قبل أي شيء في الحرب يتجمد الإحساس بالزمان والمكان معاً وتضأل المساحة التي يقف عليها المرء حتى تكاد تختفي. الطرقات المألوفة للعين المجردة بين المدن والقرى ستتبدد وتصبح رهينة الخيال، فتلك السهوب والبيوت والمنحدرات المترامية ستختفي تحت وطأة الخوف والهلع وفقدان الأمان. المسافة التي كنت تقطعها برفة العين صارت تحتاج لأيام وربما أسابيع وسنوات طويلة، أو ربما لن تراها بعد ذلك أبداً. غرق كل شيء في الجحيم السوري، والمدن الكبرى أخذت نصيبها من الانقسام الاجتماعي الكبير والدمار والصور الملتقطة مروعة جداً بحيث يخال المرء أن الذي يحدث لا علاقة له بالواقع، فقط محض خيال مبني في سيناريو فيلم رعب. مدن وقرى مترامية الأطراف كأنها تقيم أعمدتها على أرض كواكب بعيدة .
في أتون طاحونة هذا الصراع الذي بدأ في نقطة وانتهى في مجرة حسابات الدول ومصالحها وصراعاتها، بينما الكائن والمواطن البسيط الذي كان يصرخ في الشوارع للحرية انتهى به الأمر يصرخ لرغيف الخبز. بقي الريف المحيط بالمدن مرهوناً بشكل كبير للتحولات المفاجئة التي قد تحدث في أي لحظة. دفعت الأثمان الكبيرة مقدماً دماً وتشريداً وسجوناً جاهزة والخريطة التي درسناها على مقاعد الدراسة وحفظنا سهولها وجبالها وأنهارها ستختفي وتصبح مجرد ذكرى. مناطق كثيرة في الريف البعيد والقريب واجه الأهالي فيها أقدارهم لوحدهم عزلاً في عراء مرسوم بالدم والهلع والجوع.
في محاولة لتسليط الضوء على بعض هذا الريف المسكوت عنه وعن عذابات سكانه، ولجذب الأنظار إلى ما آلت إليه الأمور فيه بعيداً عن الخطاب الرسمي لأي طرف من الأطراف المتصارعة، فثمة من يدفع الثمن عنهم جميعاً، والذي يتدفأ في الفنادق وغيرها ويصرخ وراء الميكروفون، ليس كمن يقف في البرد كالحطبة التالفة في مهب الريح.
ع. الداغستاني من دير فول وسمير تسي من بئر عجم حاولا أن يحكيا عن قريتيهما، و بعضاً من التراجيديا التي عايشاها دون نقصان باليوم والساعة والدقيقة والثانية. ليست فانتازيا أو حكايات للتسلية المبرحة. إنها قصص الموت السوري اليومي وهي رواية الجرحى والمفقودين والمظلومين والهاربين من العسف والقذائف الطائشة والموت الحتمي. قريتان طحنتهما الرحى السورية الهائلة فيما يحاول شاهدان أن يسردا ما شاهداه وشهدا عليه وكيف كان عليهما أن يتركا كل شيء وراءهما ويغذان الخطى باتجاه المجهول الذي لا يعرفان عنه شيئاً.
دير فول: الموت البطيء
سمير أباظة مجنون القرية يختصر كل التفاصيل الكثيرة التي يمكن سردها هنا. سمير الذي كان يدور في أحياء وشوارع دير فول، يحمل لافتة صغيرة يمشي وهو يصرخ: “حرية، حرية” سيجدونه مسجى فيما بعد على ناصية شارع من الشوارع بعد يوم قصف شديد وفي جسده أكثر من رصاصة وآثار شظايا بادية عليه.
تقع دير فول في ريف حمص الشمالي وهي قرية صغيرة سكانها من الأقلية الداغستانية وتضم أيضاً بعض التركمان والبدو. عدد سكانها لا يتجاوز ال ٦٠٠٠ نسمة. منهم البعثي والشيوعي والمستقل. لم تسلم القرية من الطيران الحربي وانتقام داعش والنصرة وتحولت إلى مسرح عمليات عبثي اضطر فيه الأهالي إلى مغادرتها نحو القرى المجاورة مثل عين النسر والمشرفة والسلمية والمخرم الفوقاني. انتفضت القرية وتعرضت لمضايقات أمنية وملاحقة أبنائها.
قال لي: “أنا في السويد الآن لكنني دائماً حين أنام أجد نفسي في الحلم على أحد حواجز النظام.” على الطريق الرئيسية من جهة ساقية الري باتجاه قرية عسيلة ومنذ نيف من الزمن تم غرس أشجار سرو سُرقت فيما بعد وبيعت في أكياس نايلون وصل فيه سعر كيلو الحطب إلى ٣٠٠ ليرة سورية. حتى شجر الزيتون المثمر والذي يقدر عمره بحوالي ٢٥ سنة تم تحطيبه وبيعه في الأسواق . كانت عملية التصحير ممنهجة. وهكذا انكشفت الأرض لمرمى المدافع والرشاشات والصواريخ. والذي بقي من أهل القرية سينامون تحت الأرض خوفاً من القصف .والمصدر الغذائي الرئيسي كان البرية.
دخلت داعش إلى القرية بعد انقطاع عام للكهرباء عبر حواجز النظام وارتكبت مجازر بحق الشيوعيين والبعثيين في القرية ثم تم فرض النقاب والجلباب على النساء. كما أنها انسحبت من القرية انسحاباً ملغزاً أيضاً. استطاعت بعض الكتائب الصغيرة هناك وبعض كتائب الجيش الحر وقسم من وجوه القرية وكبارها بإدارة شؤونها من ماء وكهرباء ومحاولة تأمين بعض المواد الغذائية الأساسية عبر المساعدات. بالنسبة للمياه ومصادرها فهي جوفية، لأستخراجها نحتاج إلى مولدات كهربائية، هنا كانت تتم رشوة الحواجز حتى تصل الكهرباء لبضع ساعات قليلة ومن ثم يتم استجرارها. هذا بالنسبة للآبار التي يملكها الأهالي، لكن هنالك بئر مياه للبلدية تتم الإستفادة منها في حال كانت الكهرباء موصولة أيضاً.
لم يشفع الجذر الداغستاني للقرية ولا وجود أكثر من ٤٠ ضابطاً من شبانها في الجيش النظامي حتى في ظل التسويات. بقي الذي بقي فيها يواجه مصيره لوحده، والمساعدات التي تصل لاتذكر وكانت تحدث في إطار الدعاية الإعلامية وتبييض الوجه لا أكثر. قصفت دير فول بالصواريخ والقنابل الفوسفورية والعنقودية والفراغية.
وصل سعر بيضة الدجاج إلى ٩٠ ليرة سورية وربطة الخبز ٣٠٠ ليرة وجرة الغاز ٤٠٠٠ ليرة وتنكة زيت الزيتون٣٠٠٠٠ ليرة ومع انحدار قيمة الليرة السورية لم يجد السكان ما يسد رمقهم. حتى الفرن الوحيد الذي كان يؤمن للأهالي بعض الخبز سيُقتل صاحبه في ظروف غامضة. والدواء ممنوع منعاً باتاً تداوله أو دخوله وبالتحديد أدوية الجروح والالتهابات، ومن يتم القبض عليه وفي حوزته أي كمية مهما كانت قليلة سيُعدم على الفور ميدانياً. القصف لم يتوقف والجثث ستراها مرمية في الطرقات أينما اتجهت. تم تهجير ثلاثة أرباع القرية فانتشروا في المدن والبلاد القريبة والبعيدة منهم من رحل إلى سلمية وحماه وتركيا والأردن وألمانيا والسويد. التهجير كان محكماً وعاماً. والذين خرجوا لم يكن لديهم أي فكرة إلى أين هم ذاهبون. تُركت القرية إلى قدرها ومصيرها. في يوم من الأيام وبعد قصف شديد تهجّرنا مع الأغنام والأبقار والكلاب، حتى أن ابني لمح الكلب المعروف في القرية والملقب بكاسر في قرية مجاورة يقف تحت شجرة تين ضخمة وحيداً، ويتابع قائلاً: “انظر أبي حتى كاسر هاجر أيضاً.”
في بيت تسكنه امرأة مسنة تم قصفه رأت المرأة الشمس تلمع في مرآة جيرانها. في يوم آخر تم قصف بناية يقطنها صديق لي. هذا البيت إن كنت أتذكر شيئاً منه أنه طيلة ثلاثين عاماً كانت تتكوم أمامه تلال الرمل والنبكة والإسمنت والنحاتة وقطع البلوك والبلاط ولا شيء غير ذلك، كل هذه السنين وهو يبني بيت العمر كما يقولون. في النهاية سيسقط صاروخ عليه، بينما عائلته كانت خارج البيت للصدفة، وكان صديقي يقف على سلّم العلية الحديد. دُمّر البيت بأكمله بينما سلّم الحديد الذي يقف عليه صديقي سيبقى سليماً وينجو، وهو يقيم الآن في تركيا بعيداً عن البيت وعن دير فول.
بئر عجم : البيت الذي تركناه وراءنا
في بئر عجم القرية الشركسية الهادئة في هضبة الجولان والتي لا يزيد عدد المقيمين فيها عن ٤٠٠ نسمة، احتلتها اسرائيل سنة ١٩٦٧ ثم تم استعادتها ضمن الاتفاقيات التي جرت تلك الفترة مع سوريا تحت مظلة الرعاية الدولية. سمير تسي الذي ترك كل شيء في دمشق وبنى بيتاً كبيراً مع أرض مساحتها لا يستهان بها غرسها بكل أنواع الأشجار المثمرة والزيتون وليبدأ حياة جديدة مع عائلته، يشتغلون في الأرض وتربية المواشي والدجاج والزراعة صيفية كانت او شتوية. مثابة حلم لا يضاهيه شيء هذا البيت أو جنة صغيرة لبقية العمر الذي بقي. على الماسينجر ومن فرنسا حيث انتهى به المطاف الآن يخبرني عن الذي حدث وعن تلك اللحظات التي بدأت فيها الأشياء تتغير، فلغاية شهر آب ٢٠١٢، على حد تعبيره، لم يكن هنالك أي حراك شعبي كون المنطقة عدد سكانها قليل جداً، لذلك لم يكن هنالك أي تواجد عسكري أو أمني يذكر. كان شباب القرية يذهبون إلى العاصمة للمشاركة بالمظاهرات فمنهم من اعتقل ومنهم من يعود آخر النهار. اختلفت إيقاعات الحياة رويداً رويداً حتى دخول المرحلة المسلحة التي امتدت ووصلت إلى جباتا الخشب التي سيطر عليها الجيش الحر وطرد منها كل رموز النظام، ثم وصلوا إلى قرى مثل مسحرة، أم باطنة، العجرف، ثم أعداد من تجمعات نازحي ببيلا والسيدة زينب وخان الشيح التحقوا بالجيش الحر الذي سيدخل بعدها إلى قرية رويحينة بنهاية شهر أيلول ٢٠١٢ لبضع ساعات ثم ينسحب منها. اما التواجد العسكري للجيش النظامي في هذه المنطقة فكان ضمن المسموح فيه على أساس اتفاقية فصل القوات بين سوريا وإسرائيل. منطقة فصل القوات عرضها ١٠ كم وطولها ٧٠ كم ممنوع فيها تواجد أي مظهر عسكري سوري، وكانت تحت إشراف قوات الآندوف الأممية.
انسحب عناصر الجيش الحر من رويحينة بدون سابق إنذار ولم يتركوا أي أثر وراءهم، وفيما بعد أصبحت تظهر بعض علامات لوجودهم في الأحراش الواقعة غرب قرية بئر عجم على خط تماس وقف إطلاق النار مع إسرائيل، أعدادهم لم تكن معروفة لكنهم لم يتجاوزوا الخمسين فرداً، الإمدادات اللوجيستية كانت تأتيهم من دمشق ومن القرى الواقعة على طريق دمشق – القنيطرة وكانت تمر عبر حواجز المخابرات بكل سلاسة. أحد المطاعم في دمشق كان يرسل في سيارة مغلقة وجبات أطعمة وسندويتشات هامبرغر وبيبسي وسلطة وصهريج بنزين كلها كانت تمر عبر الحواجز التابعة للجيش السوري.
هنالك برج خاص بمديرية زراعة القنيطرة لمراقبة الأحراش من قبل موظفين تابعين للمديرية الذين لاحظوا بعض الأشياء والأمور التي لم يكن يشاهدونها من قبل مثل ( عظام خرفان، بقايا سندويش، علب كولا…إلخ)، وصل الخبر للمفرزة العسكرية الموجودة بقرية بريقة فأتى ثلاثة عناصر صف ضباط واتخذوا موقعاً لهم على طريق مقبرة بئر عجم وبدؤوا باطلاق النار باتجاه البرج، علماً أن المسافة ١٥٠٠م ومدى البندقية المجدي فقط ٥٠٠ م، ولم يكونوا على أية حال يشاهدون أهدافاً. بعد ساعتين ستنتهي الذخيرة فيذهب العناصر لمقابلة الأهالي أمام المسجد وبعض الدكاكين يخبرونهم بأن مهمتهم انتهت والآن جاء دورهم، أي سكان القرية، بأن لايستقبلوا أياً من عناصر الجيش الحر إذا نزلوا من الأحراش إلى القرية. لم تمض أيام حتى أتى الجيش الحر إلى القرية القديمة واستولى عليها ثم القرية الجديدة كذلك الأمر ومبنى البلدية وهكذا تمددوا حتى وصلوا إلى طريق بريقة حتى اقتربت المسافة بينهم وبين مفرزة المخابرات السورية بما لا يتعدى المئة متراً. استولوا كذلك على مقسم الهاتف في بئرعجم فانقطعت الاتصالات واعتمدوا إعدادية الشهيد نزار حاج حسن مقر لهم. بعد ٢٤ ساعة بدأت قذائف الهاون تنهمر على القرية بشكل متقطع، وفي الليل كان اللواء ٦١ يرمي القنابل المضيئة أما ضربات المدفعية فكانت تأتي من اللواء ٩٠، كل هذه القذائف كانت ترمى بشكل عشوائي على منازل المدنيين هناك. الفرصة الوحيدة المتوفرة لهروب العائلات ونزوحها من القرية كانت حين يتوقف القصف. في أحد الأيام اتصل بي ضابط برتبة عقيد ولا أدري من أين أتى برقم موبايلي وبدأ يسألني عن أعدادهم ومواقعهم ونوع أسلحتهم. قلت له: نحن لا نعرف أين هم، نتسمر في بيوتنا ولا ندري ماالذي يحدث في الخارج والقذائف تنهمر علينا. قال لي: “يجب أن تتحملوا القصف حتى يتم تصحيح الهدف.” أعاد الإتصال بي مرة ثانية وكرر نفس الأسئلة . خلال يومين سيشتد القصف ويصبح كثيفاً ومتلاحقاً.
في أحد أيام الجمعة ٢-١١-٢٠١٢ أصبح القصف خفيفاً لمدة ساعة، فطلبت من جاري الكوسوفي، يحمل جنسية سورية، ويملك سيارتين، أن يأخذ زوجتي وابنتي إلى دمشق مع أفراد عائلته وبعض الجيران أيضاً. كانتا آخر سيارتين تغادران المنطقة. بعد ذلك لم يستطع أحد أن يغادر. بعد ذهابهم بحوالى نصف ساعة حاولت الذهاب مشياً إلى قرية رويحينة التي تبعد ٢ كم وكانت تحت سيطرة النظام كي أشتري خبزاً ودخاناً لكن القصف اشتد وصار كثيفاً فعدت فوراً إلى البيت وتم إغلاق الطريق. ومن يومها تغيرت نوعية القصف من هاونات إلى مدفعية ودبابات. في قرية زبيدة الغربية شرق بئر عجم بحوالي مسافة كيلو متر واحد تتواجد سرية دبابات تقصف بلا هوادة، إلى القصف المدفعي (الهاوزر بعيد المدى) من قمة تل الحارّة إلى جميع أنواع القذائف منها الانشطاري والعنقودي والفسفوري. استمر الحال على ما هو عليه. وضعنا كمدنيين حدث ولا حرج: لاماء ولا كهرباء ولا طعام أو خبز، كنا نأكل العشب وأوراق الشجر.
يوم الإثنين ٥-١١-٢٠١٢ اتصل ابني بي حوالي الساعة التاسعة صباحاً من قدسيا وأخبرني أن ما يزيد عن ٥٠ شاباً شركسياً “في طريقهم إلى القرية لإخراجكم منها.” قلتُ له أن الوضع صعب للغاية ومن المستحيل دخولهم المنطقة، فهي على خط النار والقصف لا يتوقف. لكنهم أتوا من كودنة – بريقة وهي طريق فرعية. اجتمعوا مع قائد اللواء ٦١ وكان متواجداً أيضاً ضابط نمساوي رفيع المستوى من قوات الآندوف على آخر حاجز عسكري بقرية بريقة وجرت المفاوضات أن يسمح لهم بالدخول وإخراج ما يقارب ٣٠٠ فرد متوزعين في ملاجئ يلفها ظلام دامس. اتصل ابني بي مرة ثانية وقال لي “إن الجيش سمح لنا بالدخول ونحن في الطريق إليكم.” كررتُ انزعاجي ورفضي للفكرة بسبب القصف المتواصل وإن الليل اقترب. قال لي، “سيتوقف القصف الآن. ثم انقطع الاتصال بيني وبينه فجأة، واعتقدتُ أنه عاد إلى دمشق هو والذين معه ولم أدر ما الذي حدث بعد ذلك.
في صباح اليوم التالي ٦-١١-٢٠١٢ أتى إلى منزلي رجل من أهل القرية وكان معي إثنان من أبناء الجيران وصديق لي لواء متقاعد. ملامح الرجل لم تكن على مايرام، بدأتُ السؤال عن أحواله وأحوال عائلته، لكنه ظل متردداً وعلامات القلق والحزن بادية على وجهه: “ابنك ينال راح”، قال هذه العبارة وصمت. لم يخطر على بالي أنه يتحدث عن ابني للوهلة الأولى، لأنني اعتقدت أنه عاد إلى دمشق بعد إلحاحي عليه بالعودة. استطرد الزائر، “ابنك ينال استشهد الساعة ٣:٤٠ عصراً يوم ٥-١١-٢٠١٢. بعد ذلك اتصل بي الضابط العقيد وقال لي: “قتلنا ابنك، وبتعرف الوطن بدّو تضحيات” وكان قصده أن العصابات الإرهابية تقتل المدنيين. السيارات التي حاولت الدخول إلى بئر عجم عادت إلى قرية بريقة. وفي هذه الأثناء كان طاقم محطة الإخبارية التلفزيونية متواجداً هناك حين أتى الشاب الذي كان يقود السيارة التي أقلت ابني وثيابه مغطاة بالدم. أجبروا الشاب على تغيير ملابسه وأجروا مقابلة تلفزيونية معه تحت تهديد السلاح والضرب ثم أرغموه على القول أن العصابات الإرهابية قتلت ابني. مع العلم أن ابني جلس في المقعد الذي من جهة شرق الطريق، وشرق الطريق بين بريقة وبئر عجم تحت سيطرة الجيش النظامي. من هنا علمت أن الجيش هو الذي أطلق النارعلى ابني.
أخذوا جثته إلى مسجد قرية كودنة وتمت تسجيته هناك، بينما أنا محاصر حصاراً تاماً مع أهالي القرية. اتصلت بزوج ابنتي وسألته عن الجثة، جثة ابني. فقال لي أنه تم أخذ الجثة من قبل مديرية الصحة إلى مستشفى ممدوح أباظة في مدينة البعث. اتصلت بأخي وسألته: لماذا لم يتم دفن الجثة؟ فقال لي إنهم “لا يسلمون الجثة بسبب اختلاف الكنية.”
سألت أحد الموظفين بمحافظة القنيطرة وهو صديق لي أن يساعدني في هذا الأمر، فقال “تعالوا وخذوا الجثة.” اتصلت بأخي وطلبت منه أن يذهب ويستلم الجثة. ذهب أخي مع مجموعة من الشباب في قدسيا إلى مستشفى ممدوح أباظة واستلموا الجثة. ثم قال لي صديق ابني أنه حين النزول إلى قدسيا سيضعون الجثة في براد الجثث بجامع الجادات بقدسيا. رفضتُ ذلك مع إصراري أن يتم الدفن في نفس اليوم. قال لي، “بإمكاننا انتظارك حتى تخرج من الحصار وسيكون باستطاعتك رؤيته وحضور الجنازة والعزاء.” قلت، أنا لا أعرف متى أخرج من هذا الحصار، دعوا أمه وأخواته يرونه ثم ادفنوه اليوم.
يوم الخميس ٨-١١-٢٠١٢ اشتد القصف صباحاً بشكل هستيري حتى الواحدة ظهراً ثم توقف فجأة ولم نر بعدها سوى سرايا من مشاة الجيش النظامي تأتي من شرق القرية ثم تتغلغل فيها بدون أن يطلق الجيش الحر أي طلقة باتجاههم وكان تعدادهم يقارب ال٨٠٠ عسكرياً، اعتقدنا كمدنيين أن اتفاقاً حصل بين الطرفين على عودة الجيش النظامي إلى القرية ويكون بعدها بمقدورنا مغادرتها . كانت أوهامنا هي التي تحدثنا بذلك، إنه اليأس وقد أطبق على رقابنا.
استولوا على القرية ودخل قائد الحملة مبنى البلدية يعلن الانتصار والتطهير. بعد ذلك سمعنا الرصاص يلعلع في السماء وبدأ العساكر يهربون وإذ بالجيش الحر يقوم بهجوم معاكس وقائد الحملة داخل مبنى البلدية لا يدري ما الذي يجري في الخارج إلى أن داهم بعض العناصر مبنى البلدية، فحاول الهرب إلى الجامع الذي بمقابل مبنى البلدية ثم صعد إلى المنارة وقذف بنفسه منها ومات. حين أتى الليل حاولنا الدخول مع مجموعة من المدنيين إلى ملجأ تحت أحد البيوت ثم صعدت أنا وشاب إلى البيت بحثاً عن الماء. كدنا نموت من العطش والجوع وكان الظلام دامساً ولم يكن باستطاعتنا إشعال قداحة لأن المكان سيتم قصفه على الفور. وبينما أنا على هذه الحالة وقعت يدي على كتف آدمية دافئة بعض الشيء، وإذ بعسكري متكور على نفسه يحمل بندقية ومعه ١٢ آخرين، هم بقايا المجموعة التي انسحبت ولا يعرفون أين يذهبون. طلبوا ماء وطعاماً. سألته، “أين طعامك وماؤك؟” نزلتُ إلى الملجأ وأخبرت من معي أن في البيت ١٣ عسكرياً هاربين.
اليوم التالي ٩-١١-٢٠١٢ السادسة صباحاً وقفت على باب الملجأ فرأيت مجموعات من الجيش الحر يبحثون بين البيوت عن الهاربين، وإن عرفَ العساكر المختبئون في البيت بالأمر سنتحول إلى دروع بشرية بين الطرفين فقلت للذين معي أن نهرب إلى البرية فخرجنا رجالاً ونساءً باتجاه قرية زبيدة، وفي طريقنا قبل مغادرة الحارة قابلتنا قوة من الجيش الحر وسألنا أحدهم “إلى أين أنتم ذاهبون؟” فقلت له، نحن لا نريد أن نبقى أكثر من ذلك، سنترك كل شيء هنا. في هذه اللحظات أتى عنصر من الجيش الحر راكضاً من جهة الملجأ الذي كنا فيه وأخبر قائد القوة بوجود عساكر في البيت الذي غادرناه فتركونا إلى سبيلنا وهجموا على البيت الذي يتواجد فيه العسكر. مشينا باتجاه البرية وكان الضباب كثيفاً ساعدنا على ألا يكتشفنا أحد لكن ذلك لم يمنع الدوشكات من أن تقصف باتجاهنا لكننا لم نصب بأذى. صادفنا في الطريق حقل ألغام عبرناه ووصلنا إلى قرية زبيدة الغربية، استقبلنا أهالي القرية ثم انقسمت مجموعتنا إلى قسمين نساء ورجالاً. في الصباح تناولنا الإفطار وشحنّا الموبايلات وأخبرنا أهالينا في دمشق أننا خرجنا. بعد ذلك بدأت بقية الملاجىء التي في بئر عجم تخرج.
في ١٠-١١-٢٠١٢ خرج جميع المتبقين في القرية ولم يبق أحد هناك. بعد ذلك أخذني أحد الشباب إلى مدينة البعث التي تقع في الطريق قبل مدينة القنيطرة. كنت قد أخبرت ابنتي أنني خرجت من بئر عجم وعن مكان تواجدي. جاري الكوسوفي الذي أصبح يقيم في مدينة صحنايا عرف من زوجتي أنني في مدينة البعث فأتى بسيارته من صحنايا وأخذني إلى قدسيا حيث منزل أحد أقربائي. كان عزاء ابني منتهياً، فطلبت من أحد أصدقائه أن يأخذني إلى المقبرة لأرى قبره، فقال لي “إلى يوم غد.” لم أعرف لماذا إلى يوم غد. في اليوم التالي أخذني بالسيارة إلى المقبرة وأسرّ لي بعد ذلك أنه حصل لي على موافقة لرؤية القبر من مسافة ١٥ متراً فقط، وهذا ما حدث. ولم أستطع بعدها رؤية القبر لأنني لم أحصل على موافقة. بعدها بوقت قصير غادرت سوريا أنا وعائلتي إلى الأردن في ٢٦-١١-٢٠١٢. بقينا في عمان إلى تاريخ ٢٠-١٢-٢٠١٦ ثم غادرنا إلى فرنسا. علمت بعدها أن كتائب لجبهة النصرة تسيطر على القرية.
من حديث على الموبايل
-آخر مرة خرجت فيها من البيت في طريقي إلى بيت صديقي الكوسوفي، سمعتُ دوياً هائلاً، وإذ بقذيفتين ضربتا بيتي. ومن يومها لم أعد إليه. لم يبق لا سقف ولا حيطان ولا أبواب.
-مرة وقعت قذيفة على بئر عجم وكان هنالك ثلاثة شبان يدخنون أما باب أحد البيوت. صاروا قطعاً صغيرة لملمناها ووضعناها في أكياس نايلون.
٧-١١-٢٠١٢
في قرية بئر عجم خمسة ملاجئ فقط تنعدم فيها أي خدمات، لا ماء ولا كهرباء أو حمامات، بمساحة ١٠٠ متر مربع للملجأ الواحد. في أحدها انحشر عدد كبير من الأهالي مع بطانياتهم وبعض الفرش الإسفنجية وما تبقى من مؤن البيت. صدف وجود امرأة حامل في آخر أيامها بدأت تشكو آلام الطلق ووقعت على الأرض دون أن يكون هنالك أي مادة إسعافية أو حتى طبيب بين الموجودين. صرخت إحدى النساء الحاضرات وأقنعت المرأة التي على الأرض بأن لها تجارب كثيرة في التوليد، وعلى الفور تضامن الجميع ووضعوا ساترا من البطانيات وتمت عملية الولادة على أكمل وجه. كتم الجميع أنفاسهم خوفاً من طارىء ما قد يحدث حتى سمعوا بكاء المولود الجديد، وبعد يومين سنحت الفرصة للجميع بالخروج والتوجه مشياً على الأقدام إلى قرية زبيدة الغربية وسط الضباب والصقيع. الآن الرضيع وأمه ووالده في النمسا، والمرأة التي قامت بالتوليد في ألمانيا.
بني هذا النص على شهادة حية لكل من عامر الداغستاني من قرية دير فول وسمير تسي من بير عجم، وكلاهما قريتان سوريتان هُجر سكانهما بشكل كامل في سياق الحرب السورية. وينشر موقع صالون سوريا هذه المادة في سياق مشروع لكتابة قصص تروي ما جرى للقرى والمدن السورية منذ ٢٠١١ حتى الآن.