معروف أن صراع الطبقة العاملة وطبقة الفلاحين في لبنان اشتد مطالع السبعينات مع بدايات حراك هدف أساساً لتصحيح خلل مجتمعي واقتصادي ورفع ظلم واقع على فئات اجتماعية بعينها تعيش في هذا البلد. كان لذلك الحراك دوافعه المحقة لكنه، ولأسباب كثيرة متداخلة، أضاع فرصته في أن يتحول إلى ثورة اجتماعية. بدلا من ذلك صار جزءا من الإرهاصات والعناصر المكونة والدافعة للحرب الأهلية اللبنانية. هذه الحرب التي سبقتها بوادر كثيرة، معقدة ومتشعبة سرعان ما قوضتها الإرادات السياسية والعسكرية فباتت تاريخاً مغيباً في ذاكرة أبناء ما بعد الحرب.
عن بداية فترة السبعينات هذه، والنقاش والصراع المحتدم في المجتمع في حينه، قلما ما نجد الصورة التي واكبتها أو وثقتها. والموجود ينتمي عملياً إلى الصورة الحزبية أو المناضلة أو التي تدخل مباشرة في خانة الدفاع عن القضية الفلسطينية، في حين تبدو هذه الصورة، على ندرتها، ذاكرة مؤسسة للكثير مما تلى ومرحلة مفصلية سبقت الحرب وحفلت بالصراعات ومحاولات تمرد طبقة مسحوقة: "جيش العامل والفلاح" على حكم يميني أحكم اضطهاده للطبقة العاملة والفلاحية، فيما هذه الاخيرة كانت مقيدة أيضا بحبال شيوخ الاقطاع.
تسلط المخرجة الشابة اللبنانية - الفلسطينية الهوية ماري جرمانوس سابا في شريطها الوثائقي وفيما يتسق تماما مع هويتها الخاصة تلك، الضوء على إضرابين كبيرين، عاشهما لبنان مطلع السبعينات اختصرا الصراع الطبقي القائم بين فئة عاملة كانت محرومة كلياً من حقوقها المشروعة، وبين طبقة حاكمة متحالفة مع البرجوازية والنظام الاقطاعي الذي ظل سائداً حتى اندلاع الحرب عام ١٩٧٥.
فمن جهة، كان الفلاحون ومزارعو التبغ في جنوب لبنان محكومين بالإقطاع الذي اتخذ دور الوسيط بينهم وبين شركة التبغ التي لا زالت تحمل اسمها الفرنسي "الريجي" في منطقة النبطية بالجنوب. ومن جهة أخرى كان عمال المصانع محكومين بمشيئة أرباب العمل وإقبالهم اللامحدود على استغلال قدرات العمال وقوة عملهم.
شريط جرمانوس- سابا الوثائقي يعود لمقابلة شخصيات عاشت إضرابات تلك الفترة ليحاورها، يستقي شهادتها، يصورها، في الأمكنة التي اختلفت أو التي بقيت على ما هي عليه، رغم الدمار والتحولات، كأن الزمن نسيها. على لسان شخصيات مميزة فريدة كانت طرفا في ذلك الحراك، يأخذ كلام ذاكرة تلك الاحداث بعداً اضافياً وهو يروى في تلك الامكنة أو يتم فيه تمثيل مواقف من ذلك الماضي حدثت بالفعل في نفس المكان. يرسخ هذا الشريط في حكايته الخاصة التي تنفتح على حكايات كثيرة.
وصور الفيلم بين النبطية وضاحية بيروت، تحديداً عند منطقة معمل غندور، عندما كان يتم تحويل ذلك المعمل الشهير إلى مجمع تجاري ضخم "مول بيروت" بعد أن كان قد تحول أثناء الحرب إلى محور من محاور القتال العديدة. بعد فترة قليلة من إقفال صاحبه له رداً على إضراب العمال الضخم قبل بداية الحرب. في هذه الأماكن ركزت المخرجة كاميرتها واختارت أن تعيد بناء بعض أجواء ذلك النضال اليومي فعقدت حلقة بين قدامى العمال حيث جاؤوا وجلسوا يستعيدون زخم أيامهم ويتحاورون في أفكار لا تشكل فقط جزءا من ماضيهم بل تعيش في حاضر تكبر لحظاته أبداً في ظل ذلك الخسران.
إنه "شعور أقوى من الحب"، كما عنوان الفيلم الجميل جداً والذي يوحي بأكثر من معنى: هل هو شعور المخرجة تجاه شخصيات الفيلم النسائية والذكورية التي تتذكر كيف عاشت وخاضت بلحمها ودمها وخبز يومها ذلك النضال للحصول على حقوقها داخل مجتمع مختل الكفة يميز بين مواطن وأخيه على أساس الانتماء الجهوي أو الطائفي؟ أم هي مشاعر تلك الفئة من الناس التي تصرفت بقلبها وعقلها وجسدها تجاه واقع مرفوض أولا وأخيراً؟
يفتح الفيلم كذلك نوافذ كثيرة وأسئلة متعددة على ذلك الواقع، حيث احتدمت الأفكار الثورية في بيروت في خضم الصراع العربي الإسرائيلي وفي ظل سيادة فكرة العروبة ونهوض اليسار اللبناني وانتشار الأفكار الشيوعية على نحو واسع في أوساط عمال وفلاحي تلك الفترة وكانت كلها خلايا تعمل بشكل سري وباسماء حركية خوفاً من بطش السلطات اللبنانية.
يبين "شعور أقوى من الحب" كيف كانت المرأة، في المجتمع اللبناني، تقف إلى جانب الرجل عملا ونضالا وصراعا من أجل نيل الحقوق وصولاً إلى حمل البندقية مع بعض الفروقات الصغيرة التي كانت تشكل محور احتجاج نسوي كما تشهد بذلك نادين عاقوري سليلة تلك الطبقة البورجوازية اللبنانية والتي، مثلها مثل أعداد من الشباب، انحازت في حينه، إلى صف الطبقة الكادحة وفضلت تجاوز حواجز الطبقات والطوائف.
لكن الفيلم لا يتوقف عند هذه الجوانب وحدها بل يفضح وبعبارات سريعة لكنها معبرة كيفية استخدام اليسار لتلك الطبقة وقوداً لصعوده السياسي وسعيه لخوض المعارك اللاحقة بالسلاح بدل الموقف واستبدال الكلمة بما هو أقوى صوتاً: البارودة.
يفتح الفيلم نافذة أيضاً على تلك الصورة التي توارت وراء آلاف الصور عن الموت والدمار الذي لحق بلبنان أثناء سنوات الحرب، صورة، كانت نادرة وصارت أقل ندرة بل غابت حتى من منعرجات الذاكرة، كما في ذهن تلك الحاجة التي تنجح المخرجة في العثور على فيديو مصور لها بعد أن ذاع صيتها إثر انتزاعها السلاح من يد الجندي الذي كان يريد قمعها أمام مبنى الريجي في قرية كفررمان.
لا تتذكر تلك الحاجة صورتها في فيلم عن زراع التبغ صوره وأنتجه الحزب الشيوعي اللبناني في حينه، وتعود وتتذكر حين ترى آخرين من رفاقها معها في الصورة.
ولعل هذه إحدى مهام "شعور أقوى من الحب": أن ينعش ذاكرتنا بتلك الحكايات التي مهما تقادمت فهي لا تفقد شيئاً من بريقها الإنساني وتجسيدها لسعي الانسان الأبدي لتحسين شرطه مهما كانت بيئته. إعادة هذه الصورة المنسية إلى الذاكرة، فعل نضالي أيضاً وفعل ملتزم يبدو واضحاً في طبقات الفيلم المتعددة والتي قد يراها اللبناني بشكل أكثر مجهرية من غيره، أكثر مرجعية.
هذا الحس يظهر في الفيلم الغني بإشاراته في دعابة هنا ومعاكسة هناك أو مخاطبة لآخر يبحث في معنى ما حدث بالامس الذي لا ينفصل عن مسارات اليوم. وهو بحث تتمسك به المخرجة الشابة التي تكشف عن وعي كبير ودقيق، لا يمكن إلا أن يغني السينمائي العامل في مجال الوثائقي وهو غنى يمس المشاهد ويثير رغبته بمعرفة المزيد. المزيد من تلك الصورة الماضية في مكان وزمان مختلفين عام ٢٠١٥، حيث وبسبب احتجاجات على الظروف الصحية في بيروت، تصرفت القوى الأمنية في العاصمة بشكل مشابه تماما لما حصل قبل الحرب. كأن لبنان لا يزال يقرأ الصفحات ذاتها من نفس السيناريو القديم الممتد.
أما الصورة القديمة فتتكئ فيها المخرجة على أجزاء من فيلم كريستيان غازي، الذي احترقت أعماله خلال الحرب وهو كان قد صور من ضمن أشرطته التي ركزت على كفاح الفدائيين الفلسطينيين في لبنان، شريطاً في الجنوب اللبناني أنجزه عام ١٩٧٠. وحمل الشريط عنوان "مائة وجه ليوم واحد" وهو عمل كريستيان غازي الوحيد الذي بقي من أرشيفه السينمائي. هذا الأرشيف الذي احترق ودمر وصادف أن نجت نسخة منه كانت خارج لبنان وتحديداً في المؤسسة العامة للسينما في دمشق.
في هذا الفيلم يأتي الصوت مشوشاً فتضيف إليه ماري جرمانوس سابا أصواتا وتأتي الصورة باهتة فتعود المخرجة إلى شخصياتها تتذكر معها نضالها اليومي في تلك الحقبة. وحين لا تعثر على صورة إضافية أو شهادة، حين تغيب تماماً الصورة الأصلية لا تتوانى عن إعادة تركيب الصورة أو إعادة صياغة الحكاية في أداء جديد يحاكي روح الشخصيات في ماضيها ذاك.
هكذا جاء المشهد الافتتاحي للفيلم، حين دارت سيارة بميكروفون كبير مركز على سقفها على القرى الجنوبية تدعو أهاليها، مزارعي التبغ، للتظاهر أمام مبنى الريجي المحتكر لسعر بيع تبغهم…
تنوع جرمانوس سابا عينات الصورة باحثة فيها عن الممكن وتستنجد أيضا بجيل كريستيان غازي، من مثل جوسلين صعب، أو برهان علوية مستعيرة منهم بعض صور لأعمال انجزوها في تلك الفترة: «بيروت اللقاء» لبرهان علوية و«بيروت لم تعد كما كانت» لجوسلين صعب، كان يمكن ايضا إضافة صورة أو اثنتين من فيلم مارون بغدادي، «بيروت يا بيروت»، الذي يؤدي فيه أحمد الزين، دور شاب يعمل في تنظيف إحدى المدارس في بيروت ويسير حاملا في جيب بنطاله الجينز الخلفية، جريدة النداء مطوية وبشكل ظاهر ومعتد، كأن في ذلك إعلان هوية.
يدخل " شعور أكبر من الحب" في حوار مداعب يشاغب عن قصد مادة هذه الصور، يعيد نظمها في إطارها الزمني ليقربه لنا، ويصبح العمل أكثر من ضروري إذ أن ابعاده تتخطى حدود الشاشة الكبيرة وتطل على واقع بدا أنه لم يتغير كثيرا رغم حروبنا الكبيرة والصغيرة وأمراضنا الطائفية المزمنة.
بالتأكيد فان في تقديم أيام قرطاج السينمائية له، إشارة وتوقيع بأن الأيام تريد تثبيت موقعها النضالي الملتزم بسينما المنطقة الافريقية- العربية وقضاياها المطروحة وصياغاتها المختلفة لصورة المجتمعات التي تجيء منها من بدايات السينما إلى اليوم.
وكان هذا الشريط عرض أول مرة في مهرجان برلين في فبراير الماضي حيث حصل على جائزة لجنة النقاد الدوليين (فيبريسي) وسبق له المشاركة في "تكميل" وهو برنامج خاص ضمن فعاليات مهرجان قرطاج السينمائي، يطمح لمساعدة الأفلام الشابة في مرحلة ما بعد الإنتاج.