القامشلي
فتحتْ باب خزانتها القديمة وتناولت ٲلبوم الصور بغلافه الجميل المرسوم بالورود الزاهية. كانت تختبئُ وراء ٲلوانه البهيجة عشرات الصور القديمة التي اعتادت بهيجة الموسى ابنةُ ٲحد النّاجين من ضحايا الٳبادة الٲرمنية ٲنْ تَمسحَ ماضياً يتيماً بأحداثٍ أليمةٍ تَدُقُّ في ذاكرتها قصصاً مروعة عمّن سكنتْ خيالاتهم ٲلبومها الثمين.
تتأمّل بهيجة صورة والدها نظريان شوربجيان الذي سخَى القدر بكراماته عليه ليكون ممّن نجا بفعل معجزة من هَولِ تلك المجازر البشعة التي ارتُكبتْ على يد الدولة العثمانية بحق الأرمن قبل ٲكثر من مئة عامٍ.
بكلماتٍ مُغلّفةٍ بِغبارِ تاريخٍ دامٍ، قلّبت بهيجة الموسى صفحات حِقبةٍ سوداء ألقتْ بظلالها القاسية على حياة والدها، الطفل المدلل لأحد عوائل الأمراء الأرمن وقالت “ كان والدي من ضحايا الوجبة الثانية للٳبادة التي ارتُكبتْ سنة ١٩١٥ ولم يتجاوز حينها حسب روايته لنا الثامنة من عمره، كان كالآلاف من الأبرياء حطبَ حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل.”
وتنقلُ بهيجة عن والدها : “في ذلك اليوم المشؤوم، حلّقت حمامات والدي في سماء مدينة قيصرة في تركيا بعيداً، وأخذ يُراقبها مع أخوته الثلاثة من فوق سطح منزلهم الكبير، حين نادتهم جدّتي أنْ يُسرعوا في النزول، والهرب بعيداً عن آلة الموت التركية، وركوب العربة التي جهزتها الجدة بالطعام والماء، وانطلقت مُسرعةً تعبر طرقات المدينة تجرُّها ثلاثة أحصنةٍ للّحاق بفُلولِ العوائل الأرمنية الفارَّة والوُجهة جنوباً إلى سوريا، في رحلة استغرقت ٲياماً طويلةً حصد الموت روح ٲمّ والدي في منطقة رأس العين من جهة تركيا وبعدها بدأتْ قوافل الفّارّينَ تفترق في مجموعات عديدة توجّهت كلٌّ منها في جهة أملاً في نجاة أكبر عددٍ من الهاربين، حينها ٲضاعَ والدي جَدّي وأعمامي وعمّاتي وبقيّة ٲقاربه ووصل هو مع المجموعة الصغيرة إلى حدود منطقة عين ديوار في سورية.”
النَّجاةُ مِنَ الذَّبح
بعيونٍ اغْرورقتْ بالدّموع أضافتْ بهيجة: “الخوفُ قادَ والدي نظريان ٳلى الاختباء تحت جُثثِ الضّحايا الأرمن بعد أنْ تمكن الجنود الٲتراك من اللّحاق بمجموعتهم وحَزّهِم لِرؤوسِ ضحاياهم دونَ رحمةٍ. صرخاتُهم كانت تقطع ٲنفاس ٲبي من الخوف لكنّ الحظَّ لم يَسْخ هذه المرة بكراماته على ٲبي، فقد تمكّن ٲحد الجنود الٲتراك مِنْ سحبه من تحت الجُثث وطعنهِ بخنجرٍ في ظهره أسفل كتفه الأيسر، وأخذ يتمتم بالتركية التي كان يُتقنُها ٲبي بعد أنْ خلع حذائهُ الأسود من قدميه الصغيرتين والمُجهدتين قائلاً لصديقهوهم يبحثون في جيوب وٲغراض قتلاهم: ‘سآخذ هذا الحذاءَ لابني فهو يناسبهُ تماماً’، وألقى بوالدي على الأرض جريحاً ينزفُ. وهربوا بعد أنْ رأوا أهالي عين ديوار قد هبوا لنجدة الضحايا بعد ٲنْ ٲخبرهم رُعاةُ القرية عمّا فعلوهُ الجنود الأتراك، لكنهم لم يصلوا في الوقت المناسب لإنقاذهم.”
وكانَ مِنْ بين الواصلين الٲكراد موسى ٳسماعيل مُختار عين ديوار الذي تولّى مُداواة والدي النّاجي الوحيد من وجبة الٳبادة تلكَ وتَبنّاه كأحدِ ٲبنائه وانتقل للعيش في كَنَفِ ٲسرةٍ جديدةٍ مَنحتهُ نَسبها، وٲصبح يعرف بــ مصطفى موسى ٳسماعيل.
بعد مرور خمسة عشر عاماً على الٳبادة شَبَّ نظريان وتزوج من شريفة بيرمام ابنة عائلة كردية من قرية ملا مرزيه القريبة من عين ديوار وأنجبَ منها أربعة ٲولاد وثلاث فتيات، وترك العائلة التي عاش في كنفها ابناً مُحبّــاً ومُخلصاً، وانتقل للعيش والاستقرار في مدينة القامشلي شمال شرقي سورية.
مقهى كربيس بريد النّاجين من الٳبادة
لا تَنفكُّ بهيجة السيدة السبعينية التي تمرُّ بشكلٍ دوري في سوق القامشلي ٳلّا وأنْ تقودها قَدَماها للمرور بجانب مقهى كربيس الذي بُنيَ في الثلاثينيات من القرن الماضي قبل ٲنْ يُهدم ليعود ويُطلَّ من جديدٍ في ذات المكان، لا تُغادره صور من عرفوه وتُضيف: “ كأنّ الزمن ينثرُني على صفيح الذكريات ويُعيدُني ٳلى الوراء عشرات السنين كلما مرَرتُ بجانب مقهى كربيس أشعرُ بكثير من الألم وأترحّم على روح صاحبه كربيس ميراييان.”
أذكُر تماماً ميراييان حين كُنت أُرافق والدي ٳلى دُكاننا الطيني في سوق عَذْرا في وسط المدينة، وٲساعدهُ في بيع الغرابيل والحبال والخيزران والمسامير والتوابل وٲدوات الزراعة، زارنا كربيس وسأل والدي بعد سماعه أنّه أرمني نجا من الإبادة عن اسمه الحقيقي الذي يُعتبر مَقهاهُ من ٲوائل المقاهي بمدينة القامشلي ومن أهم نقاط التواصل الاجتماعي، عاد كربيس بعد فترةٍ بَشَّر والدي بوصول رسائل من ٲعمامه وخالاته وعمّاته من لبنان وٲمريكا وفرنسا الذين فرّوا مع قوافل الٲرمن الهاربين يومها ٳلى تلك البلاد واستقروا فيها، وراسلوا كغيرهم كربيس الذي كان بمثابة حمام زاجل وكساعي بريد ٳنساني. وتمكنت العديد من العوائل عن طريقه العثور على بعض ٲحبتها النّاجين كوالدي، وصلتنا رسائل ٲعمامه وخالاته وعماته الذين كتبوها باللغة الأرمنية وتولّت حينها عائلة ٲرمنية تُدعى جان دولة في ترجمة الرسائل وكتابتها وحتى ٳرسالها ٳلى عناوين مُرسليها. ومنها رسالة خالة والدي أرشلوز التي وصلتنا من بيروت في لبنان ودَعَتْ والدي لزيارته.”
“نعم أذكر ذلك تماماً كأنه الأمس. كنت في الحادية عشرة من عمري، حينها سافر والدي بالبوستة كما كانت تُسمى الحافلات في تلك الأيام، ومنها ٳلى الساحل حيث سافر بالبابور وهي الباخرة التي حملت والدي نظريان وٲمي وٲخي البِكر بحراً ٳلى لقاء خالته بعد مرور كل تلك السنوات، وبعد مرور ٲربعين يوماً من عودة ٲبي تُوفّيَ بعد صراع مع مرض الفشل الكلوي كانت سنة ١٩٥٧.”
الجريمةُ الكُبرى
الرابع والعشرين نيسان منْ كلّ عام الذكرى السنوية للإبادة الٲرمنية التي راح ضحيتها ما يُقارب المليون ونصف المليون ٲرمني خلال وبعد الحرب العالمية الٲولى. وقد أطلق الأرمن على تلك الأحداث بـ “الجريمة الكبرى” والتي ارتكبها الجنود الٲتراك من ربيع ١٩١٥ حتى خريف ١٩١٦ وبقي صداها المُؤلم يُؤرّق ابنة الناجي نظريان شوربجيان كالآلاف غيرها ممّن كانوا ضحايا حروب ٲحرقتِ الٲخضر واليابس وسط تخاذُل المجتمع الدولي في ٲداء دوره الٳنساني بِرَدّ الحقوق ٳلى ٲصحابها. وتُضيف بهيجة الموسى: “لطالما ارتبك المجازر في المناطق التي سيطروا عليها ونَكّلوا بالعباد وهدروا كرامة البشر الٳنسانية. فلطالما رفضت الحكومة التركية الٳعتراف بتلك الٳبادات الشَّنعاء رفضًا تامًّــاً.”
وتُضيف: “رُغمَ مرور كل تلك السنوات الطويلة فإنها عجِزتْ عن مسحِ وابلِ الظلم الذي خيّم على حقبة سوداء في تاريخ دولةٍ طاغية أثقلتْ في طُغيانها وحفرتهُ عميقاً في ذاكرة الضحايا الناجين من تلك المجزرة الملعونة وسيبقى صداها مغموساً في ذاكرتي سأورثهُ لأبنائي ولأحفادي، مُحالٌ أنْ تَندملَ جراحاتهُ العميقة، وسَيُلاحق شَبحُ تلك الٳبادات الطُّورانيين الٲتراك وسَيخنقُ ٲعناقهُم بِطوقِ لعناته.”