«بدت مغبرة ومترامية الأطراف في الحرارة اللافحة. وكانت أعمدة الدخان السوداء تعانق السماء، أحصيت منها، ثلاثة، خمسة، سبعة»
بول بريمر ـ عند أول مشاهدة له لبغداد
عدتُ الى العراق بعد ثلاثة عشر عاماً من فراق قسري. كان قد مرّ، حوالي سبعة أشهر، على سقوط صدام ودخول القوات الأمريكية بغداد. عدتُ محققاً نبوءة أبي الذي قال لي حين أخبرته بضرورة مغادرتي، في أيلول من العام 1991، يعني أنك لن تعود حتى سقوط صدام. والتقيت أبي لكنه كان على فراش المرض، فلم أنعم برؤيته ووجوده لسوى أيام. والعراق كله كان مريضاً، فقد تغيرت ملامحه كما شفّت عن ذلك الأمكنة ووجوه الناس. في شارع الرشيد، الأثير إلى نفسي من بين كل شوارع العالم، يمكن أن تُقرأ صورة بغداد، وقفت وكأني على حدود قرية، وليس في قلب الشارع الذي شهد حراك أهم أطوار العراق، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وكان تلخيصاً لمدَنية بغداد وتطلعها. لكن تلك أزمنة مضت ولن تُتدارك، إلّا بمعجزة. ذهبت إلى مقهى حسن عجمي، صحبة عدد من الأصدقاء، ولم أجد المقهى، كان المكان مزيجاً من عتمة وتهالك في كل شيء، بعد أن كانت أرضيته مفروشة بالسجاد وجدرانه مكسوة بالمرايا الكبيرة، المضيئة، على أيام الجواهري. حقاً يمكن استشفاف صعود الأمم أو انحدارها، من مقاهيها، وليس من موسيقاها، فقط، كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون.
■
دخلت العراق من سوريا عبر نقطة الوليد الحدودية، ما لفتني هو شخوص جدارية لصدام، رغم مرور شهور كثيرة على سقوطه وهربه، وكأنّ في ذلك قراءة رمزية وإشارة ذات مغزى قاتل، لقادم الأيام، فقد سقطت الدولة، لكن بقي صدام كنهج وبائي للفتك بما تبقى من الدولة وصولاً إلى جذورها، حتى لكأنّ المسألة، لم تكن سوى إعادة تأهيل لنظام منقرض استعداداً للانطلاق به من جديد ليكون أكثر فتكاً وانحطاطاً. هي عملية استبدال وجوه وتسميات استُهلكت، والعرض الجديد هو من صلب متطلبات لعبة الاستمرار في تدمير العراق وإبادة أبنائه. لم يختف، إذاً، صدام وحزبه وأبناؤه، تماماً، بل استُنسِخوا بنسخ لا نهائية مع المجاهرة بكل المعاصي، دينية كانت أم مدنية، وهو ما أتاح ويُتيح المزيد والمزيد من قتل العراقيين، فآخر إحصاءات منسوب الدم العراقي تؤكد ارتفاع عدد القتلى منذ 2003 وحتى اليوم إلى حوالي مليون قتيل، وهو رقم مُدمى يُضاف إلى سجلات أرقام الضحايا، لا سيما وبشكل تصاعدي منذ العام 1979، عام هيمنة صدام المطلقة على السلطة. التقتيل والقضاء على أية نأمة تقدّم يمكن أن يحققها العراقيون، بعيداً عن الوصاية، هو من المهام الدائمة للنظامين الأمريكي والبريطاني ودورهما في استهداف العراق. فهُما، مثلاً، كانا على رأس خمس جهات أطاحت، بالتآمر، العام 1963، بجمهورية عبد الكريم قاسم، إضافة إلى الكويت والأردن ومصر جمال عبد الناصر، وفقاً لما أورده أوريل دان في كتابه، "العراق في عهد قاسم".
■
كنت في بغداد حين أُلقي القبض على صدام، وأُعلن عن ذلك، نهار 13ـ 12ـ 2003. وفي سيارة الأجرة، التي كنت فيها، في اللحظات الأولى التي أعقبت اذاعة الخبر، قلت للسائق، لقد قبضوا على صدام. بدا غير مصدق. هل هو خائف..؟ أم هو من أولئك الذين لا يريدون تصديق نهاية صدام. كان الشارع العراقي متوجساً بكلا فريقيه، الفريق الموالي للنظام القديم بحكم الانتفاع منه والارتباط به، والفريق الآخر، وهو الأكثرية، الذي يقف على النقيض، والتائق لاختفاء نظام صدام وكل ما يمت إليه. لكأنّ الفريق الأول كان يأمل أن يكون ما يحدث مجرد زوبعة شبيهة بانتفاضة آذار 1991، التي انتهت بالفشل. وعلى هذا الأساس كان التحرك المتوجس لأفراده وتعاطيهم مع المتغيرات، قبل أن يستجمع هؤلاء شتاتهم، حين استيقنوا من أنّ النظام بالطبعة الصدامية قد انتهى حقاً، مهيئين أنفسهم إلى الالتحاق بالطبعة الجديدة من ذات آلية عمل النظام السابق في التدمير والهتك وقبل كل شيء في الاستحواذ. غير أن الإشارة تجب أيضاً إلى أن القطاعات الأوسع، المتطلعة إلى التغيير لم تُخف توجسها من بوادر فساد في السلطة الجديدة، وهو ما كان يمكن سماعه في الأمكنة العامة، في ذلك الوقت المبكر، من لغط حول الحرامية الجدد.
■
كان البعد الغَيْبي لمآلات بغداد، حاضراً دائماً، فقد شببنا على سماع وترداد الـ "نبوءات" التي اختارت لمشارفة بغداد نهايتها طريقين، هما الماء أو النار، أي الغرق أو الحرق. هكذا وفي أجمل أوقات بغداد وأصفاها وأكثرها سلاماً، كانت تختزن تحت جلدها، لنفسها ولأبنائها، وصيّتها المشظّاة بالنار والماء، لكأنما قدر المدن المستحيلة، العصية على التكرار هو هذا التجاذب المأساوي حتى في كتب أو سبل نهاياتها. غير أن هذا التصور الغيبي، حدّ الميثولوجيا، لمصائر بغداد، لم يكن حكراً على العراقيين فقط، فها هو جورج بوش الإبن قائد "الحملة الإيمانية" لاحتلال العراق يبرر لحرائق بغداد، بحجج أكثر غيبية وأسطورية، دون استنكاف عن توظيف الإحتيال والنصوص المحرّفة، وفقاً لما أفضى به للرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي لم يُخفِ فزعه وخجله حين سماعه ذلك، كما ينقل الصحفي الفرنسي جان كلود موريس، في كتابه "لو كررت ذلك على مسامعي فلن أصدقه": "تلقيت من الرئيس بوش مكالمة هاتفية، في مطلع عام 2003، فوجئت بها، تماماً، وهو يطلب مني الموافقة على ضم الجيش الفرنسي للقوات المتحالفة ضد العراق، مبرراً ذلك بمهمة تدمير آخر أوكار يأجوج ومأجوج، مدعياً انهما مختبئان الآن في الشرق الأوسط قرب مدينة بابل القديمة، وأصرّ على الاشتراك معه في حملته الحربية، التي وصفها بالحملة الايمانية المباركة ومؤازرته في تنفيد الواجب الإلهي المقدس الذي أكدت عليه نبوءات التوراة والإنجيل".
يأجوج ومأجوج هما استعارة جديدة للنفط، وفقاً لكتاب المجاز الوحشي لآل بوش وأسفار ديانتهم الإمبريالية الجديدة ـ القديمة. حلم النفط، ممزوجاً بروح ثأر غامض، وقد صارت أجساد العراقيين وأرواحهم، لا أرضهم، فقط، ميداناً لتفسيره.