواية تاريخية تقليدية، وهذا ما كنت أطمح إليه ككاتب مشغول بطريق سرد غير مألوفة. حكاية الفترة بطريقة الآخرين لا يشبع طموحي ككاتب، ولا يحرّك خيالي حتّى. من هنا، كان اختيار عائلة مهمشة، مجموعة من الناس العاديين الذين وقع عليهم الظلم ودفعوا أثمانًا لأخطاء لم يرتكبوها. الرواية بهذه الصيغة تطرح سؤالًا آخر حول "الحقيقة" حول "التاريخ الرسمي" وأبطاله المنتصرين، وهذا التاريخ لا يعنيني إلّا باعتباره رواية لما حدث من وجهة نظر لن أتبناها. الرواية التاريخية، في رأيي، تقفز خطوة بعيدًا عن التاريخ، هي خطوة الخيال ومنح أصوات لمن لا صوت لهم. من هنا يأتي الخيال ليسد ثغرات الواقع، ليجيب عن أسئلة لم يستطع التاريخ أن يجيب عنها، أو أجاب بطريقة غير مقنعة.
أيضًا، أنت ابتعدت عن شيء آخر يغلب على هذه الروايات، هو أنّها تدور دائماً حول أهل الحكم والسلطان. أنت هنا تحكي قصّة عائلة عادية لا يوجد أيّ ارتباط بينها وبين السلطة. ما الذي دفعك لاتّخاذ هذا الخيار؟
أهل الحكم والسلطان رووا روايتهم، سواء عبر التاريخ أو عبر روايات أخرى جعلتهم أبطالًا. أنا أبطالي ليسوا هؤلاء، أبطالي الحقيقيون هم المسالمون والمهزومون، هم الناس العاديون الذين أنتمي إليهم وأسمع أصواتهم ترن في أذني. ومن خلالهم، يمكنني أن أتناول سؤال السلطة وأخطائها، بذلك يكون صوتهم في مقابل أصوات السلطة. لاحظ أنّ الناس العاديين هم في النهاية من تعرضوا لمحاكم التفتيش، من بترت أطرافهم وفقدوا حيواتهم وفي النهاية طردوا إلى أرض لا يعرفونها. هؤلاء هم الأبطال، هم أبطالي، هم من شعرت بهم يملؤون قلبي، ومن دفعوني للكتابة عنهم.
من جهة أخرى، يقوم جزء كبيرٍ من السرد على أسلوب يعتمده معظم من كتب عن تلك الفترة ألا وهو الرسائل أو المخطوطات. لماذا اعتمدت عليه؟ ولماذا باعتقادك تلجأ إليه الأغلبية؟
داخل هذا النمط المعروف من المخطوطات، اعتمدت الرواية السحارة داخل غرفة مهجورة لتكون نقطة الانطلاق للبحث عن الحقيقة، أو عن الذات والجذور. ربما نقول إنّها ذريعة روائية، مجرد إطار أو عتبة تؤدي بنا إلى أقبية ودهاليز. استخدام هذا التكنيك له أسبابه المنطقية، مثل محاولة الإقناع بالحقيقة. الرواية الجيدة هي الرواية القادرة على إقناع القارئ بأنه أمام عمل حقيقي، أو واقعي أو منطقي، وربما بدا لي هذا التكنيك أكثر منطقية من حكاية الرواية بشكل مباشر بأصوات أصحابها. لاحظ أيضًا أن البطل الرئيسي يعيش بيننا الآن، ويرحل إلى زمن ماضٍ عبر باب التاريخ الذي فتحه له أبوه، هذا الباب، بحسب ما كنت أفكر أثناء كتابة الرواية، لا يمكن أن يفتح إلا من خلال مخطوطات ورسائل، مجموعة أوراق صفراء متآكلة وذائبة.
تبدو "حصن التراب" أشبه بقصيدة شعرية طويلة. هناك عدّة عوامل تعطي هذا الانطباع: المشاهد التي تنقلها لنا بما تحمله من صور وكثافة رمزية (كرؤية الأب اسمه على الورقة التي سقطت من على غصن الشجرة في الفصل الأول)، إضافة إلى اللغة وتراكيب الجمل وتتابعها، بما تحويه من حساسية عالية. هل كان هذا خياراً واعياً منك؟ وما الغاية منه؟
رواية بهذا الشجن، تتناول هذه المأساة الموريسكية وتسرد حيوات أفراد عانوا من محاكم التفتيش والطرد، كانت في حاجة إلى لغة شعرية قادرة على تجسيد المضمون. هذه اللغة لم أتعمد صناعتها، بل جاءت بشكل تلقائي كاستجابة طبيعية للأحداث. أنا ممّن يعتقدون أنّ الشكل والمضمون كلٌ واحد، وأن اللغة عماد أساسي في السرد، وأهميتها تكمن في أن تحاكي العالم السردي، والحقيقة أنّي ضد اللغة كوسيلة توصيل، لأني اعامل اللغة كمشكلة يجب حلها، وأعتني بها لتؤدي أدواراً أخرى غير توصيل المعلومة.
هناك شيء جديد تماماً في هذا العمل، أنت تضمّن النص روابط تحيلنا إلى مقطوعاتٍ موسيقية وأفلام وثائقية تنتمي إلى تلك الفترة. في العادة قد يضمن الروائي صورة أو خريطة. أنت تنقل السرد هنا إلى مستوى آخر تمامًا، وهذا التضمين في الوقت نفسه لا علاقة لك به، أي أنّ هذا نتاج لأشخاصٍ آخرين. بمعنى آخر أنت، إلى حدٍ ما، تدخل رواةً آخرين في اللعبة الفنية. لماذا؟ وألا تشعر بأنّ ذلك قد يضعف من انتماء النص الروائي إليك؟
نعم، كانت الفكرة أن أدخل رواة آخرين بوسائل أخرى غير اللغة المكتوبة، أن تتكاتف كل الفنون الأخرى لتروي نفس المأساة بأدواتها، وكان للموسيقى دور كبير في هذا التأثير. هي قناعة شخصية أنّ كل الفنون تتكامل، وأن بوسع الرواية كفن أن تستوعب فنونًا أخرى بداخلها، وأعمل على أن يستفيد النص المكتوب من النغمة المغناة والمشهد الممثّل. هذا التناغم، هذه الأواني المستطرقة التي يرن صداها في كل فصل في الرواية كان، تكنيكيًا، يتفق مع بناية الرواية نفسها، حيث كل الشخصيات تكمّل حكاية واحدة، كل الشخصيات تروي ما رأته من المأساة، بنفس طريقة كل الفنون الاخرى وهي تكمّل النص المكتوب. لو لم تلجأ كقارئ إلى اللينكات، ستجد الرواية مشبعة كنص مكتوب، أو هذا ما أطمح إليه، لكن اللينكات، واخترتها بعناية، كانت قادرة على خلق "حالة مزاجية"، حالة بالنظر إليها بعمق ستجد أنها حالة الرواية نفسها. ربما هذا يعيدنا إلى السؤال الأول عن سبب اختياري لعائلة عادية لا علاقة لها بالسلطة، لأنّ هدف الرواية هو خلق حالة يتشارك فيها القارئ مع الكاتب، فيرى كل منهما من نفس الزاوية عائلات مهجرة على مراكب تعبر البحر من دون أن تدري أين سيستقر بها المطاف.
تعمل في الرواية على تفكيك الحكاية وتشظيتها، نحن لدينا الرسائل المتوارثة ولدينا روابط على "يوتيوب" ومحاضر من محاكم التفتيش. لكنّك في الوقت نفسه لا تراعي الترتيب الزمني، قد نقرأ رسالة كتبت في العام 1530 ثم تقفز بنا في الرسالة التالية إلى العام 1609، ثم تعود بنا إلى العام 1570 مثلاً. من جهة أخرى لدينا عدّة فصول تروي بشكل مؤلم وسحري تحوّل عدد من أفراد أسرة دي مولينا إلى حجارة، ممّا يحيلنا إلى الواقعية السحريّة وتحديداً غابرييل غارسيا ماركيز. أولاً ما الذي دفعك لتشظية السرد بهذا الشكل؟ وهل كانت هناك أساليب سردية محدّدة في بالك خلال عملية الكتابة؟
التشظي السردي كشكل له علاقة بالتشظي الإنساني كمضمون، وله علاقة بمنطقية الأحداث، بمعنى أن البطل يمد يده ليخرج مخطوطة ليست بالضرورة في ترتيبها الزمني الصحيح، هو محاولة أخرى للإقناع بمنطقية السرد. حين أفعل ذلك، لا أستدعي أساليب سردية أخرى، بل أبتكر الأسلوب المناسب لسرديتي. إن طموحي ككاتب، منذ روايتي الأولى، أن أسمع لصوتي الداخلي، وأن أكون صوتًا لا يمثّل إلا نفسه، كتابتي بالتالي تشبهني، وهي تمثيل صادق لرؤية للعالم، بكل ما فيه من التباسات وتشوشات وحيرة وكفر بالحقائق المستقرة، بما فيها الحقائق المستقرة في الكتابة نفسها. ثمة سبب آخر لا يقل أهمية، أنّني أبحث عن منح متعة للقارئ خلال القراءة، لم أرغب، وأنا أسرد قصة أناس تعرضوا للتعذيب والتهجير، أن تكون الرواية جافة، تاريخية محضة، بترتيب تسلسلي عمودي رتيب، إنما أردت أن تكون القراءة مسلية وممتعة، لأن الرواية غير المسلية، مهما كانت عظمتها، تفتقد لأحد أهم أعمدة فن الرواية وهو المتعة، والمتعة لا تتعارض مع القيمة كما تعرف، ولا تتعارض مع جماليات أخرى.
إلى أيّ درجة كان الواقع الحالي حاضراً في ذهنك خلال كتابة النص الروائي؟ خاصة أنّك تتحدّث عن أقلية تتعرض للاضطهاد من قبل أكثرية مهيمنة، وهو أمر كان متواجداً دائماً عبر التاريخ، لكنّه يبرز بقوة أيضاً في زمننا الحالي.
نعم، لم يغب الحاضر عن ذهني في مرحلة ما قبل الكتابة وبعدها، بشكل تلقائي تجد نفسك تعقد مقارنات وتندهش من أنّ الكائن البشري لم يتعلم الدرس أبداً رغم معرفته بالنتائج مسبقاً، أو ربّما كانت طبيعته النسيان. لم أقصد في الحقيقة عمل إسقاطات، إنما التأمل بعمق وبعدسة مكبرة في أسئلة جوهرية في الثقافة العربية، وهي أسئلة تخص الدين بقدر ما تخص السياسة. منذ سنوات وأنا مشغول بفكرة "التزييف"، تزييف الحقائق والقدرة على خلق أخرى مناقضة، وتزييف الوعي بتوجهات سياسية. هل اتضح لك الآن لماذا اخترت عائلة موريسكية ولم أختر ملوكاً ليكونوا أبطالًا؟ لأن البشر العاديين هم المستهدفون من كلّ سلطة، وحين تأتي العواصف يقفز أهل السلطة من المركب لنغرق نحن بمفردنا.
هل هناك من رواية جديدة تعمل عليها وما هو محورها؟ وهل ستعود للكتابة عن محنة الموريسكيين أو فترة الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية؟
نعم، أعمل على رواية الآن لكنّها ليست تاريخية. ربما أعود في وقت آخر للتاريخ، وهو شغفي، من زاوية أخرى. لا أعرف، وربما لا. عادة لا أخطط لما سأكتبه، وأحب الاستسلام للخيال ليقودني، وأثق أنه لا يخيب ظني.