رجل يقف على قمة جبل، وآخر لا يزال يتسلقه
في الشهر الماضي، قررت سينما «زاوية» القاهرية، والتي تعتبر نفسها مسوّقةً للأفلام «البديلة»، خاصة من مصر والدول العربية الأخرى، عرض فيلم «القضية 23» للمخرج اللبناني زياد دويري، الذي أصبح مثيرًا للجدل بعد إخراجه فيلمًا بعنوان «الصدمة»، أثناء إقامته في إسرائيل. وقتها، استنكر سلوكه هذا الكثيرون، بما في ذلك «زاوية» نفسها في بيان نشرته على موقعها على الإنترنت.
في هذا البيان، أكدت «زاوية» أيضًا أنها ضد التطبيع مع إسرائيل، وبالتالي لن تعرض «الصدمة»، ولكنها اعتبرت «القضية 23» حالة مختلفة، فالمخرج لم يعمل في إسرائيل ولم يحصل على تمويل منها، وبالتالي فلا يعتبر عرضه خرقًا للمقاطعة.
هذا البيان، الذي قوبل بالعديد من التعليقات النقدية، يمكن الاعتراض عليه من نواح متعددة. فقد اتخذ «حركة مقاطعة إسرائيل» المعروفة باسم «بي دي إس» كمرجعية، بينما المرجعية الصحيحة هي منظومة المقاطعة العربية. كما استشهد بشكل انتقائي بـ«بي دي إس فلسطين»، وفشل في الإشارة إلى أن إحدى شركات الإنتاج لديها علاقة حميمة بالدولة الإسرائيلية، تضمنت تبادل الأموال والميداليات.
لم تعر «زاوية» لاحقًا اهتمامًا لدعوة مقاطعة الفيلم من «بي دي إس مصر» ونشطائها. وبدلًا من ذلك قدّمت دار السينما نفسها كمدافعة عن حرية الرأي، وهو موقف جذاب خاصة بسبب القمع الحكومي المتصاعد للإعلام المعارض والحريات السياسية بشكل عام، رغم أن أحدًا لم يعترض على عرض الفيلم بسبب مضمونه، حتى وإن كانت هو الآخر عرضة للنقد. مكّنت كل هذه التجاوزات «زاوية» من اختلاق منطقة رمادية مضللة وجدت فيها عذرًا لتصرفها، وبدت معها وكأنها نصير لحرية التعبير ضد الرقباء.
غير أن الواقع هو أن «زاوية» نفسها انتهت بتقديم هدية للتطبيع. ألا يشجع عرضها للفيلم المزيد من المخرجين السينمائيين، أو الممثلين، على المشاركة مع إسرائيل أو إسرائيليين في أفلام قادمة، إذ يتوقعون أنهم سيُعاملون كما لو أن شيئًا لم يحدث، كما حدث في حالة دويري؟ أليس من شأن ذلك أن يجعل المقاطعة العربية موضع سخرية؟ وهذا بدوره يجعلنا نتساءل: كيف تخطط «زاوية»، التي قالت إنها ضد التطبيع، للتعامل مع الضرر الذي ألحقته، ولعدم تشجيع الآخرين على اتباع خطى دويري؟
لا أقصد، سواء من المقدمة السابقة أو التفاصيل التالية، أن أخص «زاوية» بالنقد، إذ أستخدمها وبيانها فقط لمحاولة توضيح الغموض الناشئ بسبب التباينات بين حركتي المقاطعة العالمية والمقاطعة العربية، أو ما يعادل الاخيرة، وهو «مكافحة التطبيع». كما أفعل ذلك أيضًا استجابة لدعوة «بي دي إس فلسطين» في بيانها عن فيلم دويري، والذي عبّرت فيه عن رغبتها المستمرة في إجراء حوارات بشأن مسألة المقاطعة مع الفلسطينيين، بمن فيهم من في الشتات.
في رأيي، فما نحتاجه اليوم هو الوضوح من قبل منظمات «بي دي إس» الفلسطينية والعربية بشكل عام عن ماهية التطبيع. النقطة المركزية التي تحتاج إلى التوضيح في هذا الشأن هي أن المقاطعة العربية و«بي دي إس» تختلفان في تاريخهما وتطوراتهما، وكذلك في ما يمكن لكل منهما عمله، وفي النتائج المتربة على فشلهما أو نجاحهما.
على وجه الخصوص، لا يجب أن تميّز مقاومة التطبيع، والتي يجب ان تعتبر حركات بي دي اس العربية نفسها جزءًا منها، بين التبادلات الفردية والمؤسسية مع إسرائيل، كما تفعل المقاطعة الدولية. أو بمعنى أعم، يجب ألا يضيق نطاق المقاطعة العربية ليتطابق مع تلك الدولية. وإذا حصل خلاف ذلك، فقد تتفكك المقاطعة العربية بسرعة، خصوصًا أن إسرائيل والولايات المتحدة تعملان بلا هوادة للقضاء عليها، مستغلتين الحالة السياسية العربية المؤسفة.
كسوف المقاطعة العربية الرسمية وبزوغ الشعبية
ربما يصلح لجوء «زاوية» إلى «بي دي إس» كمرجعية مبررًا، لو كانت تعمل في نيويورك وليس في القاهرة.
بالنسبة للعالم العربي، لا يصح أن تكون «بي دي إس»، وهي الأقل شمولًا، الإطارالمحدد لماهية التطبيع. وإنما لا بد أن تكون المرجعية هي منظومة المقاطعة العربية لإسرائيل، فهي الأقدم والأشمل، والأهم من الناحية الجغرافية والرمزية. فقد استنت الدول العربية مقاطعة إسرائيل، من خلال الجامعة العربية، في عام 1948 بعد طرد الفلسطينيين من معظم وطنهم وإقامة الدولة إلصهيونية، أي قبل ما يقرب من ستين عامًا على ميلاد الـ«بي دي إس».
وكانت المقاطعة تتألف من ثلاثة درجات: الثالثة، والثانية، والرئيسية.
تطلبت الرئيسية ألا تقيم الدول العربية علاقات اقتصادية أو سياسية أو ثقافية مع إسرائيل، وأن تمنع سفر الافراد من تلك الدولة وإليها، وهذه الشمولية كانت السبب الرئيسي في كفاءة المقاطعة العربية والحيلولة دون اعتبار إسرائيل دولة عادية كباقي الدول، ما كان ليقضي على القضية الفلسطينية في حال حدوثه. بينما عنيت الدرجتان الثانية والثالثة بـ«الطرف الثالث»، اذ منعتا التعامل مع القائمة السوداء المدرجة فيها شركات لها علاقات واسعة مع إسرائيل، وكانت أشهرها شركة «كوكا كولا».
لم تصدر التصنيفات؛ الثالثة، والثانية، والرئيسية من جامعة الدول العربية نفسها، وانما من قبل المشرعين الامريكيين الذين قسّموا المقاطعة إلى أجزاء بهدف الاجهاز عليها.
بالتدريج تلاشى الأخذ ببنود الدرجتين الثالثة والثانية، بفضل الحسابات الاقتصادية والضغط الأمريكي، وتواصل الأخذ بالدرجة الرئيسية، حتى بدأ في التفسخ بعد ثلاثين سنة، في أعقاب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (1979)، ببطء في البداية ثم بخطى سريعة منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو الفلسطينية-الإسرائيلية (1993) ومعاهدة سلام الأردن مع إسرائيل (1994)، والتي سهّلت كذلك دخول إسرائيل إلى الأسواق العالمية خارج أوروبا وأمريكا الشمالية.
بعد تلك المعاهدات، ودون الدخول في نقاش حول الأسباب، انخرط عدد من الحكومات والشركات العربية الأخرى في شكل او آخر من أشكال التطبيع، لا سيما من الاطراف الجغرافية في المغرب والخليج، بما في ذلك المملكة العربية السعودية.
ولا يزال مدى التطبيع غير معروف، وعندما يُكشف عن بعض التفاصيل، فغالبًا ما يكون هذا عن طريق مصادر إسرائيلية وتسريبات إعلامية مجهولة، ولكن محسوبة، لإيقاع أكبر الأثر في النفس العربية، ونادرًا ما يقوم بها العرب الذين يشاركون فيها نفسهم.
لقد وصلنا اليوم إلى النقطة التي تواجه فيها المقاطعة بعض اختباراتها الأكثر خطورة، خاصة إذا قررت الحكومة السعودية التخلي عنها، كما أوحت التقارير الإعلامية والشائعات والتحركات من قبل بعض مواطني المملكة البارزين.
حاول، ولا يزال، المجتمع المدني العربي والمواطنون عمومًا تعويض التراجع الذي أصاب المقاطعة الرسمية، ولا تزال إسرائيل منبوذة بالنسبة لمعظم الشعب العربي، ولا يزال سلوكها العدواني المستمر يضمن بقاء مقياس العداوة عنده عاليًا، مضفيًا على المقاطعة قيمة رمزية عظيمة أيضًا.
هذا هو الحال الآن، وخاصة في مصر والأردن، وكذلك في مناطق السلطة الفلسطينية. فكما هو معروف، اتخذت منظمات المجتمع المدني في مصر، بما في ذلك النقابات المهنية والجامعات، موقفًا حازمًا لدعم المقاطعة، أو لمنع ما سمي بـ«تطبيع العلاقة مع إسرائيل». والمراد بذلك ليس فقط العلاقات المادية، وإنما محاولة ترويض وتعويد عقل الانسان العربي على قبول إسرائيل كوجود عادي في المنطقة، وهو بالضبط ما تحاول إسرائيل اليوم تحقيقه بوسائل شتى، مستغلة الانقسامات العميقة والاحتراب المنهك داخل الدول العربية.
مقارنة بين المقاطعة العربية والعالمية
بينما كانت المقاطعة العربية الرسمية تتآكل، بدأت موجة جديدة من حملات المقاطعة على مستوى العالم في الظهور، بدعوة من المجتمع المدني الفلسطيني في البداية، وبعدها أخذت الحملات حياة خاصة بها، وأصبحت معروفة ببساطة بالأحرف الأولى «بي دي إس»، أي مقاطعة، عقوبات، وسحب استثمارات.
لقد جذبت «بي دي إس»، بمرورالوقت، مؤيدين دؤوبين في العديد من البلدان، ما أجبر إسرائيل على الدخول في معركة شرسة، في محاولة لفرملة الحركة وإلحاق الهزيمة بها في النهاية. إن «بي دي إس» هي حملة لمواطنين ومجتمع مدني بالكامل، تسعى لجعل الأفراد والجماعات يعيدون التفكير في نظرتهم غير المدروسة لإسرائيل وفي تعاملهم معها، إلى أن تدفع النخبة الإسرائيلية ثمنًا للاحتلال والتشريد والاضطهاد التي ارتكبتها دولتهم ضد السكان الأصليين في فلسطين.
تبدأ حملة «بي دي إس» حيث تنتهي المقاطعة العربية. فالأرضية التي تبدأ منها الـ«بي دي إس» على سبيل المثال، هي وضع يكون فيه حصول بروفيسور إسرائيلي على زمالة في جامعة أمريكية روتينًا عاديًا، بينما ليحصل مثل هذا الأستاذ على زمالة في جامعة عربية، يتوجب خرق المحرّمات التي تحظر مثل هذا التبادل. لو وضعنا هذا التباين بشكل مجازي لقلنا إن «بي دي إس» تشبه شخصًا بدأ في تسلق الجبل، بينما المقاطعة العربية هي شخص يقف على القمة، ويحاول الآخرون إنزاله عبر التطبيع.
يؤدي الاختلاف في نقطة البداية أيضًا إلى الوصول، أو على الأقل إلى المساعدة على الوصول لاختلافات هامة أخرى. وفي المحصلة النهائية، يمكن اعتبار أن الـ«بي دي إس» حركة «ناعمة»، بينما المقاطعة العربية حركة «صلبة».
تدعو «بي دي إس» المؤسسات الدولية لمقاطعة المؤسسات الإسرائيلية، وليس الأفراد، لأن إسرائيل دولة معترف بها وتعد دولة عادية في تلك الأقطار، أو حتى أكثر من عادية، فقد يكون لها نفوذ كبير من خلال اللوبي الاسرائيلي، كما هو الحال في الولايات المتحدة الامريكية.
لذلك نرى الداعين إلى المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، وهم يطمئنون دائمًا أعضاء منظماتهم بأن هذا العمل لا ينتهك حرية الأكاديميين الإسرائيليين. بينما عارضت الجامعات المصرية أي تبادل مع الجامعات الإسرائيلية، سواء على مستوى المؤسسات أو الأفراد، حتى يقرر الفلسطينيون مصيرهم. واذا كانت هناك اختراقات، فقد كانت تحدث بشكل سري.
أحدث مثال على هذا الوضع كان بيان لأعضاء هيئة التدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، يدينون فيه إلقاء الأستاذ المتقاعد في جامعتهم، سعد الدين إبراهيم، محاضرة في مركز موشي دايان بجامعة تل أبيب. أذكر هذه الحالة أيضًا لأنها وثيقة الصلة بقضية دويري، من حيث أنها تبرز التهديد للمقاطعة الأكاديمية إذا حذا أعضاء آخرون في هيئة التدريس حذو سعد الدين إبراهيم.
ومن المفارقات أن «بي دي إس» قد أُدمجت في خطاب المقاطعة العربية أحيانًا كطريقة لتعزيز فكرة المقاطعة بين المترددين من العرب أنفسهم، بتذكيرهم بانضمام المواطنين غير العرب الى صفوف المقاطعة، بينما، وفي المقابل، أشار بيان «زاوية» إلى «بي دي إس» كمرجعية لتبرير خرق المقاطعة.
ومشكلة أخرى ربما سببت الالتباس والخلط بين حركة المقاطعة العربية و«بي دي إس»، فتطابق الاسم يبدو أنه عنى للبعض تطابق السياسات والمواقف، ما قد ينسف حركة المقاطعة العربية من أساسها، فهل نريد، مثلًا، أساتذة إسرائيليين في الجامعات العربية؟
هذا ما أجاب عليه بالنفي أعضاء هيئات التدريس في تلك الجامعات المصرية منذ اتفاقية كامب دافيد، وهو ما ينطبق على باقي الجامعات في الدول العربية.
«زاوية» و«بي دي إس» بين مصر وفلسطين
للعودة إلى «زاوية»، ففي 22 تشرين الأول- أكتوبر الماضي، أصدرت حركة «بي دي إس» في فلسطين بيانًا يحوي لحظة من التردد تشير فيها إلى التمييز بين الفردي مقابل المؤسسي، لكن على المرء التحلى بسوء النية لكي يستخدم ذلك التردد لتبرير قرارعرض الفيلم.
ما جاء في البيان أن الفيلم نفسه، وفقًا لقواعد «بي دي إس» الدولية، لا يفي بمعايير المقاطعة. لكن في الوقت نفسه، طلب البيان من المهرجانات السينمائية العربية عدم عرض الفيلم، لأن القيام بذلك «سيشجع [دويري] في مساره المدمر» والهادف الى كسر المقاطعة. وهذا مطلب مباشر لا غموض فيه، بالإضافة لكون «بي دي إس مصر» حثّت سينما زاوية بشكل لا لبس فيه على العدول عن قرارها.
الملاذ الأخير لزاوية وآخرين مثل مؤسسة «فيلم لاب» الفلسطينية، غير الربحية، والتي كانت تخطط أيضًا لعرض الفيلم في رام الله، مستخدمة نفس أعذار «زاوية»، هو توجيه الاتهام إلى من يعارضون تحركاتهم بعدم احترام حرية الرأي والتعبير، أو بالافتقار إلى الحس الجمالي اللازم لتذوق أفلام حاصلة على جوائز أو مرشحة للاوسكار. هنا أيضًا تُخلط الامور، فهناك فرق كبير بين مقاطعة الفيلم بسبب مضمونه، ومقاطعته بسبب أفعال المخرج.
لم أشاهد الفيلم، وبالتالي لا أستطيع الحكم على محتواه، رغم كوني قرأت مراجعة دامغةله من قبل أستاذة السينما في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، تيري جينسبيرج، ومن ضمن مؤلفاتها كتاب «الكفاح الفلسطيني البصري». تقول الناقدة إن فيلم دويري في صميمه عنصري ومناهض للفلسطينيين، إذ يصور اللبناني الماروني اليميني الرئيسي كإنسان «ثلاثي الأبعاد»، بينما خصمه الفلسطيني شخص مغاير تظهر محاسن اللبناني بمغايرته له.
وعلاوة على ذلك، يبدو الفيلم وكانه يبرر المجزرة الإسرائيلية / المارونية (1982) في صبرا وشاتيلا، واللذين كان المقاتلون الفلسطينيون قد انسحبوا منهما نتيجة الغزو الاسرائيلي للبنان. وفي الوقت نفسه يقلل الفيلم من دور إسرائيل في المجزرة. هل تشاورت «زاوية» بخصوص هذا مع أشخاص يعرفون التاريخ والسياسة اللبنانيين؟
كما أن هناك بعدًا آخر مهمًا تشير إليه جينسبيرج، وهو أن مؤسس شركة «تشارلز س. كوهين»، إحدى الشركات المنتجة للفيلم، حصلت على وسام الدولة الإسرائيلية لجمعها 52.4 مليون دولار، وهو رقم قياسي، لسندات دولة إسرائيل، فهل تحرت «زاوية»، قبل عرض الفيلم، عن العلاقة المالية والحميمة للشركة المنتجة مع الحكومة إلإسرائيلية؟
على أي حال، لم تذكر «بي دي إس»، سواء في فلسطين أو مصر، شيئًا عن مضمون الفيلم، والذي لم يُسمح بعرضه في رام الله بسبب المعارضة الشعبية، ليس بسبب الجودة اوالمحتوى ولكن لتصرفات المخرج وعدائه المستمر لـ«بي دي إس».
نحن نقاطع الملابس التي تأتي من المصانع التي توظف عمالة الأطفال بسبب من ينتجها، وليس لجودة خاماتها أو عدم جودتها. أو في مثال آخر، ففي كانون الثاني/ يناير الماضي، صوّت البرلمان الدانمركي على استبعاد البضائع المُصنّعة في المستوطنات الإسرائيلية، بالضفة الغربية، من الاتفاقيات التجارية مع الدولة الإسرائيلية، بسبب عدم شرعية المكان الذي أُنتجت فيه.
على أي حال، هذه النقطة لا تحتاج إلى توضيح أكثر من ذلك. ما حدث في الحقيقة من قبل «زاوية»، بتصوير عرض الفيلم وكانه دفاع عن حرية التعبير، قد انتهي بضمان حرية دويري وآخرين في انتهاك قواعد المقاطعة، رغم محاولة «زاوية» تاكيد عكس ذلك.
إيقاف الحلقة المفرغة
الضرر وقع، وشاهد الفيلم، ربما، عدد أكبر من الناس، بدافع الفضول وبفضل الدعاية التي اكتسبها من الجدل الذي أثاره، وفاز دويري بهذه الجولة، كما فاز في جولات قبلها.
في لبنان، وبسبب الطائفية المزمنة، بُرئ المخرج أمام المحكمة من تهمة مخالفة القوانين اللبنانية ضد التطبيع، مع أن مخالفته لا لبس فيها، كما استطاع عرض فيلمه في المهرجانات السينمائية العربية، باسم «حرية التعبير».
وما يجب الآن على «زاوية» ودور السينما الاخرى فعله، هو الاختيار، إما أن تصبح منفذًا لصناع الأفلام والممثلين ممن لا يعيرون اهتمامًا للمقاطعة، أو يرغبون في إنهاء ما تبقى منها، أو أن تعترف بشجاعة بأنها ارتكبت خطأ فادحًا، فتنضم بذلك إلى من يؤيدون الاستمرار في فرض مقاطعة محكمة ضد دولة عنصرية لا يمكن إصلاحها إلا من خلال ضغط مستمر.
إن حادثة زاوية/ دويري ليست حادثة منعزلة، فهي صورة مصغرة لصورة أكبر لعدد متزايد من العرب في عوالم الثقافة والإعلام والسياسة (فالاقتصاد والاقتصاديون ورجال الأعمال يحتاجون إلى مناقشة منفصلة) يختارون زيارة إسرائيل، أو إجراء مقابلات مع محطاتها التليفزيونية والإذاعية، ممهدين بذلك الطريق لآخرين لفعل الشيء نفسه، خاصة إذا ثبت أن أعمال التطبيع لها فوائدها، أو على الاقل ليست لها أضرار.
وبالمثل، سمحت دول عربية كثيرة لعدد متزايد من الإسرائيليين؛ رياضيين، رجال أعمال، علماء، إلخ، بالمشاركة في الألعاب والمنتديات والفعاليات المختلفة على أراضيها، كما سمحت لوسائل الإعلام العربية بمحاورة مسؤولين إسرائيليين في برامجها، إن لم تكن شجعتها على هذا.
أقل ما يمكن لحملات بي دي إس الفلسطينية والعربية الأخرى فعله، هو وضع قواعد ومبادئ واضحة وصارمة لإيقاف هذا التبادل المتزايد، وعدم السماح له بأن يصبح تدفقًا مستمرًا وغزيرًا، ومثلها كذلك حول كيفية الرد على أولئك الذين ينتهكون المقاطعة. ربما يجب عليها إما تغيير اسمها، أو القول بشكل جلي إن استخدامها لذات الاسم العالمي ما هو إلا من باب التماهي معه، فيما لا يعني التزامها بنفس السياسات، فالموضوع ليس فيه، كما لا يجب أن يكون فيه، مركزية، والحالة العربية لها متطلباتها التي تختلف عن تلك متطلبات حركة تعمل في أوروبا أو أمريكا مثلًا.
خلال كتابتي لهذا المقال، حاول أعضاء في البرلمان التونسي إدراج بند في الدستور يجعل من التطبيع جريمة يعاقب عليها القانون، ولا أدري ما إذا كانت هذه المحاولة ستنجح أم لا، لكنها تمثل الحد الأعلى لما يمكن عمله، حيث يصعب الرجوع عنه، فتعديل الدستور يحتاج في العادة إلى أغلبية عظمى من أصوات البرلمان، كما أنه لا يترك مسالة خرق التطبيع عرضة لنزوات ومصالح فردية.
وقد يكون من الصعب سن تشريعات في العديد من الدول العربية، حيث البرلمانات، إذا وجدت، غالبًا ما توافق تلقائيًا على سياسات حكوماتها، وبالأخص في دولتين رئيسيتين، هما الأردن ومصر، تلتزم حكومتاهما بمعاهدات سلام مع إسرائيل.
أما في حالة المجتمع المدني، فإن انطباعي هو أن النقابات المهنية في مصر والأردن قد شرّعت من زمن طويل قواعد ومبادئ لمنع التطبيع، وبالتالي فربما لا تحتاج حملات بي دي إس العربية إلى إعادة اختراع العجلة هناك.
وعلى أية حال، يجب ألا تميز المبادئ التوجيهية لحركة المقاطعة العربية بين الأفراد والمؤسسات، مثلما تفعل بقية حملات المقاطعة غير العربية، ويجب أن يكون واضحًا أن هذا القاعدة تنطبق على التدفقات في الاتجاهين بين الدول العربية وإسرائيل، أي منها وإليها.
هناك خطر وشيك في هذه الأوقات التي تشهد اقتتالًا عربيًا، وسياسات متشظية بشكل خطير، ونظم فاسدة وسلطوية، أن يؤول التطبيع الى حلقة مفرغة لا يمكن وقف اتساع دائرتها، وبديناميكية أو صيرورة تأخذ الشكل التالي: مزيد من التبادل يحدث، فيصبح التطبيع القاعدة لا الاستثناء، حتى ينهدم بالكامل صرح المقاطعة العربية.
إذا حدث ذلك، فستبدأ حركة المقاطعة العالمية بالظهور وكأنها «أكثر كاثوليكية من البابا»، وقد تتفكك هي الأخرى، فيخسر الفلسطينيون في نهاية المطاف موقعًا رئيسيًا، إن لم يكن الموقع الرئيسي، للمقاومة.
[نشر المقال بالتعاون مع مدى مصر]