نَبَحَتْ الكِلابُ. ها لَقَدْ عادَ الكمّاؤون مُكْتَنِزِينَ من الجَرْعاءِ. عُدْنا بِأَوْعِيَةٍ فارغة. نُجَرْجرُ بَرْذَعَةً. عَجبَ الناس من خَيْبَتِنا. أحْقابٌ مَضَتْ كنّا حَيارَى فيها. أردْنا أنْ نَتَحَدّثَ إليهم. أرادوا أن يَتَحَدَّثُوا إلينا. ولكننا لَمْ نَعُدْ نعرفهم ولَمْ يعرفونا. أخْفَيْنا أضراسنا. أشرْنا لَهُمْ بأيدينا. أوْمَأنا لهم بحاجبينا. لَمْ نَعُدْ نتذكرهم ولَمْ يتذكرونا. آه! حتى الذين عرفناهم عن كَثَبٍ نسيناهم أو نسونا. تَقَطَّعَتْ الحِبال. لَمْ نعدْ نعرف أسماءنا. تداعَتْ الوشائج والغرائز. دارَتْ الأفلاكُ ياصاحِ! لَمْ نكن نعرف ما جرى.
جَلَسْنا في حجرة ملآى بدخان التبغ والعطور. جاء رجلٌ ونَحْنحَ ثم لَمْلَمَ نفسه وحين إقتربَ أطلقَ كلمات التحية والسلام. جَلَسَ وَلَفّ عباءته وَكَوِّرها على رأسه. إقترحَ أحدٌ عليه أن يضعَ العباءة على الأرض لأن الجو كان حاراً جداً. ردَّ صاحب العباءةِ أن قماش العباءةِ باهض الثمن وأنّ العباءة لا مثيل لها جَلَبَها الحُجّاج من أسواق مكة، وأن ألياف قماشها نادرة وخيوطها محبوكة في كشمير. إستنكر رجلٌ هذا الأمر وقالَ أنه رأى أحد القصّابين في السوق يرتدي مثلها أو أن الحائك في نَخْل السماوة قد صنعَ من الصوف عباءةً مثلها أو أنه يمكنه الحصول على مثلها متى ما شاء. وصاحَ أحدهم أنا رأيت جميع الرعاة والأعراب في عَرَصات بَيْع الضأن يرتدون عباءات مثلها. تصاعدتْ قهقهةٌ وإنفجرَ المجلس بالضحك. حتى الذين كانوا ينصتون إلى أخبار الحرب وضعوا المذياع جانباً فقد إرتَجَّتْ صدورهم من شدة الكَهْكَهَة.
بعد ذلك إشتدّ الحديث وتَشَعَّبَ وإبتدر رجلٌ المجلسَ قائلاً أنه يعجب من الرجال الذين يَحشُّون الدغل بأيديهم. لَمْ يعرف الرجال مغزى الكلام ولكنهم ضحكوا عالياً وتشاكوا من إنقلاب حال الزمان ثم تغامزوا وتلامزوا. كان هنالك رجلٌ يلبس ثياباً مُرَقّعَة يشدّها بسيور ويضع على كتفيه شبه قَمْصَلَة مصنوعة من جلد الجاموس. كان يجلس أمام الباب قرب موضع خلع النعال. كان يضعُ ذراعاً على ذراع تارةً، ورسغاً على رسغ تارةً أخرى. كان يتحاشى النظر إلى الرجال. كان أحياناً يتحدث بجمل قصيرة مبتسرة. كلما طرح أحدٌ عليه سؤالاً عن حياته، كان يرتبك كأنّ السؤال كان في غير أوانه أو في غير موضعه. حين سمع الرجلُ بحديث الرجالِ عن الرجلِ الذي يحشّ النبات بيده، عَضَّ أنامله وقفزَ غاضباً وأخرج منجلاً معقوفاً من خاصرته وصاح: أنا أستعمل المنجل بيدي كل يوم وأجلب الحشيش على ظهري لشاتي. وقال بإمرأتي مسّ ولا تعرف طريقها وليس عندي من أولاد. أنا مُتَغَوُّل إسْوَدّتْ طرائقه. أنا طَنْطلٌ في ثوب إنسان. أنا كَعَصْفٍ مأكول. راحاتي كَرَبٌ يَسْتَعِر. بصيرتي رماد. أنا أتهافتُ وأتَفَتّتُ. وَدَدْتُ أن تهبَّ الريح بشدة فتأخذني بعيداً أو أنتثر فيها. كان الرجل أو كانت إمرأته عاقراً ولَمْ ينجبوا أحداً. أطبق صَمْتٌ في المجلس وحَزنَ الناس وأسفَ الذي إبتدأ الكلامَ.
ملّ الناس من الأحاديث وأخذتهم نوبة من الوَجَلِ الديني فسبّحوا وحَوْقَلُوا وحصل أن إلتفتوا إلينا. أردتَ أنتَ أن تذهلهم فرفعتَ يديك في الهواء قائلاً أن الناس في الغرب يأكلون نباتات الحِنْكَرَيْص مثلنا. ولكنهم لَمْ يندهشوا ولَمْ يأبهوا. صمت الناس وَقَنَتُوا وكأنما فطنوا لأول مرة لأعاجيبِ الخالق سبحانه فإندهشوا من صنائعه وحمدوه وشكروه على نِعَمِهِ الكثيرة التي لا تُحْصى ولا تُعَدّ.
أكلنا عشاءنا. حَشَفٌ كثيرٌ ونوىً. قَطّعْنا أصابعنا من فَرْطِ لذاذتِهِ. حَدّقنا في الظلماء برهة. سَهَرَ الناسُ يَعُدّونَ الشُّهُبَ التي تتقاذف بين الكواكب أو النجوم كي يُحْصُوا دلائل صاحب الزمان وَيُحَدِّدُوا تَوْقِيتَ قُدُومِ الفَرَج. أظهر بعض الرجال براعة في معرفة نجوم المجرة وأنكر آخرون كيف يمكن أن نرى المجرة ونشير إليها من بُعْدٍ ونحن فيها. وتساءَلَ آخرون: لقد رأينا آلهَةً كثيرةً فَأَيْنَ هو إلهُنا؟
كانت الرياح تَهبُّ بشدة. كانت تصطدمُ بالحيطان والشبابيك. كنا نسمع صفيرها. كان مُوحشاً مثل الذي يعتلج في خواطرنا. حين فتحنا كُوّةً صغيرة في الجدار، دخلتْ الرياح إلى البيت وَصَمَتَتْ مثلنا. حين فَتَحنا كُوّةً صغيرة في الجدار المقابل، خَرَجَتْ منه الرياح مُسرعة وَبَدَأَتْ بالصفير. عَجِبْنا. كان يمكن للريح أن تحيدَ عن البيت أو تمرَّ فوقه أو عن يمينه أو شماله أو حتى كان يمكنها ألا تمر بقربنا.
في الصباح شددنا سُرُوجَنا. ذهبنا شطر البستان كي نرى البيت القديم. كان علينا أن نصل ونرى بأمّ أعيننا ما جرى. أحقاً سنعرف ما جرى؟ كان الطريق إلى البستان متعرجاً وطويلاً شائكاً. تشابكتْ أغصان العاقول وإلتفَّتْ الحَيّات على بعضها وإشتبكتْ بالعراقيب. شققنا الطريق بجهد شديد ومشقة. كنْتُ مُنْهَمِكاً أدَنْدِنُ وأرتّل. حين إقتربنا من المكان قُلْتَ لي مُطَمْئِناً إننا إذا إعتلينا تلك الأكَمَة العالية، سَنَرَى الطير تنقر الرطَبَ في البستان وسَنَرَى معارج البيت. براحاته اللهُ يُظِلُّها. وَقُلْتَ سَنَرَى البيادر، بيادر القمح. الجوزاء تحرسها. وَقُلْتَ سنسمع غناء الحُصّاد وجَعْجَعة المطاحن. وَقُلْتَ سَنَرَى الشبابيط في الشط وحيّة الماء وسَنَرَى القطا يستقي من أفواه الجداول.... وَقُلْتَ ... وَقُلْتَ.... وَقُلْتَ.....
حين صعدنا على الأكمة المشرفة على القرى، جَبَهَتْنا سباخ كالحة ورياح لافحة. رَفْرَفَتْ فوقنا طيور الطيطوى في الجو صافات. كان العجاج يطبق على كل شيء. لاحتْ لنا أخْيِلةٌ تتلَوّى وَتَتَبَلوَرُ في السديم الغباري. كان الغبار يتكاثف فتتخَلّقُ وتنبثق منه كائنات ببطء ثم تنشطُ وتتحرك وسرعان ما تعثر وتتبعثر وتتفتت وتتلاشى. كائنات تَتَخَلّقُ من الغبار والسراب وتأخذُ أبعاداً ثنائية وثلاثية مجسّمة وتلبث برهة ثم تتساقط وتنمحقُ. صورٌ تتراءى أمام أعيننا ثم تختفي. أردنا أن نمسك بها كي تتوقف أو تتماسك أو نَجُسّ ماهِيّتها. لَمْ نستطعْ. أتلك حياتنا؟ أهؤلاء أسلافنا يشيدون القرى؟ أهؤلاء البدو المقحطون يحطّون أحمال ركائبهم قرب البستان؟ أذلكَ اللهُ يُقَهْقِهُ في العُلى؟ كل الأشياء تتبدل وتتحول وتَتَصَيَّرُ في العجاج. ما إن يتجلى الشيء ويتضح حتى يزول ويفنى. كلُّ ما نراه أو نلسمه ليس إلا طوراً من أطوار صيرورة العَدَم: يتمخّضُ العَدَم فيتَشَيّءُ وينبثق ويتكاثر ثم يضمحلّ ويزول.
خُفْنا مما رأينا أو لَمْ نَرَ. إرتجفنا. تَلفّتنا. تَلَمَّسْنا طريقنا. إتّضحتْ أمامنا خارطة البيت القديم. أردنا أن نستنطقها. أردنا أن نعرف ما جرى. كيف ولِمَ جئنا؟ من أين جئنا؟ أين ولِمَ نذهب؟ دخلنا من الباب. جلنا فيه. بانَتْ لنا صورة معلف الغنم المستطيل وحجرة مهدي وحجرة عمّتي والدَّرَج وحجرة أمي وحجرة تركية وحجرة هادي وصومعة القمح وحجرة الدجاج (البيت الجمّالي) وصومعة أخرى للقمح أو للشعير وكوز الماء والتنور.
حين حاولنا أن نستحضر ما مضى، أتَتْ صُوَرُهُ زاهية تسعى. هنا أمام حجرة الدجاج وزّعتَ أنتَ الخِيار عندما عادَتْ أمّي من السوق. كنت تُمسكُ بعُرى الزنبيل وتدور بيننا فرحاً بِسُلْطَتِكَ الجَدِيدة. كان ذلك في نهاية زمان الصيف حين إخْشَوْشَنَ الخِيارُ وإكْتنزَتْ بذورُه وإنتظمتْ من علائق بيْضاء حادة كالأضراس. لهذا لَمْ يكن يُسْتَساغ أو يُستطابُ، وكان يصعُبُ قضمه ومضغه. ورغم هذا كنا نأكله إضطراراً وجوعاً. حين رَمَيْتَ بما تبقّى من الخيار إلى العِجْل خَبَطها بأخْثاءِهِ. كنت ترتدي جلباباً مخروطياً أخضر اللون فيه شقّ مستقيم يمتد من الجيب الجانبي إلى الأرض. كان في كل جلباب من جلابيبك الأربعة شقٌّ طويل من اليمين أو اليسار أو من اليمين إلى اليسار أو من الجانبين. ذلك لأنك كنت حين تَتَحرّكُ تخطو خطى واسعة وتقفز إختيالاً في الهواء فتخْرجُ بُرُوقٌ من أطرافك فَيَتَمَزَّقُ النسيج بفعل هذا وبفعل قوة الحركة. كانت أمي ترقعُ ثيابك كل يوم فتلبسها وتخرقها. بعد رحيلك عن البلاد إرتدى أحمد جلبابك وخرج على الناس ففزعوا.
ومن وراءك كان الديك يقف على المِيجَنَة كي يبسط جناحيه ويضربهما سبع مرات قبل أن يصعد على رَزَّةِ الباب ويقفزمنها ليتشبث بالمسمار النابت في الحائط ليصيح ويزقو في السَّحَر. من ذلك المسمار يَتَدلّى الفانوس المنير. كان ظل الفانوس يسقط على الحائط ويرتسم على هيئة خَرُوف له قرون كبيرة. كنتُ أفزعُ منه في الليل فأصيح مُسْتَغِيثاً. كانت أمي تظن أن بي مس من الجن فطافت بي بين الأضرحة والمراقد كي تشفيني.
على مقدار عشرة أذرع من الموقف الذي وزّعْتَ فيه الخيار قرب حجرة الدجاج ألْهَبَتْ أمي المواقد لتصهر مادة بيضاء مثل الشبّ إشترتها من العَطّار لترمّم بها القدور. قالت والله لقد تعبت من هذه القدور المُثَقَّبَة. إن لَمْ ينفع هذا في إصلاح الثقوب فليس لي بعد ذلك من حيلة. إرتفعت النيران وذاب الشَّبُّ مثل الوَدَك وسال على الأثافي وإتَّسَعَتْ ثقوب القدور. وقرب المواقد قَصَّتْ أمي ضفائرها عندما ماتت خالتنا حمراء. كان ذلك في المساء بعد أن عادتْ من المأتم. جاءتْ بإبريق ومِقَص وقَرْفَصَتْ وقَصّتْ شعرها. قصّتْهُ هكذا ببساطة. كنا وقوفاً حولها ننظر إليها حين سقطت ضفائرها. لَمْ تقل شيئاً. كان شيئاً فظيعاً مريعاً. كيف نَمَتْ قصائبها فيما بعد؟ لقد مات جميع أولاد حمراء فيما بعد. ماتوا كلهم موتاً فجائياً. قالوا حدث ذلك لأن عندهم علة في القلب أو الشرايين.
وعلى بعد ذراعين من موقفك عثر كسّاب على الكيس العجيب في المِخَدّة. في أحد الأعوام خيّم على العائلة جَدلٌ وضلالٌ. لَمْ يعرفوا ماذا جرى لهم. ظنوا أن شيئاً ما كان يُخبّأُ في البيت. بحثوا في الصِّيرَةِ وفي أركان البيت كلها ولَمْ يعثروا على شيء. إشتركنا جميعاً في البحث والتنقير. بحثنا في رماد التنور وبين عروق الرمث والأرْطى. بحثنا في الكوى وفي طبقات البارياء وفي السقوف. بعد ذلك عثر كَسّاب على مخدة بنفسجية. وقف كَسّاب ورفع المخدة وشَقّ غطاءها بمنجل النخل العتيق. تصاعد من المخدة دخان وسخام أسود كثيف. لقد سخّم خدوده وأرنبة أنفهِ وأصابعَه. أخرج كَسّاب من المخدة كيساً فيه ريشٌ وجوزٌ وبندق وبعض البذور العطرية. وضعَ كساب شيئاً من ذلك في فمه ولاكَهُ بسرعة ولكنه إشمأز وتقبّض وإقشعرّ منه وبصق لشدة مرارته أو غرابة مذاقه. تَفَلَ كسّاب وبصقَ كثيراً هكذا: تف! تف! عاع! عَعْ! عَعْ! أعْ! أعْ! فصاح الناس وكبّروا. وَبَكَيْنا. بعد ذلك هبطتْ السكينة علينا وإنْمَحَتْ الأضاليل.
وعلى مسافة خطوات من موقفك قرب حجرة الدجاج طبخت لنا عَمَّتِي غداءً عجيباً. كان طعاماً غريب النكهة والمنظر: لا هو حساء ولا هو ثريد أو هريسة. لا هو صلب ولا هو سائل. بين هذا وهذا. كان أصفر مخضرّ يترجرجُ في الطاسة. إستعاذ الناس منه ولكننا أكلناه وكركرنا وإنتابنا ضحك كثير. كان ذلك قبل إعتزالها لنا بعامين. حين إعتزلتنا جلسنا في الظهيرة في باب حجرتها نفلي شعورنا ونزيل الصؤاب. جئنا بمشط خشبي وحبكنا أسنانه الناعمة حبكاً بخيط من الصوف. غَمَسْنا المشط بنفط الكيروسين وسرّحنا به شعورنا فتساقط الصُّؤاب كالبَرَد. كانت فرقعة الصئبان تُسمَعُ عن بعد (بفعل الكهرباء الإلكتروستاتيكة). كان الناس يشيدون بنا ويعجبون.
وإلى يمينك نطح الكبش الأقرن نجية. في اليوم الذي صبغوا الضأن بالمغرة الناصعة كانت نجية تُغَربِل الحبوب لتحدد ما الذي تجرشه وما الذي تضعه علفاً للماشية. حين رأى الكبشُ الحَبّ بين يديها ركض إليها من الباب الكبير وقفز على المعلف المستطيل وإجتاز المهد الهزّاز طائراً في الهواء وهبط أمام نجية وزفرَ زفرات عنيفة ونطحها. كان عباس وأحمد في المهد يرضعون اللبن من العُكّة المجعدة السوداء. سقطتْ نجية على الرحى ونشب قطب الرحى في صدرها. إستدار إلينا الكبش فركضنا وتشبّثنا بكتف التنور.
حين خرجنا من البيت رأينا مِعلف الفرس. بَنَتْهُ أمِّي في صِباها من الطين على هيئة إسطوانة يبلغ إرتفاعها سرة الرجل إذا وقف حيالها. كان مِعلف الفرس في القرى أعظمُ من معلف الثور ومعلفه أكبر من معلف الضأن. لَمْ يكن للحمار من معلف إذ كان يعتلف غثاء الساقية الكبيرة أو يقضم ما يتساقط هنا وهنا من حب أو قش أو شجر أو يقطع الحبل المشدود بمعصمه ويُغِير على الزرع. في أحد الأيام في أحد الأعوام حين كنا صغاراً سادَتْ الضجة واللجاجة علينا وتَعَكّرَ كل شيء. جاءت نسوةٌ يلتفعْنَ السواد وَوارَيْنَ وليداً خديجاً تحتَ معلف الفرس بعد الغروب. كنَّ يَنْدُبْن ويبكِن ويخمشْنَ بالأظافر وجوههن. كان في المعلف شعير قصيل. واريْنَ الوليد. وارَيْنَ حقبةٌ مَرِيرةٌ من الزمان. كنّ يتجادلْن ويتلاومْنَ. عَوَتْ كلاب كثيرة وباتتْ الفرس تُحَمْحمُ وَتَدورُ وترفُسُ بسيقانها حتى طلعتْ الشمس.
كان ذلك عالمنا في القُرى. كان ذلك العالم أرحبَ مِن كلّ العوالم التي مررنا بها فِيما بعد والعوالم الأخرى التي يتوجّبُ علينا عبورها فِي رحلتنا هذه. كانتْ كل الكائنات والجمادات فِي تناغمٍ وإنسجامٍ وتواصلٍ فِي الحُجُرات وفِي الصِّيرَةِ وفِي المُراح وخارجها. كُلَّ شيء يُمْسكُ بكل شيء. كأنّ كل الأشياء تغتذي مِن روح واحدة أو مِن ضفِيرة عصبية مفردة يفِيضُ مِنها الأسِتِلْ كُولين فيغمرها لتنتسقُ نشاطاتها إرادياً أو لاإرادياً. إذا تَحَرَّكَ هذا تَحَرَّكَ ذاك كي يتَحَرَّكَ ذلك. أو كأنّ الأشياء هي أعضاء لحَيَوان واحد كبير إسمه حياتنا. كل كائن/عضو يمارس وظيفة محددة خاصة به. إذا أرخى الليل سُتُورَهُ ساطَتْ أمّي القُدور بالمغرفة الكبيرة ونادَتْ على التوأم: أجِّجِي التَّنُّور يا نَجِيّة! أجَّجَتْ نَجِيَّة التَّنُّور وتعالى دُخانُ العاقول والطرْفاء. نَظّفِي زُجاجةَ الفانوس يا صَفِيَّة! نَظَّفَتْ صَفِيَّة الفانوس وأزالَتْ سُخامَ الزُّجاجَة وَتَلَأْلَأَ فِي البيت نُورٌ. حين يَخورُ الثورُ نَنامُ وحينَ يَصيحُ الدِّيكُ نَصْحُو. نَتَثاءَبُ فَتَشْرَئِبُّ القِطط مِن الكُوى. تُقَوْقِيءُ الفاختة فِي الهاجرة فنقيلُ. نَقيلُ فيَرْسُمُ الجرذ دوائر الليشمانيا على خُدودنا. تَثْغُو الغنمُ فنسرحُ بها أو نهرق لها جوالق الشعير. تَحِنُّ البقرة فنحلبها. تَصْفرُ القُبّرةُ فيَؤذّنُ المُصَلُّون. يَبيضُ الخطّاف فتأتي العواصفُ مِن الجرعاء. يَحُطُّ الوُرْوارُ على أطراف الأثل فيسقطُ القطقط والبَرَد. يَقبعُ القُنفذ فَتُمَأمِئُ العَنْزُ. وهكذا الحال مع باقي الكائنات كالقراد والأفاعي وحشرات الجُعَل فِي المراعي وبنات آوى والضباع والذئاب فِي البرية.
دُرنا مرة أخرى في خارطة البيت وحولها. تَذكَّرْنا تلك المسافات التي مشيناها فِي تلك البلاد: مِن البيت إلى المراعي إلى الحقول أو من البيت إلى السوق أو البوادي. كانت تلك المسافات التي قطعناها أطول مِن كل المسافات التي قطعناها فِيما بعد. رَغْمَ هذا كنا نعرف أين تأخذنا الطرق. في الغَلَس يزدحم الطريق إلى السوق. زُرّاع البطيخ يحملون ثمارهم إلى المزاد على الحمير. رعاة الغنم يجلبون قطعانهم إلى ساحات البيع. في الظهيرة يخلو الطريق من المارة إلا من نساء مثل الغرانيق السود يمشين وئيداً. ترى في زَنابِيلِهن بصيص الباذنجان وتسمع ضحك اليقطين. كمْ كنا نتمنى ان يكون الزنبيل مسبوكاً من الحَلْواءِ والكعك.
على الطريق الموازي لقطار الكلس كان الأعراب ينحدرون مع إبلهم صوب القرى في القيظ ويعودون أدراجهم نحو البوادي حين يأتي البرد. كان صوت أجراس أغنامهم يأتي خفياً غامضاً مثل رنين الخلاخل والحجول يحمله النسيم في الضحى من بعيد. كنا نستطير منهم لأننا كنا نخشى أن يهبطوا قرب قمحنا أو شعيرنا فتقع ماشيتهم فيه. في عام القحط هبط البدو في الشريط الغربي المحاذي للساقية الكبيرة، أطلقوا إبلهم كي تأكل الدعداع النابت على جرف الساقية. كانت فتياتهم يلقطْنَ روث الحمير وبعر الإبل وَيَسْجَعْن ويمددْن بأصواتهن ويردّدنها بِحُلوقِهن فنطربُ ولكننا كنا نتظاهر بالضجر منهن. لوّحنا لهن بالعصيّ. شَتَمْناهُنّ وَرَشَقْناهُن بالحجارة. وحين ضلّ بعيرهم الشرس الهبّات، طاف حول بيتنا فضجّ الناس. تسلقنا على الدرج وأطعمناه قشور البطيخ. كان البعير يشقشق وتسيل جِرّة خضراء من أشداقه. كان البعير فرحاً. كانت عينه دامعة.
كنا نذهب إلى آثار البدو حين يرحلون ونفتش في مزابلهم. كنا نبحث عن أية لعبة أو دمية أو معدن بهيج يلتمع. عثرنا مرة على قنينة عطر فارغة كانت مرتبطة بإنبوب وكرة من المطاط. إذا عصرنا الكرة بأيدينا تقلَّصَتْ وتمدّدَتْ وإنطلق الهواء منها وجرى في الإنبوب لينبعث من فوّهة صغيرة في عنق القنينة. له فحيحٌ وفيه رذاذٌ ضئيلٍ ورائحةٌ عطرية لَمْ نألفها(إعتماداً على ما نراه من آثار بعد رحيلهم يمكن القول أن البدو كانوا أكثر ثراء من أهل القرى أو كأن طعامهم أكثر دسماً من طعامنا).
تلك كانت حياتنا أو هذا هو بيت الطين القديم. حين جِيءَ بنا إلى الدنيا دَرَجْنا فيه. فِيه أكلنا العَصِيدَةَ الجَدْباء والطبيخ البَحْتَ والمَرَقِ الكذّاب. فِيه نمْنا فِي المُراح مَعَ الشِّياهِ. حين سَمعَ لُصُّ الضَّأنِ غَطِيطَنا بارَتْ خطّته وَوَلّى الأدْبار. لكل لحظة مِن تلك الأيام إرْتَسَمَتْ صُورةٌ وذكرى. الآن مِن هنا حينَ نتفكّر فِيما مَضى كيْ تَتَبيّن الخيوط، تَختلطُ الأشياء والأمْكِنَةُ والأزْمِنةُ وَتَتَراكَبُ فوق بعضها البعض وَتَزْدحمُ حَتّى يَتَعذّر معرفة كيفَ وَمَتى وأيْنَ وما. رغم هذا، كلّما مَشَيْنا قدماً فِي الحياة إلتفتْنا إليه وإسترْجَعْناهُ. زَمَكانٌ تَوهّج وإنطفأ وَرَمَى بِنا فِي المدارات. شَجى يَقْلينا فَنَتَلَبّطُ. زَمَكانٌ وَمَضَ وَإنْمَحَى. إنْمَحَى فِيزيائياً/رياضياً تَمَاماً ولكنّهُ ما زالَ يجري وينبُضُ فِي الذاكرة. ذاكرةٌ تتآكلُ كأنّ يَدُ الألتزهايمر تمتدُّ خِلْسةً لتعيث بها وتمحوها وتطمسها. تُمَغْنِطُنا الذكرى فَنَسْقُطُ صَرْعَى. صُورٌ تَشْتَبِكُ مِن البَيْتِ إلى المَرْعَى.
صُوَى وَصُوَرٌ. أَسَىً وَعِبَرٌ. أيةُ عبَرٌ؟ لقد إنبَسَطَتْ الحياة أمامنا سريعاً ثم إنْطوتْ. تَفَتّحَتْ ثم إنغلقت دون أن ندرك مغزاها وجدواها. هل ستعود عَشَيِّات البيت؟ هل سيعود خياله؟ لا... لا نريد إسترجاع الخِصْب والرَّفاهِية أو إستنطاق الطَّلَلِ المُحِيل. نريد أن نطوي أفْعى الزّمن. أنْ نمسك بها، أنْ نكتّفها ونعيدها القهقرى. نريد أن نمْحُو الخَلْق. أن نقُود الأشياء عُنْوةً إلى الغَيْهَب، إلى النقطة الأولى. إلى مَغْرَسِ الخُلْد. نعيد تشييد البيت من طِينٍ وقشٍّ. سنصنعُ فيه هياكل تُشبِهُنا. نَعم، على هيئتنا ولها رؤوسٌ شِيْبٌ وعيونٌ شاخصة. سنقفُ بينها ونتَحَنّطُ هكذا: نقِفُ على رِجْلٍ واحدة ونبْسُطُ بأذرعنا في الهواء كجناحي طائر وننظرُ إلى المشرق سادرين. راحاتنا تشير إلى الأسفل. سنكون ذاهلين ولنْ نتَحرّكَ بتاتاً حتى لو نَبَحَتْ الكلاب أو طرق أحَدٌ البابَ أو مَرَّتْ في السّماء قَطاةٌ سمينة، لا بلْ حتى لَوْ صاحَ أحَدُهُمْ مذعوراً على مَقْربة من أرجلنا: حَيَّة! حَيَّة! حَيَّة! حَيَّة! عَلينا أنْ نكونَ حذرين وعَلينا أن نتربّصَ بالتماثيل لعَلَّ أحداً منها يَعطسُ أو يلتفتُ أو يتَحَرّكُ. إذا هبّتْ العاصفة الكدراء مساءً من الأفق الغربي سيتساقط الغبار علينا وَيَتَراكَمُ وَيَتَراكَمُ حتّى نغطسَ تدريجياً وَسَنَخْتَفِي تماماً مع الشَّفَقِ وَسَتَخْتَفِي نباتات الخُلْد. سَنَصِيحُ ونَصِيحُ: آه! مِن العَدَم إلى العَدَم! آه! هل سَيَسْمَعُ أحَدٌ صِياحَنا؟!
الهوامش:
* الحِنْكَرَيْص: إسم يُطلَق على عشب ينمو في الحقول في فصل الشتاء في البلاد التي جئنا منها. وهو يشبه كثيراً نبات البابونج أو المانزنِيلّا وأظنه نوعاً منه، بل أظن أنه البابونج الأقرع أو من نفس عائلته. للنبات زُهَيرات أو ثمار على شكل كُريات بهيجة صُفْر. إذا دَعكْتَ الكُريات بيدك ضاعَتْ منها رائحة طيّارة لطيفة جداً، تجعلك تشعر بالربيع أو بالفرح. ليس لهذا النبات أية إستعمالات في الأكل أو العلاج معروفة عندنا في تلك البلاد، البلاد، البلاد التي جئنا منها. أي أنه نبات بري تأكله الماشية ولا أحد يأبه به أو له. رغم هذا عندما كنا صغاراً كنا نحاول تناوله إذا جعنا ولكن طعمه مرير أو بكلمة أخرى: ليس بوسعك إذا رأيت هذا النبات أن تقاوم إغراءه ولكن ما إن تذقه حتى تشعر أنه ليس من الطيبات. حين جئنا إلى هذه البلاد رأينا نبات الحنكريص أو نبات يشبهه جداً يباع في الدكاكين الكبيرة(يباع جافاً). لهذا نحن نتجادل دائماً حول ما إذا كان النبات الذي يباع في السوق هو الحنكريص(البابونج الأقرع) أم أنه نبات آخر مثله. إذا كان هو الحنكريص عَيْنُه فَلِمَ يبيعونه هنا ويستهلكونه في صناعة الشاي أو الطعام أو الدواء ولا نفعل نحن؟
* الطَنْطَل: أسم يُطلَق على كائن خرافي أو حقيقي في البلاد التي جئنا منها. يقطن الطنطل في الخرائب والطرق البعيدة والأماكن المهجورة ويحاول أن يفتن السابلة والعابرين وخاصة إذا كانوا فرادى ويُضِلّهَم عن طريقهم وهو ينشط كثيراً في الليل. مثلاً، إذا أراد رجلٌ أن يذهب إلى السوق والسوق في شمال القرى، يخرج الرجل من بيته ويتراءى له بفعل نشاط الطنطل إن السوق في الجنوب فيغير الرجل مساره ويضل ولن يستفيق مما فيه إلا بعد فوات الأوان وقد يظمأ الرجل ويهلك ولن يعثر عليه أهله إلا بشق الأنفس. مجازياً، تطلق كلمة الطنطل على الإنسان الذي لا ينجح في مساعيه أو مشاريعه أو من لا يحالفه الحظ في الحياة أو الإنسان الفقير المعدم ومن يتعرض إلى خسران كبير على الدوام: كأنما تجسد الطنطل أو حل في الإنسان فهو يضله ويحبط كل أفعاله.