بعد ضرب العراق ودخول القوات الأمريكية أراضينا، كان هناك صمتٌ مطبق في مدينتي حتى ظننتُ أن الناس تمشي وهي ميتة. أصبحت نينوى التي كان يسهرُ فيها القمرُ على شواطئ دجلة حتى الصباح مدينةَ أشباح. رياحٌ سامة لا نعرفُ مصدرها. اكتست الأشجارَ بروح صفراء وذبول درامي دون إشارة لآثار الجو عليها. لم أعد أسمع صراخ الجارة التي تعوّد أن يضربها زوجها كل عشية، ولا صوت منبه السيارات وهي تمرّ. لم يعد الناس يتشاجرون على باب الأفران والمحلات من أجل دورهم في الطابور. لم يعاود الدائنون يطرقون باب جارنا السكّير. ومضةٌ ما اختفت عن وجه المدينة ولم يعد هناك ما يضجُّ في الشارع سوى جنازير المدرعات الأمريكية وصمت الناس. كنتُ قد فقدتُ اتصالي بحَسن بسبب انقطاع الهواتف الأرضية، ولأن عائلتي انتقلت إلى حي في أطراف المدينة بعد أن باعَ أبي بيتنا القديم إثر ديون تراكمت عليه، بسبب ما خلفتهُ الحروب والحصار من آثار اقتصادية مفجعة على أصحاب الأعمال الحرة. بعضهم ارتفعت أسهمه في السوق بحسب زيادة جوع الناس وآخرون كسدت تجارتهم، لأن الناس لم تعد تشتري الفن والأنتيكات وهي لا تستطيع توفير قوت يومها. تجارة أبي كانت مع الجَمَال وعُمر السنين. كان يحبها ويجمعها بكل ما يملكه من شغف ويدفع الآلاف، وأحياناً الملايين، من أجل تحفة فنية تبيعها سيدة كانت غنية يوماً ما. تكدست في بيتنا الكثير من هذه القطع الجميلة بسبب عدم شراء أحد لها. جارت سنوات الحصار على الناس، حتى صاروا يبيعون ذكرياتهم من أجل علبة حليب للأطفال. في تلك الفترة فهمتُ حزن أبي على قطعة كريستال تسقطُ على أرضية رخام. كان ينظر إلى القطع الناعمة المتوهجة، يتأملها طويلاً ولا يعرف هل يجمعها منعاً للأذى أم يبقي عليها كما هي، إذ بانكسارها خلقت جمالاً آخر!
لم تكن مفارقة أن أشهد أثناء عودتي من خارج المدينة الآليات العسكرية الأمريكية وهي تدخل دون مقاومة أحد لها. كانت الموصل آخر مدينة وصلوها بسبب منع تركيا استخدام أجوائها للطيران الأمريكي. زحفوا إليها زحفاً من الجنوب مروراً ببغداد. باختفاء الشرطة والأمن والجيش من الشوارع، أحسست أن خيطاً ما انقطع بيني وبين المدينة. كان هذا الخيط يربطني بها وبقيتُ أصارع كي أحافظ عليه. سألوني مراراً إن كنتُ بكيت لحظة سقوط بغداد. كنتُ أبهتُ من السؤال. حيث أنني لحد اللحظة التي أقود بها سيارتي بجنون، لا أذكر فعلاً ما كان وصف ذلك الشعور الذي اعتراني. كل ما أعرفه أنني توشحتُ بالصمت لأيام، أستمعُ فيها لنظرات الناس التي لم تعد تقول شيئاً. أنصتُ لفراغ الشوارع وأحصي الوقت وألمسهُ. كان الجوابُ الحقيقي لكل ما حدث حتى لو لم أكن أعرفهُ:
- أننا سقطنا.
قررتُ في ذات صباح أن أنزل إلى وسط المدينة بعد طول انتظار من الرعب والخوف. كانت الشوارع، كما توقعت، لم تعد كالسابق. اختفت شرطة المرور وتعطلت الإشارات في الشوارع. صار الناس في مدينتي تُنظمُ السير بنفسها، تتغلبُ على كآبة الغبرة الصفراء التي كست وجوههم. استأجرتُ تاكسي وأخبرتهُ أن يوصلني إلى وسط المدينة، سألني:
ـ إيش وَقت آخر مرة نزلتي بيها السوق؟
ـ ما نزلتُ من يوم السقوط.
أجبته بحذر..
أحاطني السائقُ علماً أننا ربما نتأخر بعض الشيء بسبب الازدحام. كانت الآليات العسكرية وحواجز أمنية تسد بعض الطرق الرئيسية. لمستُ من كلامه أنه يريد زيادة في أجره. كان بيتي يبعد عن وسط المدينة 15 دقيقة بالسيارة في الظروف العادية. أحسستُ أن هذه الرحلة ستكون طويلة جداً، ليس بسبب الازدحام، بل لأنني سأطيل النظر لكل صمت وذهول كان يعتري حجارة الأرصفة وخطوات الناس. بين الحين والآخر كنا نتوقف بسبب تقاطع وتزاحم السيارات فيه. كان ينزل أحد السوّاق، ينظمُ السير ويساعدهُ آخر. لم أرَ المدينةَ جميلة مثل تلك اللحظة، رغم الخراب الذي كان يحيط بها. تعودتُ سابقاً أن أمشي في شوارعها وأشهد، على الأقل، شجارين أو ثلاثة بين السواق أو المارة. في ذلك اليوم، لم أشهد سوى انكسارات تمشي على ساقين، يسندُ بعضهم البعض كي لا تميل المدينة على حافة الغياب.
* مجتزأ من فصل في رواية قيد الإنجاز.