محمد عبد القهار: "ننتقي من التاريخ ما يشبه واقعنا"
بداية، ما الذي دفعك للكتابة عن فترة الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية؟ ولماذا كثرت الروايات التي تعالج هذه الفترة في الآونة الأخيرة؟
كان لديّ دائماً شعور غامض بالحنين لهذه الفترة خاصة مع نهايتها المأساوية. كنت في السادسة عشر عندما قرأت أنّ موسى بن أبي الغسان هو "الفارس الذي كان مقدرًا له أن ينقذ الأندلس". عندما بحثت لم أجد معلوماتٍ تشفي غليلي، فقررت بعناد المراهقين أن أكتب رواية عنه. كانت تلك بداية تفكيري في الكتابة عموماً، لا بالأندلس فقط. حدث ذلك في العام 2006. منذ ذلك الوقت وسّعت قراءاتي وتعرفت على أشخاص مهتمين بالقراءة وكتبت روايتي الأولى "ساراي نامه"، وتعمّقت رؤيتي وبحثت في تاريخ الاندلس أكثر واكتشفت الكثير من الأمور المثيرة للاهتمام. من وجهة نظري تاريخ الأندلس هو تلخيص مضغوط للتاريخ الإسلامي في حيّز مكاني وزماني محدّد. بالنسبة للآخرين فالأكيد أنّ هناك أسباب تخص كل مؤلّف. لكن أظنّ أنّ هناك أسباباً جماعية، منها الحزن الدائم المرتبط بالأندلس، ليس لأنّها نكبة فقط. نحن الآن نواجه شيئاً من الهيمنة أو الاستعمار الغربي. أوّل رقعة لهذه المواجهة المباشرة كانت في الأندلس. يمكن القول إنّ ما حدث هناك كان بروفة لما حصل في العالم الإسلامي بعد ذلك، ولهذا يحضر دائمًا عند الحديث عن فلسطين. خسارة الأندلس تصلح كرمزية ومرثية لكل النكبات عندنا. كذلك فكرة التشرذم والانقسام في عصر ملوك الطوائف تصلح دائمًا لاستخدامها كإسقاط على الحاضر. باختصار تاريخ الأندلس مليء بالرموز والمجاز والحزن ممّا قد يدفع المزيد والمزيد من الناس للكتابة عنه.
هذه الرواية ضخمة، لا من حيث الحجم فقط بل أيضاً لجهة الكثافة، هناك الكثير من الأحداث، الكثير من التفاصيل، من الواضح أنّ هناك جهداً هائلاً فيها. كيف كتبتها؟
هناك ركنان أساسيّان ساعداني في هذا العمل. الأوّل، كتابة "ساراي نامه" كتجربة رواية تاريخية أولى لي، حيث حاولت استحضار فترة من تاريخ الدولة العثمانية وتشابكات القصر فيها. أفادتني التجربة كثيرًا بسلبيّاتها وإيجابياتها، خاصة لناحية البحث في المصادر وكيفية انتقاء ما يناسبني منها لأنسج أحداث الرواية. فيما يتمثّل الركن الثاني في بنية السرد. كان لديّ رغبة شديدة في وجود بنية متماسكة وواضحة، لا مجرّد مشاهد كما في العمل الأوّل. كانت قراءة "موت أرتيميو كروز" لكارلوس فوينتس من المصادفات اللطيفة، حيث قسّمت الفصول إلى ثلاثة أجزاء الأوّل هو الأنا، وتحكي فيه الشخصية عن نفسها، أما الثاني فكان هو، الذي يسرده الراوي العليم، ومن ثمّ الجزء الثالث: أنت، والذي يمثّل لاوعي الشخصية. بالنسبة لي لم يختلف جزء أنت لديه كثيرًا عن جزء الأنا، لذا عندما كتبت "غارب" لجأت إلى التقسيم نفسه، لكنّني اعتمدت في جزء أنت أسلوبًا أكثر تعقيداً، مستنداً على أسلوب الغزالي الذي نقله عن اليونانيين في "كيمياء السعادة"، ووسّعه رجل دين سوري معاصر، هو عبد الرحمن حبنكه الميداني في كتابه "الأخلاق الإسلامية"، والذي بدا لي نموذجًا مركّبًا جدًا ومتماسكًا. بعدها اخترت أن أكتب جزء الأنا على شكل رسالة. فيما اخترت تقسيم الرواية إلى 12 فصلًا بعدد شهور السنة وأسماءها الأندلسية انطلاقًا من قراءة كتاب "التقويم القرطبي". في الحقيقة هناك مادة دسمة جدًا ساهمت في وجود مادة سرد مركبة ومعقدة.
من يقرأ "غارب" يشعر أنّ الكاتب يعيش في تلك الفترة، من ناحية الوصف وتصوير الأشياء، من القصور إلى البيوت وصولًا إلى الطبيعة والطعام والملابس. لكن أيضًا لدينا عمل مبهر على اللغة. تجاوزت ما يمكن اعتباره مشكلة في الروايات الحديثة حول تلك الحقبة، خاصة الروايات المشرقية منها، هناك حضور كثيف لمصطلحات من الفصحى المغاربية. وأيضًا الحوار، والذي استخدم في مواضع قليلة، كتب بلهجة أندلسية عامية. كيف تمكنت من اتقان اللغة إلى هذا الحد؟
لو كنت أعمل على سيناريو فيلم أو مسلسل فالأكيد أنّه سيكون بلغة فصحى معاصرة، وسأقنعك بأنّ هذا العمل تاريخي بأدوات كالأزياء والديكورات. لكن في الرواية أنا لا أملك أداة غير اللغة، لذا أنا أحتاج لاستخدامها بكلّ أبعادها لأتمكن من نقل القارئ إلى العالم الذي أتكلّم عنه. جزء كبير من اتقان اللغة جاء بسبب عزلة لغوية فرضتها على نفسي. قضيت قرابة ثمانية أشهر أقرأ كتباً تراثية دوّنت في الأندلس لأعزل نفسي عن أيّ مؤثر خارجي. لم أحصر قراءاتي في الكتب الشرعية أو الفقهية فقط، بل قرأت كتبًا لسياسيين، كـ"التبيان" لابن زيري، وهو مشحون بالتعبيرات الأندلسية، و"جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى"، إضافة إلى كتب الرسائل والمقامات، وأعمال أخرى كـ"حدائق الأزاهر" لابن عاصم الغرناطي، وهو كتاب أمثال ونكت ونوادر. سمح لي ذلك بالتعرف على لغة الناس الدارجة. في النهاية الأدب لا يقوم على الحقيقة بل على الإيحاء بها. يمكنك أن توحي بها من خلال تقليد طريقة كتابة الناس في ذلك الزمن. أيضاً لا أنسى مؤلّف شديد الأهمية، هو "الأمثال العامية في الأندلس" للدكتور محمد بن شريفة، وهو عن أمثال العوام في الأندلس، فقد ساعدني على التقاط جمل وتعبيرات لاستخدامها في الحوار الذي كان محدودًا، لصعوبة تمكّن القارئ من متابعة حوارٍ ممتد بالعامية الأندلسية. أيضًا فرض كلّ ضمير نفسه فيما يتعلّق باللعب على اللغة، وبالتالي كنت مجبرًا على تغيير أسلوب السرد عند تغيير الضمير. كان هذا متعبًا في عملية الكتابة لكنّه خلق لكلّ واحد منها جوًّا مختلفًا عن الآخر، وهو ما أردته.
كيف استطعت أن تهضم كلّ هذه الكتب وما تتضمّنه من معلومات لتظهرها لنا في النص كجزء لا يتجزّأ من العمل، دون أن تبدو مقحمة أو استعراضًا من الكاتب لمعرفته (وهو ما يحصل كثيراً في الروايات التاريخية)؟
هناك جزء أساسي مرتبط ببنية السرد لأنّها تجبرك أن تركّز على موسى. طبعًا فكرة أنّ موسى يتكلم عن حاجات مدركة من الزمن. يعني لماذا قد يشرح لابنه بالرسالة كيفية عمل السواقي، بينما الأخير يعرف ذلك. نفسية موسى هي الأساس الذي تتوظّف فيه الأشياء. يعني كنت راغبًا بتبيان مهن مختلفة من تلك الحقبة، فكان المدخل لذلك تردّد موسى بين الحرف وما يريده. وساعد ذلك أيضًا في تبيان صراعات الشخصية وخيباتها وفشلها. تمركز بنية السرد حول موسى دفعني دفعًا لتضفير التفاصيل في قصة موسى. الجانب التاريخي الذي يظهر في الرواية يشكّل ستين في المئة فقط من البحث الذي قمت به، ولأنّ بنية السرد تجبرك ألّا تترك موسى للحظة ساعدني ذلك على عدم الاستطراد في تفاصيل البحث.
يقوم واحد من هذه الأجزاء على رسائل يبعث بها موسى إلى ابنه عبد الملك في فاس. وأسلوب الرسائل موجود تقريباً في كل الروايات التي تحكي عن الأندلس، وبعضها يقوم تماماً على هذا الأسلوب. ما الغاية من استعمال هذه الطريقة في السرد؟ ولماذا يلجأ الجميع لها؟
بالنسبة لي كانت الرسالة مبرّرًا ليسرد موسى بصيغة الأنا ما يعرفه عن نفسه. إلى جانب أنّ الرسالة نفسها تحمل شيئًا من الرثاء للنفس وشيئاً من العزاء، أي رغم ما ضاع والعالم الذي انهار والهزيمة التي حدثت يمكننا حفظ الصورة التي سبقت هذه الهزيمة في الأوراق وأن نخلّدها. الكاتب نفسه يرغب بأن يحفظ في الورق ما يرى أنّه لم يعد موجوداً في عالم الواقع. رسالة موسى فيها عزاء لنفسه ولابنه، وهو يوثّق أو يرسم نفسه من أجل ابنه، كونه لم يعش معه ولم يعرفه كما يجب ولم يقدر أن يربيه كأي أب آخر. بمعنى ما كانت تعويضًا عن احساسه بالذنب لمفارقته ولده. لذا أرى أنّ استخدام الرسائل كان مبرّرًا ومتّسقًا مع شخصية كموسى متردّدة بين عالم الكتب وعالم الواقع.
لا وجود لشخصية موسى بن أبي الغسان لدى المؤرخين المسلمين في تلك الفترة، ممّا يعني أنّه قد يكون شخصية وهمية. مع ذلك أنت اخترته وبنيت له سيرة حياة كاملة، وربطته بأسرة وجذور مَلَكيّة تعود لبني الأحمر حكام غرناطة في تلك الفترة. إلى أيّ حد يمكن في الرواية التاريخية إعادة قولبة التاريخ وتغييره؟
برأيي أنّ الضابط الوحيد الذي من الممكن محاكمة الروائي عليه هو مدى مطابقة الأحداث الخيالية للمنطق الزمني. العمل التاريخي قائم على الإيحاء بالحقيقة، لذا يجب أن يكون الخيال من جنس الحقيقة، وبالتالي من الخطأ إدراج أحداث أو أفعال للشخصيات بعيدة عن منطق الزمن الذي تتواجد فيه.
أنت أتيت بشخصية تقدّم عادة بقالب أسطوري، لكنّك نزعت عنها أسطوريتها، جرّدتها منها، وأعدتها إلى بشريّتها بما تحويه الصفات البشرية من ضعف وخوف وجبن وجهل وكسل. كيف تمكّنت من الخروج من الأسطرة، والتي تسيطر على شخصيات التراث العربي والإسلامي، حتى عند تناولها أدبيًا، من جرجي زيدان وحتى اليوم؟ ولماذا قمت بذلك؟
نزع الأسطرة جزء من مشروعي في تقديم التاريخ الإسلامي. وقد بدأت العمل على ذلك بشكل بسيط مع شخصية محمد الفاتح في "ساراي نامه"، وتوسّعت فيه مع شخصية موسى في "غارب". في النهاية التاريخ الإسلامي ليس الإسلام، بل ما فعله المسلمون على هذه الأرض. وبالتالي لا يجب أن يكون هناك حرج في الحديث عن شخصياته بشكل بشري. إذا اعتبرنا الإسلام دينًا سماويًا فلا يؤثر في صحّته تصرفات أتباعه على الأرض. معظم من يتناولون الشخصيات التاريخية بشكل أسطوري أو تحقيري، يكون لديهم مشكلة مع الحاضر قبل الماضي. مثلًا في هجوم يوسف زيدان مؤخّرًا على صلاح الدين، برأيي أن زيدان ليست لديه مشكلة كبيرة مع صلاح الدين، ومشكلته الأكبر مع عبد الناصر. لكن بدلًا من تصفية حساباته معه فهو يصفي حساباته مع رموز الدعاية الناصرية. أو مثلًا جرجي زيدان فهو ينطلق من شعور وانتماء قومي يحتاج لوجود أبطال خاصين به. هناك مشكلة دائمًا بالارتباط في الحاضر عند مقاربة الماضي، مما يعيق أيّ محاولة للتجرد وفهم التاريخ بعيدًا عن تصفية الحسابات أو الدعاية أو الصراع الأيديولوجي.
بالنسبة لي، فأنا لا أعرف ما هو الأسطوري في شخص لا يشعر بالخوف أو المتعة أو اللذة أو الأنانية أو الرجاء أو الطمع، أي شخص مثالي طوال الوقت. شخص كهذا على ماذا يتغلّب؟ وأين الأسطورة فيما فعله؟ الأسطورة الحقيقية تكمن في الشخص الذي رغم إحساسه وتنازعه بكلّ هذه المشاعر الإنسانية اتّخذ قراراً بالصمود. عدم الأسطرة هو الأسطرة الحقيقية في واقع الأمر.
"غارب" هي رواية الهزيمة، والهزيمة هنا ليست بالمعنى العسكري، بل بالمعنى الثقافي العميق، وموت البطل في النهاية يبدو كما لو أنّه محاولة للقول إنّه موجود، مجرد موقف، لكنّه يظهر كموقف لا يبنى عليه أي شيء بعده، يتبعه الانسحاق التام والنهائي. لكن هنا لا يمكنني أن أتجاهل نقطة مهمة هي إلى أيّ درجة كنت تحت تأثير ما يحصل اليوم في مصر وفي العالم العربي بشكل عام أثناء كتابة الرواية؟ أو إلى أي حد كان ذلك حاضراً في ذهنك خلال عملية الكتابة؟
من أهم سمات الرواية التاريخية هو تعدّد الأزمنة، بأيّ معنى، بمعنى أنّ هناك زمن لأحداث الرواية وزمن لكتابتها وزمن لقراءتها. أنا كنت أفكّر في كتابة الرواية من العام 2006، حيث كانت الهزيمة حاضرة ومترسخة. وفي العام 2013 ابتدأت العمل عليها بشكل مكثّف، وهو عام نكبات الربيع العربي، أي كانت الهزيمة حاضرة وأنت تحلّلها. بالتالي لا يمكنك فصل هزيمة الأندلس كرمز عن هزيمة الوقت الحاضر الذي تكتب فيه، خاصة أنّ العمل الأدبي هو عمل ذاتي بالنهاية. لذا من الصعب فصل شخصي أو أيّ شخص يسعى للتغيير عن شخص موسى. و"غارب" هي رواية هزيمة، لأنّها تنحى للموقف الفردي. كأنّ موسى أيقن استحالة النهضة الاجتماعية أو الانتصار في زمنه. ففضل أن يتحمّل المسؤولية لوحده كنوع من إبراء الذمّة، ككرة يائس. ربّما أنا لا أستطيع أن أكرّ كرّة اليائس، لكن أستطيع أن أٌخلص لمن قام بذلك، كمحاولة لفهمه أو للتواصل الوجداني معه. نوع من الوفاء لشجاعة لا أستطيع أن أجسر على الاتيان بمثلها. في النهاية لا يمكن أن نفصل الواقع عن التاريخ، بل وطأة الواقع هي ما تدفعنا لننتقي من التاريخ ما يتشابه مع حالتنا النفسية لمحاولة الفهم أو لإيجاد العزاء ربّما.
انطلاقًا من هنا، شعرت في بعض المواضع أنّ صراعات الشخصية وهواجسها وأفكارها انعكاس لشخصية الكاتب؟
الذات حاضرة دائمًا في الرواية، والاحتراف يكون في مدى قدرتك على إخفاء ذاتك. صراع الهوية حاضر لديّ بشكل دائم. الانتماء للحياة الصغرى أم للحياة الكبرى؟ الخاصة أم العامة؟ هل الأمر يستحق التضحية أم أنّ الانكفاء والانعزال هو أفضل المتاح؟ يظهر هذا في رسالة موسى إلى المقام النبوي. باعتقادي أنّ هذا ليس صراعي وحدي بل صراع يعاني منه الجيل كلّه.
لماذا لم تأخذ الرواية اهتمامًا كافيًا لجهة النقد؟ هل لذلك علاقة ببعدك عن الأوساط الثقافية؟
نعم، علاقاتي محدودة في الوسط الأدبي، وهذا مؤثّر في وسط تلعب العلاقات فيه دور رئيسيًا، إضافة إلى صعوبة تحوّل العمل إلى رواية شعبية لصعوبة موضوعها ولغتها. بالتالي يؤثّر ذلك على التوزيع أو الانتشار أو الاعتراف النقدي. على كلّ حال أنا اخترت لنفسي ألّا أحترف الكتابة، وأعمل حاليًا كمبرمج بدوام كامل، ليكون لديّ استقلال مادي يتيح لي كتابة ما أريده في الوقت الذي أريده وبالجودة التي ترضيني.
هل هناك من رواية جديدة تعمل عليها؟ وهل ستبقى في الإطار التاريخي بعد "غارب" و"سراي نامه"؟
أعمل حاليًا على روايتين مشتركتين، وأكتب كل واحدة مع صديق مختلف، وهذه أوّل مرّة أجرب فيها الكتابة الجماعية. المشروع الأوّل هو رواية معاصرة، يمكن القول بشكل عام جدًا إنّها عن عالم الشركات المتعدّدة الجنسيات في مصر. أمّا الثاني فمشروع طموح للكتابة عن مصر العثمانية. أعتقد أنّنا سنحتاج لعدّة أعوام قبل أن تبصرا النور، لكنّني آمل أن تكونا تجربتين واعيتين جدًّا وأن تمثّلا نقلة نوعية بعد "غارب".