حين سقطت بغداد، عسكرياً وسياسياً، في التاسع من نيسان 2003، بعد احتلالها، فتحول العراق، كلّه، إلى بلد محتل ويخضع للاحتلال الامريكي والقوى المتحالفة معه، كنت في الدنمارك، ولم يك قد مضى على وصولي إلى هذي البلاد سوى أربعة أشهر فقط. قبل اندلاع الحرب بأيام، وحين كانت نذر الحرب تتزايد مع كلّ خطوة لجنود المارينز في البحار أو قرب الحدود العراقية، ومع إبحار حاملات الطائرات العملاقة، وخطابات جورج بوش المتكررة التي لم يخل أي منها من مفردة حرب، كنت قد اقتنيت جهاز ستلايت، من أجل متابعة الحرب ووقائعها التي تطحن العراق وأهله، حرائق هائلة وصواريخ توغل في التدمير، موت ينقل بشكل مباشر عبر القوات الفضائية، بينما يتحدث ساسة البيت الأبيض عن أهداف لا تمت لما يحدث على أرض الواقع بصلة، تماماً، مثلما حدث لسردية الأسلحة الكيمياوية والجرثومية التي يمتلكها العراق وتهدد العالم بأسره، التي تهافتت حين عبرت أول دبابة أمريكية جسر الجمهورية في بغداد، في طريقها إلى ساحة الفردوس حيث ينتصب تمثال ضخم للدكتاتور العراقيّ صدام حسين، الذي أُسقط نظامه واختفى عن الأنظار، مثلما اختفى جيشه وخرج الجنود والضباط عراة، يبحثون عن ملاذات آمنة، أمام كاميرات النقل التفزيوني المباشر، قبل إسقاط ذلك التمثال الضخم والمخيف.
الصواريخ التي سقطت على بغداد، وعلى المدن العراقية الاخرى، آنذاك، كانت تسقط على روحي، هكذا كنت أشعر بها، وأصرخ: ترى ما الذي حل بأهلنا هناك وهم يعيشون تحت جحيم الحرب ونيرانها، الآن، من تبقى منهم حيا، أي بيت من بيتوهم المتهالكة دمر أو سحق بفعل صاروخ من صواريخ امريكا الذكية جدا؟؟ فيطير النوم، وتتحول أيامنا إلى مسلسل شبيه بأفلام الرعب الهيتشكوكي، وبتنا نكرر كلّ خبر نشاهده، وكلّ تصريح نسمعه، ومع كل لحظة تمر كانت قناعتي بسقوط العراق تحت براثن الاحتلال الامريكي تترسخ، فما حدث كشف عن خواء الأسطورة أو الهالة الزائفة والمضخمة التي أُحيط صدام ومؤسساته الامنية وجيشه المتهالك بها.
كان الجميع، من صدام إلى أبسط جندي في جيشه وأصغر متنسب في مؤسساته الامنية والمخابراتية، أشباح متوحشة تتلذذ بقتل العراقيين وتدمير حياتهم وتحويلها إلى جحيم حقيقي. في حرب كهذه، كنت أتصور أحوال أهلنا، ذعرهم وهلعهم، صراخ أطفالهم حين يتحول كلّ شيئ إلى هدف معرض للقصف في أية لحظة ممكنة، خصوصاً، وأن حرب 1991 وتأثيراتها المدمرة لم تغادر ذاكرتنا بعد، بل تحولت إلى جراح تتعمق وتتقيح طوال سنوات الحصار الاقتصادي الذي تحول إلى قرار عقاب جماعي، فحول الناس إلى هياكل عظيمة وأشباح تستتر بخرق بالية، وتكشف عن الانهيار المدمر الذي حل بالمجتمع، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، لكنها عززت من سطوة صدام حسين وجبروته الذي مارس أبشع أشكال الاستبداد والدكتاتورية.
اليوم التالي لسقوط بغداد، كشف عن حقيقة المشروع الامريكي، فمروية الديمقراطية وإسقاط الدكتاتورية الصدامية، تهاوت مع أول بوادر الفوضى الخلاقة التي أعلن عن اطلاقها بشكل رسمي في العراق، حيث استبيح كلّ شيئ يتعلق بالعراق، الدولة والذاكرة والتاريخ، واطلاق غول الطائفية من عقاله، ودخل العراق في مرحلة ظلامية يتنافس قادتها ورموزها وزعاماتها، مع صدام حسين، أو يستنسخون تجربته المريرة، في إذلال العراقيين..