* 1*
اختفى فجأة البحارة الثلاثة الوحيدون، من مركب مهاجرين غير شرعيين، مكتظ بأكثر من 300 شخص، بعد مغادرته السواحل الليبية بحوالي الساعة. يبدو أنهم فروا بقارب صغير مجهز بمحرك، في غفلة من المهاجرين على المركب، وتركوهم في عرض البحر لمصير مجهول، بعد أن دفعوا أجراً عالياً من أجل التوجه بهم إلى سواحل إيطاليا. وسيتوه المركب العتيق، المثقل بركابه، في عرض البحر على غير هدى، في غياب البحارة المرشدين، ولا أحد فيه سوى مهاجرين، لا يدرون ماذا يفعلون، سوى الاتصال بالمجهول عبر الهواتف المحمولة.
كان البحارة الثلاثة جزءاً من شبكة تهريب كبيرة، في أعلى درجات الاحتيال والابتزاز، واستطاع “المعلم الكبير” أن يكسب ثقة المسافرين المهاجرين بخبث شديد، فهو لم يقبض أجور السفر العالية الاستثنائية منهم، إلا عند تأكدهم من وجود المركب، وفي لحظة صعودهم إليه. وكان قد وعدهم باقتصارهم على مجموعات من السوريين والفلسطينيين والعراقيين، الهاربين من حروب مناطقهم عبر مصر، وبإنزالهم على الشواطئ الإيطالية مباشرة، بعد رحلة قصيرة، وبوجود ستر نجاة وكميات من طعام ومياه كافية للجميع. لكن سيفاجأ المسافرون بصعود أعداد كبيرة متتالية من الإفريقيين، تجاوزوا بها طاقة المركب بأضعاف. وعندما حاولوا الاعتراض، كانت الأمور قد مضت سريعاً، بحيث وجدوا أنفسهم في عرض البحر، مع ثلاثة من البحارة، الذين ادعوا بعدم معرفتهم بما يحدث، وبأنهم مجرد مهاجرين مثلهم، لكنهم ما لبثوا أن اختفوا تاركين المركب في عرض البحر. وزاد من سوء الوضع الازدحام الشديد على ظهره، مما جعل المسافرين، المختلفين بلغاتهم وجنسياتهم، يتدافعون ويتنازعون على مساحات للجلوس، تُقاس بالسنتيمترات، واكتشافهم متأخرين بعدم وجود ستر نجاة أو أي طعام أو مياه.
حاول بعض الركاب إطلاق نداءات استغاثة عبر هواتفهم المحمولة، إلا أنها كانت دون جدوى، ولم يشاهدوا طوال الوقت أي سفينة شحن عابرة تمر من قربهم، كي تنقذهم. وسرعان ما نفذ في اليوم الأول معظم الطعام والمياه، الذي كان يحمله مصادفة بعض المسافرين، الموعودين بالوصول إلى الشاطئ الإيطالي خلال بضع ساعات.وفي اليوم الثاني، أخذت علائم التعب والجوع والعطش تظهر على الجميع، وتشكلت عصابات صغيرة، أخذت تستولي بالقوة على بقايا الطعام والمياه. في اليوم الثالث، استسلم الجميع لقدرهم، وأخذوا ينهارون الواحد تلو الأخر، وأصيب بعضهم بالإغماء نتيجة الإنهاك والجوع والعطش، دون وجود إمكانية لتقديم أي مساعدة لهم.
كانت حنان من بين المسافرين على المركب، واختارت مع رضيعتها شهد، البالغة من العمر تسعة أشهر، مكاناً في قاعه، بالقرب من المحرك، إذ كان منظر البحر، الذي تركبه لأول مرة، يصيبها بالرهبة والدوار، فيما كان زوجها عمر يتحرك بين القاع والسطح، مستطلعاً الأوضاع باستمرار. لكنها أخذت تشعر بحاجة مستمرة للإقياء، بسبب استنشاقها في القاع خليطاً مقززاً عطناً من روائح الديزل والعفونة القديمة والبول، الذي يفرغه جحيم المسافرين المزدحمين حولها، والضاجين بجنون، فيما لم تنفك صغيرتها عن البكاء، وإبداء علائم الاختناق، مما دفع زوجها عمر الفلسطيني إلى إخراجهما إلى سطح المركب، وبصعوبة وجد لهما مكاناً صغيراً هناك. تقول حنان لعمر، وقد تركت صغيرتها تتلقى الهواء الحار، المثقل بالرطوبة “الشمس القاسية ودوار البحر هنا أرحم بكثير من الازدحام المجنون، والروائح العطنة في القاع.” يبتسم عمر لها ابتسامة مرة، ويقول “اصبري، بضع ساعات فقط، ونصل إلى إيطاليا، وننتهي من هذه المحنة.”
في نهاية اليوم الأول، انتهت الكمية القليلة من الطعام والمياه لدى حنان وعمر، بما فيها المخصصة للرضيعة شهد، إذ لم يتوقعا أن الأمور ستتطور إلى هذه الأحوال من الضياع، وشعرت حنان أن الحليب يجف في صدرها، وبخاصة مع جوعها وعطشها المستمر. في اليوم الثاني، أخذ عمر يستجدي بعض المياه، وأي طعام يمكن هرسه للصغيرة. وبالطبع، لم يكن لأحد أن يستغني عن طعامه ومياهه بسهولة في هذه الظروف، مما اضطره أن يشتري الجرعات وفتات الطعام، باليورو والدولار، فالنقود لم تعد تعني شيئاً أمام المجهول المرعب، المخيم على الأجواء. في اليوم الثالث، انتهى الطعام والمياه لدى جميع المسافرين على ظهر المركب، احتمل الأب والأم التعب والجوع بعض الشيء، لكن الطفلة الرضيعة شهد توقفت عن البكاء، وأخذت تصيبها حالات غشيان، مما اضطر والدتها أن تعطيها جرعات صغيرة من ماء البحر، رغم معرفتها بملوحته القاتلة، وهي تنظر إلى الآفاق المسدودة في كل الاتجاهات، مثل كل المسافرين في المركب، الذي كانت تتقاذفه الأمواج، بعد انتهاء الوقود فيه، على أمل أن تلوح لهم سفينة عابرة تنقذهم.
* 2 *
تحب حنان بيت والدها، الذي ولدت وعاشت فيه، وهو بالأحرى بيت جدها “أبو حمود“، زوج خالتي، ذلك البيت الريفي القديم الواسع، الواقع في أحد أحياء البلدة القديمة، الذي مازال يقيم فيه عم وعمتان لها، إلى جانب أهلها. وعندما غادرته بسبب زواجها، تأقلمت بصعوبة مع الشقة الحديثة المرفهة، التي انتقلت إليها في “مخيم اليرموك“، لكن الحنين إلى ذكرياتها القديمة فيه كان يدفعها لزيارة أهلها أسبوعياً.
كان يتم الوصول إلى بيت الجد عبر حارة واسعة، تتوزع على جوانبها البيوت الريفية القديمة، المبنية من الحجر والطين، ببواباتها الخشبية العالية، ومصاطبها الطينية عند مداخلها لقضاء الأمسيات الصيفية عليها مع الجيران. وكان بيت الجد واحداً من هذه البيوت القديمة، حيث تنتصب عند مدخله بوابة خشبية عالية، مزينة بزخرفات شرقية، وحدوة حصان معلقة عليها، تيمناً بعودة الغياب المسافرين بعيداً، وطبعات أيدي قديمة، ملوثة بذبائح الأضحيات للحفاظ عليه من الأرواح الشريرة. ويتوسط البوابة باب صغير، ينتهي في الأعلى بقوس، عُلقت عليه قبضة معدنية، على شكل يد تقبض على طابة، يقرع بواسطتها الضيف للإعلان عن قدومه، وما أن يأتيه صوت من الداخل مُرحباً “شد الحبلة وادخل“، حتى يشد المزلاج الداخلي المربوط بحبلة معقودة الطرف في الخارج، ويدلف إلى البيت عبر ممر مسقوف. أما البوابة الكبيرة، فقد كانت تُفتح بالكامل قديماً عند إدخال المحاصيل الزراعية المحملة على الحمير والبغال إلى مستودعاتها في الداخل. ومع أن هذه العادة انتهت بتغير الزمان والأحوال، لكن البوابة الكبيرة بقيت منتصبة ذكرى لتلك الأيام، لا يُستخدم منها إلا الباب الصغير، الذي يتوسطها، من أجل الدخول.
تتوسط بيت الجد “أبو حمود” فسحة كبيرة واسعة، شبه مستطيلة، هي فناء البيت، تحيط بها الغرف، المتوزعة على جوانبها، بأبوابها، ونوافذها الخشبية، التي يغطيها شبك المناخل الناعم لدرء الحشرات، وبمصاطب صغيرة للجلوس أمامها، تُفرد عليها الحصائر والبسط والمخدات للتمدد عند العصريات. وتنتشر على الجوانب أحواض زهور، ياسمين معرش على الجدران، والجوري والنرجس والأقحوان والزنبق والقرنفل والشكرية والمنثور، تُشعل أجواء البيت بكرنفالات ألوان، تُدهش الأبصار، وبمويجات عبق، تُسكر الأرواح. وفي أحد الأطراف، تنهض شجيرات برتقال، وليمون، ونارنج، وعرائش تمتد أغصانها عالياً فوق صقالة خشبية لتغطي الفناء كله، فتمنحه في الصيف الظلال، وهي تتثاقل بعناقيد العنب الزيني والحلواني. وفي طرف الباحة، تنهض بئر يحميها جدار دائري، يعلوه دولاب بمقابض، يتدلى منه جنزير، كي يرفع دلواً جلدياً أسود من عمقها، عند نضح الماء.
لم يتغير شكل بيت الجد كثيراً بعد وفاته، سوى تحويل الفناء من أرضية متربة إلى باحة إسمنتية، بأحواض ذات أطراف حجرية، واستبدال صقائل العرائش الخشبية بمعدنية، وتم رفع دعامات إسمنتية في أطراف الغرف من أجل التوسع ببناء غرف طابق ثاني، أخذ يستقل بها الأبناء المتزوجون مع عائلاتهم، فتم الاستغناء عن المدحلة الحجرية البيضاء القديمة، التي كان يتم بواسطتها دحل السطح الترابي القديم في أيام المطر، ورُكنت كذكرى في أحد جوانب الفناء، وأُغلق البئر، عندما وصلت التمديدات المائية إلى البيوت. لكن البوابة الكبيرة بقيت شاهداً على صمودها عبر الزمن، كما بقيت المطرقة المعدنية، التي تم الاستغناء عن استخدامها بوجود جرس كهربائي.
ليست فقط حنان هي التي تشعر بحنين إلى بيت الجد “أبو حمود“، الذي قضت فيه طفولتها ويفاعتها، بل وتتفجر فيه ذكريات طفولتي المبثوثة في جنباته، أنا أيضاً، قبل ولادتها بثلاثين عاماُ من عمرها، تتصاعد منها روائح لفافات الزيت والزعتر بالخبز الرقيق الساخن، الذي كانت تخبزه خالتي “أم حمود” في تنور الحارة. وقد شهدتُ فيه أعراس معظم أولاد خالتي، الذين بلغ عددهم ثلاثة عشر ابناً وابنة، عندما كان يحضر الأقارب والجيران إليه دون دعوة، ويرقص الشباب والصبايا معاً حتى مطلع الفجر على إيقاع الدربكة والأغاني الشعبية. وأذكر ذات عرس في ستينيات القرن الماضي، كيف نهض جار من وهو عسكري من الساحل، مستأجر غرفة في الحارة، ورقص ببذلته العسكرية رقصة رجال حلوة مع زوجته الصغيرة الخجولة، وأتبعها برقصة مقلداً فيها النساء، وسط حماس المصفقين، فملأ العرس بالبهجة والحبور. وأتذكر أن ابنة خالتي الكبيرة فاطمة الحلوة، أول معلمة في البلدة، تتخرج من معهد خاص لإعداد المدرسين، استقلت بشخصيتها، وقد أصبح لها راتب شهري من الدولة، فاشترت للبيت واحداً من أوائل أجهزة التلفزيون بالأبيض والأسود، تضعه صيفاً في الفناء، وشتاء في الغرفة الكبيرة، وأخذ عندئذ الأقارب والجيران والمعارف يزحفون إلى بيت خالتي في الأمسيات لمشاهدة مسلسلات المحطة الوحيدة للتلفزيون السوري، وببعض التحايل على اللاقط المرتفع على السطح، محطة التلفزيون اللبناني.
* 3 *
عندما فك العسكر الحصار عن البلدة، وانسحبت المدرعات منها، سمح الحاجز العسكري للأهالي المنتظرين عند مدخلها الرئيسي بالعبور إليها، وقد هبط المساء. ووصلت حنان إلى حارة أهلها مع والدة زوجها وأخته بواسطة سيارة عابرة، بدا سائقها حزيناً، زائغ النظرات، وبقي صامتاً طوال الطريق، وقد هالها منظر الشوارع شبه الفارغة من الناس، والمحلات التجارية المغلقة، وأكياس النايلون يتلاعب بها الهواء. كان أخوها الكبير مصعب ينتظرها عند مدخل الحارة، فشعرت بالاضطراب لرؤيته ممتقع الوجه، وهو يتناول الطفلة المتعبة منها، وسرعان ما لمحت تصاعد الدخان من الحارة، فسارعت إلى سؤال أخيها بلوعة “ماذا حدث؟ هل أهلي جميعهم بخير؟.”
يرد عليها “جميعهم بخير، لا تقلقي“
عاودت السؤال، وهي تسرع إلى البيت “ووالدي ووالدتي وأخي الصغير، وعمي وعماتي؟ بخير؟ لماذا أنت ممتقع الوجه؟.”
“قلت لك جميعهم بخير، كانت لدينا حملة مداهمة شديدة اليوم، خربوا بيتنا قليلاً.”
“ماذا يعني قليلاً؟ وهذا الدخان، من أين يتصاعد؟.”
“من بيت جارنا “أبو خيرو“، ألقى العسكر متفجرة في البئر، الذي يسقون حديقتهم منه، انفجرت في قعره بصوت عميق مكتوم، لكن الأرض اهتزت حوله كزلزال، وردمه التراب. قالوا إن فيه أنفاقاً تقود إلى خارج البلدة، يتسلل منها “الإرهابيون” مع أسلحتهم. ثم أحضروا بلدوزراً، وهدموا البيت الجميل، وأشعلوا النيران في أخشابه القديمة الجميلة، أمام أعين الوالد والوالدة والبنات المرعوبين، اللذين كانوا يصرخون باكين، ولم يسمحوا بحضور سيارة إطفاء البلدية. قال الضابط المتغطرس، الذي أعطى الأمر بهدمه وإحراقه، أن أولاد أبو خيرو “إرهابيون“، يحملون السلاح ضد الدولة. وبعد ذهاب العسكر، قمنا نحن والجيران بإطفاء النيران حتى لا تمتد إلى البيوت المجاورة، وبالكاد استطعنا إنقاذ بعض الأثاث.”
“لم أسمع بحياتي بأنفاق في آبار حارتنا، فهي لا تكاد تتسع لنضح المياه بالدلاء، من أين للعسكر هذه المخيلة؟ وأولاد “أبو خيرو“، أين هم؟.”
“التجؤوا إلى الحقول، هرباً من الاعتقال العشوائي، صحيح أنهم كانوا يقودون المظاهرات بالهتافات، إلا أنهم لم يحملوا السلاح أبداً. تعرفينهم كم هم شرسون، هم “أبناء الحقول والريح“، لا يرضون بأن يهينهم أحد، فكيف بإحراق بيت ذكرياتهم، سيحملون السلاح الآن، بعد أن كانوا يرفضون ذلك، وسيغتالون بالتأكيد “المخبرين السريين”في حاراتنا القديمة، هؤلاء الذين جاؤوا بلاء للناس…… وهدم العسكر الكثير من البيوت في الأحياء القديمة حولنا، بدعوى أنها فارغة من أهاليها “الإرهابيين“، الذين هربوا من المداهمات والاعتقالات، كلها بيوت قديمة جميلة، مثل بيتنا، يا خسارة.”
مرت حنان أمام بيت “أبو خيرو“، الذي أصر أولاده على الحفاظ على بنائه من الحجر والطين بالترميم المستمر، وبنوا إلى جانبه، في فسحة الحديقة الواسعة، غرفاً إسمنتية، لكنهم لم يستغنوا عن الغرف القديمة. تحسرت حنان، وهي تشاهد البيت القديم الآن دون سقف، وقد تهدمت جدرانه، وسقطت عوارضه الخشبية المحترقة على أثاث الغرف، وانهال معها التراب والحجارة، واتشح كل شيء بسواد الدخان. امتلأ في أحد الزوايا سرير بأكوام من الأنقاض، ظهر من طرفها شرشف أبيض، أصبح الآن مسوداً ومغبراً، وانكشفت رفوف كتبية في جدار لم يسقط بكامله، فيها بقية صحون قديمة مكسرة، ومزهرية، مازالت فيها ورود جوري زهرية اللون، إنما ذابلة، وزحف ناربيج نارجيلة من تحت الركام، فيما تلاعب النسيمات أوراق دفاتر مدرسية، تمزقت الكلمات عليها. وفي غرفة المؤونة، تناثرت الخوابي الفخارية المحطمة، وانساحت محتوياتها من العدس والبرغل والكشك على الأرض، واختلطت بالتراب. وبين الأنقاض، تناثرت هنا وهناك حطام خزانة، فيها بعض ألعاب أطفال، وطاولة طعام عليها كسرات خبز وصحن فارغ وكؤوس شاي مغبرة، وبقايا ملابس محترقة، تم استخدامها لإذكاء النار. وعلى بقايا جدار، مازالت صورة “أبو خيرو“، و“أم خيرو” بالأسود والأبيض، ذكرى يوم الزفاف، وإلى جانبها صورة البلدة، وفي خلفيتها “جبل الشيخ” مكللاً رأسه بثلج الشتاء.
قالت لها والدتها الحزينة، وهو تعانقها، والدموع تبلل وجهها “قلبوا الأثاث رأساً على عقب في بيتنا، وهم يصرخون أين السلاح؟“.
قال أخوها مصعب “دخل عسكر إلى غرفة الجلوس، وفتشوا بلامبالاة، فقط لأن “شبيحاً” كان يرافقهم، وعندما خرجوا منها، ربّت أحدهم بهدوء على كتفي، وهمس متمتماً“عليك بالصبر، فعلى الأغلب يعاني أهلي مثلكم في قرانا.”
قالت العمة “قلبوا أصص زهور الفناء، التي أعتني بها دائماً.”
يردف الأب المريض بحسرة “لكن “الشبيحة” هم الحقيرون، لم يكونوا يفتشون، بل كانوا يخربون بحقد، وهم يقلبون الأثاث، فيما حمل أحدهم دفتراً، وأخذ يُسجل بدقة عدد الغرف، وعدد المقيمين في البيت، ومن الغائب منهم، وفعلوا هذا في كل البيوت. غريب، كأنهم سيقتسمون بيوتنا، ونحن مازلنا فيها.”
يتصل عمر بحنان على الهاتف المحمول في هذه اللحظات، قائلاً ” “مخيم اليرموك” أصبح مغلقاً بالكامل، لا يمكن الدخول إليه أو الخروج منه، الجيد أنك خرجت مع أهلي.سقطت قذيفة على بنايتنا في المخيم، فاشتعلت النيران في الشقق، ومن بينها شقتنا. هل تستطيع والدتي وأختي البقاء عند أهلك لبضعة أيام؟ لن أغادر الآن المستشفى، لدينا ضغط عمليات جراحية خطيرة، امتلأت الأروقة بمدنيين مصابين بشظايا قذائف هاون، تسقط بجنون على دمشق.”
بعد عدة أيام يتصل عمر بحنان “ستقيم والدتي وأختي مع أخي في شقته بـ“مشروع دمر“، الوضع هناك آمن. لم يعد من الممكن الاستمرار في الحياة هنا، بكل هذا الجنون، وأبلغني أصدقاء أنني كفلسطيني مطلوب لخدمة الاحتياط في “جيش التحرير الفلسطيني.” لذلك، سنهاجر إلى ألمانيا عبر مصر، فليبيا، ومنها عبر البحر إلى أوروبا. أنا طبيب جراح، وأنت مهندسة معمارية، لم يبق لنا شيء هنا، وسنجد عملاً كريماً وأماناً هناك، جهزي نفسك أنت وشهد، وودعي أهلك.”
في يوم خروج حنان للمرة الأخيرة من بيت جدها، نظرت طويلاً إلى ورود الفناء، والمدحلة الحجرية المركونة جانباً، والبوابة الكبيرة، وحدوة الحصان، وبكت بصمت.تذكرت أنها عندما خرجت من مخيم اليرموك، لم تستطع أن تلقي نظرة أخيرة على شقتها، تركت هناك ذكريات سنتين من زواجها، وتحسرت بتنهيدة طويلة، وتمنت لو استطاعت فقط إنقاذ ألبومات الصور, كي تحمل معها شيئاً مادياً من ذكريات روحها. وفي أثناء مرورها في الحارة، توقفت طويلاً أمام بيت “أبو خيرو” المهدم، كان الوالدان العجوزان يجلسان على مصطبة البيت، يستمتعان بشمس الصباح، ويشربان الشاي، فهما لن يغادرانه إلى أي مكان.
* 4 *
يمر اليوم الثالث، وسفينة المهاجرين غير الشرعيين مازالت تائهة في البحر، دون بحارة، دون وقود، تتلاعب بها الأمواج، وقد بلغ الجوع والعطش أشدهما لدى ركابها، بعد نفاذ الطعام والمياه لديهم منذ اليوم الثاني، ولم يبق شيء منهما لسرقته من قبل أفراد العصابات المتشكلة على ظهرها، واستسلم الجميع لقدرهم، ناهبون ومنهوبون، في تلك اللحظات الضيقة بين الحياة والموت. وازدادت حالات الإغماء، دون وجود إمكانية لإنقاذ المصابين، سوى غسل وجوههم بمياه البحر المالحة. وفي هذه الأثناء، كانت مياه البحر قد أخذت تتسرب ببطء إلى قاع المركب، من شقوق الأخشاب البالية المهترئة في طرفه الأيمن، ولم يكن بالمستطاع فعل شيء، سوى انتظار الغرق، إلا إذا ظهرت سفينة تنقذ ركابه في اللحظات الأخيرة.
كانت حنان تجلس في ظل صاري السفينة، ورضيعتها شهد في حضنها، تتحايل بظله على الشمس، تعيش هلوسات الجوع والعطش والإنهاك، ولم تعد تدرك شيئاً مما يحدث حولها، وقد تحجرت الدموع في عينيها. كانت قد تركت أحد ثدييها مرخياً في العراء، قرب وجه شهد، التي لم تعد تلتقطه، في شبه غياب عن الحياة، وقد ازرقت شفتاها الرقيقتان، وتقشرتا، بعد أن سقاها والدها عمر بعضاً من مياه البحر، عله يمد في عمرها قليلاً. أما هو، فقد استسلم للقدر، بعد محاولات شراء فاشلة لقطرات مياه، ولقيمات طعام، بأغلى الأسعار، إذ نفذ كل شيء من على ظهر السفينة، حتى مع مجموعات العصابات. لقد دفع الكثير من المال، كي يؤمن سفراً أمناً ومريحاً لعائلته، هارباً من الموت في البلاد، لكن لم يتوقع بكل خبرته في الحياة أن يقع ضحية مهربين بدرجة عالية من الاحتيال، فيقع من جديد بين براثن الموت.
وفجأة، عند عصر اليوم الثالث، أطلق أحد الركاب بصوت مخنوق كلاماً غير مفهوم عن سفينة تلوح في الأفق، لم يلتف إليه أحد ممن حوله بالعيون نصف المغمضة، المستسلمة لتأرجحات وهدهدات الموت على الأمواج. صرخ أثنان، ثلاثة، إنها سفينة، فحدث هرج ومرج بين شبه الموتى على ظهر المركب، وانتقل بينهم بمويجات همهمات، ونهض أولئك ممن يستطيعون الوقوف، غير مصدقين، وأخذوا يلوحون بالأيدي والملابس. تساءل عمر، هل تم أخيراً التقاط نداء استغاثة من أحد الهواتف المحمولة للركاب، أم أنها سفينة مارة بالصدفة… لا يهم، فهي قادمة لإنقاذنا، وقد تنجو حنان وشهد، اللتان شارفتا على الهلاك، هذا إذا لم تكن شهد قد لفظت الأنفاس.
كانت سفينة شحن مالطية، تمضي في خط سيرها الاعتيادي، عندما لاحظ بحارتها من بعيد الوضع المتأزم لمركب يتأرجح بين الأمواج. عاين قبطانها الوضع بمنظاره، وشاهد مركباً خشبياً متهالكاً، محشواً بالناس نصف الأموات، وعرف أنه يقل مهاجرين غير شرعيين، مرميين في البحر من قبل عصابات التهريب. توجه بالسفينة نحوهم لإنقاذهم، متوقعاً حدوث كارثة في أي حركة مفاجئة غير طبيعية منهم على ظهر مركبهم، فأمسك مكبر صوت، طالباً منهم باللغة الإنكليزية الهدوء وعدم الحركة، لكن من كان في تلك اللحظات يفهمه، أو حتى يسمعه. وحدث ما توقع القبطان، فما أن عرف الركاب الثلاثمائة أن السفينة المنقذة قادمة إليهم، حتى تدافعوا متجهين بكتلتهم كلها إلى طرف المركب المتهالك المقابل لها، دون أن يدركوا بأنه أخذ يميل شيئاً فشيئاً مع ثقلهم المفاجئ. وسرعان ما انقلب المركب على جانبه في لحظات، وأفرغ بدفعة واحدة معظم حمولته من البشر في مياه البحر، فتبعثروا هنا وهناك بين الأمواج، التي أخذت تصعد بهم وتهبط، وتذهب بهم بعيداً، وهم يخبطون بأيديهم ضربات عشوائية مجنونة يائسة، إذ تبين أن معظمهم لا يعرف السباحة، ولا أحد لديه سترة نجاة. في حين حاول البعض في لحظة الانقلاب التعلق بأي عارضة يتمسك بها، فيتأرجح جسده قليلاً في الهواء، ثم لا يلبث أن تخذله قواه، ويسقط في المياه. واستطاع بعض المتأرجحين تسلق الظهر المنقلب للمركب، لكن ما الفائدة، وقد أخذ يغوص ببطء في المياه.
لم تقوَ حنان، شبه فاقدة الوعي، على الحراك، والناس يتدافعون حولها، ثم مروا من فوقها، غير آبهين بها. وبدلاً من أن تنهض، أو تبحث عن شيء تتمسك به، تشبثت أكثر برضيعتها شهد، تشدها إلى صدرها، وألصقت ظهرها إلى الصاري أكثر حتى لا يأخذها الزحام. ولم تدر إلا والمركب أخذ يميل بها، وإذا بها تتدحرج على سطحه مع كتل من الناس، وتسقط فجأة لتصطدم بالمياه، التي أعادتها إلى بعض من وعيها، فزادها هذا من تمسكها بطفلتها. حدث هذا في ثوان غريبة سريعة، دون أن تدرك ما حدث لها، فإذا بها في مياه البحر، الذي تخاف حتى من مرآه، فأصابها جنون غريب، وأخذت تنادي زوجها باكية.
أما عمر، الذي استطاع في اللحظة الأخيرة التمسك مصادفة بحلقة حديدية، في لحظة الانقلاب، فقد بقي معلقاً في الهواء، يحاول التسلق إلى طرف المركب، كي يعلوه، ليعي نفسه فجأة، ويدرك أن زوجته وطفلته سقطتا في المياه. بحث عنهما بعينيه بين الجموع المتخبطة اليائسة في المياه، وقد بلغ به الهلع أشده، فلم يستطع أن يشاهدهما، لكنه أحس بمكانهما بقلبه، فقفز إلى المياه وراءهما كالمجنون، وأندفع يسبح نحوهما. كان عمر قد مر بدورة قاسية من التدريب العسكري، في أثناء خدمته الإلزامية في“جيش التحرير الفلسطيني“، جعلت مهاراته في السباحة تزداد، لكن كان ذلك في حوض سباحة مريح، وأحياناً في بحيرة صغيرة، إنما ليس في بحر متلاطم الأمواج، وفي حالة من الهلع والارتباك. وسرعان ما وجد زوجته في وضع يائس، وهي تصارع الأمواج بيدها اليمنى، فيما تشد باليسرى رضيعتها إلى صدرها. كانت تحاول أن تطفو بصعوبة، إنما كان يعرف أن مهاراتها في العوم لم تكن تتجاوز القفز في مسبح “صالة الجلاء” في دمشق، حيث كانت تقضي أيام العطل صيفاً معه، وأنها كانت تفضل البقاء معظم الوقت مسترخية في الظلال، بدلاً من السباحة، إذ لم تتوقع أنها ستواجه البحر ذات اليوم في حياتها الأمنة.
صدمت الكارثة السريعة بحارة السفينة المُنقذة، الذين لم يتوقعوا أنها ستصل إلى هذه الدرجة من السوء، وهم يشاهدون من بعيد المركب المتهالك ينقلب بركابه اليائسين في الماء، دون أن تنفع تنبيهاتهم لهم بالهدوء. وما أن وصلوا إلى مكان الكارثة حتى رموا بكل ما لديهم من سترات نجاة للغارقين، واتبعوها بقوارب إنقاذ مطاطية فارغة، ثم نزل بعضاً منهم في قوارب ذات محرك، وأخذوا يصارعون بكل قواهم لإنقاذ ما يستطيعون من الأحياء، يسابقون الزمن ضد الأمواج، التي كانت تبعثرهم في كل الاتجاهات، ثم ما تلبث أن تبتلعهم، ولم يعودوا يميزون الأحياء من الأموات.
وفيما كان عمر يسبح باتجاه زوجته وطفلته، تعلق به أحد الغرقى اليائسين، الذين لا يعرفون السباحة، وأخذ يعيق حركة يديه وقدميه، ويشده معه نحو الأعماق. وبصعوبة تخلص من الغريق اليائس، وشهد بعينيه كيف ابتلعه البحر أمام عينيه، دون أن يستطيع فعل أي شيء له. اقترب من زوجته، التي تكاد تستسلم للموت، وهي تشد إلى صدرها الطفلة، التي شعر أنها فقدت الحياة، ولاحظ أن وجودها يمنع حنان من السباحة بكلتا يديها، وستغرقها إن لم تفلتها. كان بحاجة، هو وحنان، إلى ما تبقى من طاقتهما المتداعية للصمود في وجه الأمواج، التي أخذت تلقي بهم بعيداً عن القوارب المنقذة.
صرخ عمر بحنان “اتركي شهد، دعيها، ذهبت إلى رحمة الله، واسبحي أنت بكلتا يديك“.
لكن حنان ازدادت تشبثاً بشهد، وتمتمت “لا ، إنها حية، لن أفلتها.”
يصرخ من جديد يائساً “إنها ميتة منذ أن كانت على ظهر المركب، لا فائدة يا حنان، ستغرقين معها.”
لا ترد حنان، تضعف حركة يدها اليمنى، التي تطفو بها، وقد بلغ الإنهاك بها درجة جعلها تفقد قواها بالكامل، وغابت عن الوعي. أقترب عمر من خلفها، أمسك بها بيده اليسرى من سترتها عند رقبتها، وحاول أن يطفو بيده اليمنى. نظر حوله، فشاهد من بعيد قارب بحارة يحاول إنقاذ الأحياء، صرخ منادياً، لم يخرج صوت من فمه. تذكر أنه كان ينبغي شراء سترات نجاة، وصفارة بحر لمثل هذه الحالات، لكن “المعلم” وعده بأن كل احتياجات النجاة موجودة على المركب، وما هي إلا بضع ساعات، ويصل إلى شواطئ إيطاليا. وما أن حاول عمر التلويح بيديه لبحارة القارب حتى أفلتت يده حنان، وأخذت تغوص، فلحق بها من جديد ليمسك بها، وينتشلها، ويحاول أن يطفو بها.وعاد من جديد يلوح بيده إلى القارب، الذي أخذ يبتعد عنهم، فتفلت حنان منه. ومع أنه استنزف آخر قواه بالكامل، إلا أن صوتاً خرج من حلقه يائساً، وأطلق صرخته الأخيرة.
* 5 *
لماذا كل ما حولي أزرق، صاف، جميل، شفاف، أرى عبره كل الأشياء، آه، أنا أغطس في ماء أزرق صاف، غريب، وأتنفسه مثل سمكة، وابنتي شهد الرائعة أيضاً تتنفسه مثل سمكة. تبتسم شهد، وهي تمضي معي في نزهة تحت الماء، مسرورة لأنها أصبحت سمكة، مثل تلك، التي كانت تراقبها في الوعاء الزجاجي على طاولة في غرفتها، وأنا أيضاً أصبحت سمكة. ربما أنا وشهد تحولنا إلى حوريات بحر، ونعيش في عالم بحري، مثل اللواتي كانت تقرأ لي عمتي قصصهن في كتاب أطفال ملون، عندما كنت صغيرة. ستكون الحياة حلوة هنا، في عالم دون حرائق وانفجارات، والركض هرباً منها في الطرقات، الماء يطفئها، الماء حياة. لماذا نسيت أن أحضر معي من شقتي في المخيم ألبوم صور زواجنا، وصور شهد، وهي تطلق أولى الضحكات، وتحبو، وتغمز بعينيها. عندما تكبر هنا في عالم الماء، كيف ستتذكر طفولتها، مع أنه كان هناك متسع للألبومات في صندوق الشاحنة الفارغة، التي أقلتني إلى بيت جدي. ربما أحضرتها، قبل أن تحترق شقتنا، إلى بيت أهلي، وأنقذتها من بين جميع الأشياء، التي ستحترق بقذيفة. آه، تذكرت، أحضرتها إلى بيت جدي، لكني نسيتها في حضن والدتي. كنا نجلس معاً في الفناء، أنا ووالدتي ووالدي وأخواي، تحت ظلال العريشة، يغمرنا أريج الياسمين، المعرش على جدار بيت جدي، وكنا نتفرج على صور الألبومات. وكان هناك ماء أزرق شفاف يغمرنا، ونحن نتفرج عليها، ماء يغمر فناء بيت جدي، ويعلوه بأمتار، يتجاوز أسطح غرف الطابق الثاني، وكنا نحن جميعاً نتنفس الماء، مثل الأسماك، ونبتسم في الماء لشهد، وهي تقلب الألبومات معنا، وهي تتنقل بيننا. منذ متى أصبحت شهد تمشي، يسرقني الزمن، دون أن أدري. شهد تفتح الباب الخارجي في بيت جدي، تشد المزلاج المربوط بحبلة إلى الخارج، متى أعاد أبي تركيبه مع أنه وضع جرساً كهربائياً. شهد تتطاول إلى مطرقة الباب تتلهى بها، وعندما أفتحه لها، تركض ضاحكة أمامي في الحارة. إلى أين تذهبين يا شهد؟ وألحقها، أسمع صوت عرس في الجوار، إيقاع دربكة، وأكفاً تصفق، وأصوت غناء، تصدر جميعها من بيت الجد “أبو خيرو“. أقترب من البيت، الشباب أبناؤه يتزوجون اليوم دفعة واحدة، هو عرسهم، ويرقصون فرحين في قلب النار مع عرائسهم الحلوات، لكن بين جدران مهدمة، متشحة بالأحمر، وقد علقوا بنادقهم عليها. غريب من هدم لهم الدار الحلوة، وأحرق خشبها المزين بالزخارف الملونة، النار تحرق الأخشاب الحلوة، كي يرقصوا حولها. لكن لماذا لا تنطفئ النار، والماء يغمر كل البيت، أزرق، صافي، شفاف، ألسنة النيران تتراقص في عالم من الماء، والجد “أبو خيرو” والجدة “أم خيرو” تركا العرس، وراحا يشربان القهوة على المصطبة الطينية أمام البيت، يشربان قهوة في عالم الماء، وأنا أشم رائحة القهوة. لماذا يا عمر تشدني، أنت عدت متعباً من المشفى، تقول لي إنك تريد شرب القهوة معي، تعال أنت واشربها معي هنا، أنا وشهد مسرورتان في عالم الماء، نحن الآن حوريات بحر، وشجرة ياسمين تعرش حولنا في الماء، وأريجها يفوح في الماء. لماذا تصر أن تشدني لعندك إلى الأعلى؟ دائماً أنت صعب المراس، لا أستطيع أن أقنعك بآرائي إلا بصعوبة، لماذا تشدني يا عمر، أنا مسترخية هنا، وأرغب أن أنام طويلاً، مسرورة هنا، أنا وشهد، وسننام، لماذا توترنا، وتشدنا إلى الأعلى، تشدنا نحو الهواء، أنت تعرف أننا أصبحنا نختنق في الهواء، لا نحب الهواء، نختنق فيه.
أين أنت يا شهد، أين أنت يا عمر، لماذا كل ما حولي أبيض، سرير أبيض، شراشف بيض، غمامات بيضاء في الغرفة، همسات بيض، وأشباح بيض تتحرك حولي، كل شيء أبيض، يغمرني الأبيض، أتنفس الأبيض بدلاً من الماء. لا أفهم ماذا حدث، متى غادرت عالم الماء الأزرق الشفاف، وانتقلت إلى عالم أبيض، أتنفس فيه هواء، هواء أبيض. أين أنت يا شهد، لماذا أنت تبكين يا صغيرتي، أسمع صوتك بوضوح غريب، هناك يدان تقتربان بك مني، يدان بيضاوان، أفتح ذراعي، وأتلقاك على صدري، لماذا تبكين يا شهد، يا حبيبتي، كأنك تبحثين عن ثديي. أنت دافئة شهد، تتنفسين، وتمتصين حلمة ثديي، أنت حية يا شهد، الله يسامحك يا عمر، كيف تقول لي أنها ذهبت إلى رحمة الله، شهد حية يا عمر.
“نجوت أنت وابنتك بأعجوبة، وزوجك حي أيضاً، أنتم في مستشفى، في مالطا، أنتم محظوظون، فقد غرق معظم المسافرين في مركبكم، الذي انقلب في البحر، والقليل منهم من نجا” تقول ممرضة لحنان بلغة إنكليزية، وبلهجة ودودة.