كأنني كنت أنتظر عرض فيلمه "هانا. ك" في بغداد صيف 1986، كي تبدو مقالتي عنه خالية من أي تاويل، وقبل ذلك يبدو نشرها أمرا ممكنا، فمع إنتصار المخرج اليوناني الأصل، اليساري الأفكار غوستا غافراس، للإنسان الفلسطيني صار الطريق ممهدا لنشر مقالة كنت ضمنتها بعضا من محطات معرفتي الشخصية ومعرفة جيلي، بصاحب فيلم "زد" وغيره من الأعمال، التي أسهمت بتعميق الوعي بقضية الحرية وجوهرها الإنساني، وكي لا تبدو تلك الإستعادة لأجواء بغداد الثقافية في سبعينيات القرن العشرين، "حنيناً شخصياً" للفكرة السياسية اليسارية التي كنت محسوباً على تيارها، وظلت تهمة جاهزة تلاحقني أكان ذلك في زمن "البعث" أم في زمن معارضيه، وحيالها دفعت أثمانا كبيرة لا معنى لها، كون تلك الصلة الفكرية والسياسية لم تكن في حقيقتها سوى صلة بائسة خلال سنوات من دراستي الجامعية، وتحديدا السنوات ما بين 1974- 1977. وما لبثت ان خرجت من إطارها الفكري والسياسي الضيق إلى آفاق الحرية والليبرالية الغربية.
وحين أستعيد تلك المقالة اليوم، فقد جعلتها جزءا من ملامح بغدادية لصاحب فيلم "حالة حصار"، حين كانت أفلامه، جزءاً من نشاط جمالي وفكري، انشغل فيه جيل سبعينيات القرن الماضي في العاصمة العراقية وغيرها من مدن البلاد.
قد لا تتمكن المصائر الفردية بكل ما تحتويه من أبعاد اجتماعية، أن تظهر عمق أزمة جماعية، أو تعبر عن معطياتها بشكل جلي، هذا على مستوى الواقعة المجردة، لكن ذلك قد لا يصبح دقيقا في تفاصيل العملية الفنية الخلّاقة، حين تجد في ذلك المدخل قوة للكشف عن واقع ما، وفي السينما بالذات نجد إمكانية هائلة للتعبير عن المجموع بقراءة واقعة معينة أو رؤية فترة تاريخية معاصرة عبر استقراء خفايا حادثة فردية، لما للسينما من قدرة للتكثيف والتجسيد واختزال الامتداد الزمني، وإعطاء الرموز قدرة ونفوذا في التعبير عن حالات تتطلب الاسهاب، حين تعرضها الأنواع والأنشطة الذهنية والفكرية المتعددة.
إن مقدمة كهذه تحيلنا لأعمال المخرج كوستا غافراس اليوناني المولد (أثينا – 1933 ) من أب روسي وأم يونانية، الفرنسي الجنسية، ونختار هنا أربعة أفلام تتوافق مع استنتاج المقدمة، والأفلام هي " زد – 1968 " المعروض في بغداد 1971، " حالة حصار – 1972 " وعرض في بغداد 1974، "المفقود – 1982" والمشاهد سراً في العراق عبر أشرطة الفيديو المسربة من خارج البلاد في منتصف عقد الحرب الرهيب، و "هانا. ك – 1984 " الذي عرض في بغداد خلال شهر تموز/يوليو 1986.
واعتمدت الأعمال الأربعة على حوادث فردية للكشف عن أزمة اجتماعية شاملة، ففي فيلم "زد "نجد ان حادثة اغتيال النائب البرلماني اليوناني ( لامبراكيس ) في عام 1963 والتي أمعن الفيلم في اظهار تفاصيلها، قد أوضحت جوهر سلطة حاكمة بكامل مؤسساتها وطبيعة الظرف الاجتماعي للبلاد، كما ان المخرج غافراس في فلمه التالي "حالة حصار"، ينقلنا إلى أجواء الصراع والديكتاتوريات الحاكمة في بلدان أميركا اللاتينية عبر حادثة اختطاف تقع لوزير خارجية احدى تلك البلدان.
أما قوة الحادثة الفردية وقدرتها في التعبير عن صدق واقع بأكمله، فذلك يتجسد عبر فيلم غافراس المهم "المفقود" الذي حاز به على جائزة مهرجان كان – 83 مناصفة مع فلم المخرج التركي يلماز غوني الذي حمل عنوان " يول – الطريق"، وتعتمد قصة الفيلم ومحور أحداثه على قضية الصحافي الأميركي ( شارل هورمان ) الذي قتل أثناء تغطيته لوقائع الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس الشيلي سلفادور الليندي في العام 1973، حيث قام والد هذا الصحافي وهو أدمون هورمان (الممثل جاك ليمون) ويعمل رساماً، برفع قضية اختفاء ولده إلى القضاء، وقام بجمع الحقائق في ملف كامل، المحامي توماس هوسر. وسيناريو الفيلم اعتمد ذلك الملف مادة له، وفيه الكثير من المعلومات ليس عن ظرف اختفاء الصحافي حسب، بل وقائع تكشف وتدين الإنقلاب، لكن غافراس، بدأ هنا في استبدال لغته السينمائية تماما، فهو لم يشر مباشرة ولم يسم أحداً، بل اكتفى باللمحة القوية المؤثرة، فلم نجد هنا تلك الحركة والغموض البوليسي، وتلك خصائص أفلامه الأولى، وتصاعدت بدلا عنها إيماءات زاخرة بالحيوية ورموز مبهرة (الفرس البيضاء المنطلقة في شوارع سانتياغو المقفرة) لكنه في الوقت ذاته، يكشف للمشاهد اثناء بحث زوجة الصحافي، بت (الممثلة سيسي سباسيك) عن زوجها (المفقود)، عن هول المجزرة وما تعرضت له من قيود وصلت للاعتقال لمجرد إنها كانت تسأل عن زوجها، على الرغم من كونها أميركية، وذلك يوفر لها ميزة خاصة عند سلطات النظام الحليف لبلادها !
في حقل الألغام الفلسطيني
" المفقود" نجح في كل صالات العرض (شاهده محبو السينما الرفيعة ببغداد عبر أشرطة الفيديو الشخصية)، حقق غرضه في الكشف عن مأساة شاملة، لكنه أظهر لاحقا وعبر ذلك النجاح ازدواجية كبيرة ولا حيادية في موقف الإعلام والمؤسسات الثقافية في الغرب عموما، حيث قوبل فلم غافراس التالي "هانا – ك" بصمت مطبق إن لم نقل بالمحاربة، على الرغم من كون فلم "المفقود" كان أكثر جرأة في قول الحقائق وبلغة أكثر فصاحة، وبرؤية دقيقة لم تتوفر بذات الوقائع في "هانا – ك" الذي عرض في سينما "سمير أميس" ببغداد 1986، وحين نتيقن السبب، يبطل عجبنا فالفيلم الأخير يتحدث عن القضية الفلسطينية وتلك لوحدها تحدث في أوساط الغرب السياسية والثقافية الكثير من الفزع؟ وذات الحقائق التي قبلت من غافراس في "المفقود"، لم تقبل منه هذه المرة بل انه وصف بأشد اللعنات، كيف لا ؟! وهو يشير ويسلط الضوء على "جوانب" من الحقيقة، حقيقة البناء العنصري الاسرائيلي. وكانت خير وسيلة للنيل منه هي في ضرب حصار من الصمت المطبق حول الفيلم ومحاربته باشنع الوسائل، واتهم المخرج بالتهمة الجاهزة: "اللاسامية"، وحينها وجد المخرج ومنتجته، ميشيل راي غافراس وهي زوجة المخرج، نفسيهما في وسط ملغوم بالافتراء !
"هانا – ك" هو اسم المحامية (هانا كونمان)، اليهودية النازحة لأرض "الميعاد" المتزوجة من الفرنسي فيكتور (جين يان) والتي تتركه على إثر خلاف، وتجد مع رفيقها قاضي التحقيق جوشوا (جبريال بيرني) عبر صداقة وطفل غير شرعي منه، ما يحقق أمنياتها- الوهم بعسل عودتها لأرض الميعاد التاريخي. غير ان وقائع كهذه ما تلبث ان تتفكك شيئا فشيئا مع ظهور الفلسطيني (محمد بكري) الذي يعثر عليه متخفيا في بئر أحد البيوت الفلسطينية وهو يبدأ رحلة العودة لأرضه بطريقة يعتبرها الإسرائيليون "لا شرعية". المخرج مع بداية كهذه لا ينسى أن يظهر حقيقة جنود الاحتلال، اذ يفجرون البيت مع أول خيوط الفجر المنسجمة مع أصوات الأذان!
تكلف المحكمة العسكرية، المحامية ( كوفمان ) بالدفاع عن المتهم الفلسطيني التي تستغرب من هيئة المحكمة في تأكيدها على كون موكلها "مخرباً" وهو الأعزل من كل سلاح، ومن هنا يبدأ الشرخ في وعي كوفمان، وذلك ما يلبث ان يتعمق ويصبح شكوكا في حقيقة وجود اسرائيل، حين يعود الفلسطيني ثانية لأرضه ويطلب منها (بكري) الدفاع عنه هذه المرة. و غافراس المخرج وكاتب السيناريو (فرانكو ساليناس) أظهرا الفلسطيني بوعي يجد فيه المشاهد الغربي سمة متحضرة وطريقة عقلانية في مناقشة الأمور، إذ اظهرا الهدوء في شخصيته، تعامله برصانة مع وقائع حياته عبر استخدامه الوثائق التي تؤكد عائدية بيته في (كفر رمانة) ولكن "أين كفر رمانة هذه"؟
الجندي الإسرائيلي، ينصح المحامية حين تسأله عن القرية باستعمال خارطة جديدة "وقائع مزيفة جديدة"، فالقرية أصبح اسمها (كفر ريمون) هكذا اذن اصبحت القرية الفلسطينية مستعمرة لا أثر فيها غير بيت عائلة الفلسطيني المتهم بالتخريب، وذلك الراعي الذي يقود قطيع أوهامه في أطراف القرية وهو يصيح: هنا، هنا كفر رمانة. ان هذا المشهد وبجمالية تنفيذه العالية يحيلنا الى نص الشاعر الفلسطيني محمود درويش المنشور في مجلة "اليوم السابع" في متن الرسالة الموجهة منه الى صديقه الشاعر سميح القاسم، وذلك النص قريب في تفاصيله لذلك المشهد، يقول الشاعر: حين مارست طقس الحج الأول إلى قريتي (البروة) لم أجد منها غير شجرة الخروب والكنيسة المهجورة، وراعي أبقار لا يتكلم العربية الواضحة ولا العبرية الجارحة: من أنت يا سيد؟ فأجاب: أنا من كيبوتس (يسعور)، قلت أين كيبوتس (يسعور) ؟ قال: هنا، قلت هنا: البروة . قال : ولكنني لا أرى شيئا ولا حتى حجارة، قلت: وهذه الكنيسة ... ألا تراها؟ قال: هذه ليست كنيسة، هذا إسطبل للأبقار، هذه بعض آثار رومانية ويستدرك الشاعر موجها الحديث لصديقه، لاحظ المعاني العكسية، الانقلابية، الاستبدادية للكلمات، نحن في أحسن الأحوال حراس آثار رومانية!
في دلالة النص أعلاه، نجد مقاربة في حوار الفيلم حين تسأل المحامية واحدة من نساء المستعمرة عن الذي بناها، فتخبرها نحن سكنة المنطقة، لكن بيت الفلسطيني ووثائق عائديته ونسخة الصورة الموجودة مع تلك الوثائق والأصل المعلق على جدار البيت وصوت ذلك الراعي العربي والأشجار الوفيرة قديمة الإنبات، توفر عند المحامية قناعة كاملة مناقضة لكل ما تقوله ألسنة الكذب في المستعمرة!
إن قناعات كهذه تتصاعد بهدوء، وبانتقالات كاميرا مدير التصوير الايطالي (ريكاردو ارونوفيش) التي تصاعدت هنا أزمتها بين البحث عن الجمالي المجرد في مكونات المشهد وتسجيلها للوقائع، لكنها ناقشت المكان بهدوء بالغ مما وفر فرصة اعتبرها البعض شيئا من التخلي عن الجرأة التي عرف بها غافراس حين يتصدى لقضية تحمل في طياتها أزمة اجتماعية، لكن ما فعله الفيلم يبقى مهما على الرغم من اختلاطات وعي كاتب السيناريو والمخرج، حين حصد الفيلم هجوماً إعلامياً معادياً في الغرب بتأثير من لوبيات إسرائيلية.
وذلك يعكس عمق محاولته في تغيير صورة الفلسطيني، كما إن تطور الأحداث في الجزء الأخير من الفيلم أعطى التفاصيل للمشهد الحقيقي لواقع الاحتلال: غلاة الاسرائيليين لا يترددون عن تهديد المحامية لانها تعرض حقيقة الشاب الفلسطيني العائد، الذعر من عملية فدائية وهو يقطع ايقاع الحياة في كل شيء، الضغط المتواصل من هيئة المحكمة على المحامية لترك الموضوع نهائيا لأن نجاحها يعني إن الملايين الفلسطينية ستمتلك الحق منطقيا في العودة لبلادها المحكومة وفق منطق الاحتلال الاستعماري، لا بأوهام العودة التاريخية كما تراها المحامية في أيام وجودها الأولى هناك.
جيل كلايبورغ، الممثلة الأميركية وبطلة "هانا – ك" و "بعطرها" الخفي الذي يتحسسه الفلسطيني (محمد بكري) وهي تراقبه عن بعد توقعاً منها، قيامه بعمليات "تخريبية"، تبدع في تجسيد شخصية المحامية، وفي مشهد طردها للعشيق والزوج وحتى الطفل الصغير حين يتم اتهام الفلسطيني بمسؤوليته عن (عملية تفجير)، وحمل لنا ذلك المشهد براءة تحاول الوصول إليها عبر التخلص من كل تلك القذارات والأوهام التي خاضت فيها!
المخرج غافراس كان هو الآخر بارعاً في صنع مشاهد القدس، على الرغم من بعض الإطالة والجو السياحي الذي اتسمت به بعض المشاهد، غير إن جمالية التعبير العالية في موسيقى الفيلم التي وضعها ( غبريال ياريد)، صاحب الموسيقى التصويرية لفيلم يوسف شاهين "وداعا بونابرت"، والتي اعتمد في تنفيذها على الايقاعات العربية والتراتيل وأصوات الأذان، منحت تلك المشاهد حيويتها وجمالها الرفيع ومشاعر الحنين الناعمة، ويظل ذلك الفيض من الضوء الساطع الذي التقطته الكاميرا في أسواق القدس القديمة وظلال الناس والأشياء وضباب الفجر في المشهد الأول، ولمعان الذهب في قبة المسجد الاقصى، ترانيم تتلاعب بمشاعرنا وتمتلكها دون تردد.