عندما نكتب عن الشعر السوري الجديد (وليس الحديث، فللجِدّة معيار وقتي، بينما للحداثة معايير فنية)، لا يمكننا أن نغفل أنه خطابٌ مرتبط بالموروث الثقافي العربي-الإسلامي ارتباطًا زمنيًّا (diachronic)، ومرتبط بالظروف السياسية والاجتماعية والثقافية لمرحلة الثورة/الحرب السورية ارتباطًا تزامنيًّا (synchronic). ومن الارتباط الأول تنشأ ثنائيات: التقليد والتجديد، التراث والحداثة، وجدالات غير مُنتِجة حول الأشكال الشعرية. ومن الارتباط الثاني تنشأ ثنائيات: الحرية والاستبداد، الحبّ والحرب، وجدالات غير مُنتِجة حول “دور المثقف”. سأبتعد عن كل ذلك، إذ لسنا بحاجة إلى المزيد من النقاشات المحكومة بمنطق الثنائيّات الإقصائي.
لا أعتقد أن الحديث عن الشعر السوري الحالي؛ مثيرٌ للاهتمام، سواءً لدى القارئ العادي أو المختصّ. إذ بات الـمُنتَج الشعري مطروحًا في السوق الأدبية مجانًا، وبكثرةٍ غير مسبوقة، مُتخلّيًا عن أيّ كرامةٍ عُرفَتْ عن الشعراء، وعن أي قداسةٍ وَسَـمَـتِ الشعر في العصور السابقة. لا بُدّ إنّ كثرة الـمُـنتَج الشعري دليلٌ على أزمة الشعر، لا على صِحّته. ولا بدّ أنّ كلّ تغييراتٍ كميّة سوف تؤدي حتمًا إلى تغييراتٍ نوعيّة، وتعود التغييرات النوعيّة بدورِها لتُحدِث تغييراتٍ في الكمّ من جديد. وبدلًا من محاكمة هذا الكمّ، من الأجدى فهمُه وفهمُ أسبابه، وفهمُ إنسان القرن الحادي والعشرين الذي لا يملك من الحقوق والحريات أكثر مما امتلك أسلافه، وذلك لأن النظام السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي العالمي؛ قد غيَّـر أساليب الاستغلال والاستعباد، لكنه لم يغيّـر ماهيّتها. إنسانُ اليوم عاجزٌ عن الفعل، عاجز عن إحداث تغييرٍ حقيقي في أيّ مجالٍ وعلى أيّ مستوى، لكنه قادر على الكلام، ومسموحٌ لهُ أن يتكلّم نسبيًّا، لكي يُفرّغ الـحَصْر النفسي أولًا، ولأن الأقوال -مهما كثُرتْ- لن تُحدِثَ أثـرًا كالأفعال -مهما قلَّتْ-. تقول مايا آنجلو في هذا الشأن: “جناحاهُ مقصوصان/ قدماهُ موثقتان/ فليسَ لهُ سوى… أنْ يفتحَ حنجرته ويغـنّـي”.[1]
واستكمالًا للحديث عن كثرة الـمُنتَج الشعري، أشيرُ إلى أنني سأتحدثُ عن الشعر السوري الجديد بعد قراءة ثلاثين مجموعة شعرية صادرة في السنوات الخمس الأخيرة، مع يقيني بأن عدد المجموعات الصادرة خلال هذه المدة يفوقُ ذلك بثلاثة أضعاف أو أكثر.
لكن، من أي زاوية سأقارب الشعر السوري الجديد؟
اليوم، في زمن الـ “ما بَعْدَات” (بعد الحداثة، بعد الكولونيالية، بعد النظرية الثقافية)، لم تعد موضوعات مثل: دور الشعر، المثقف العضوي، الأدب الملتزم، الأدب الثوري، أدب السجون، الحب والحرب، التراث والحداثة… مُغريةً للقارئ أو الدارس، ما هو مثيرٌ(sexy) حقًّا، هو الجنس (sex) نفسُه.[2]
الإيروس والثاناتوس
سأحاول مقاربة النصوص التي بين يديّ عبر ثنائية الإيروس (eros) والثاناتوس (thanatos)، فالأول هو الحب وغريزة الحياة، والثاني هو الكراهية وغريزة الموت. ولا يخفى على القارئ أن المصطلحين قادمان من النظرية الفرويدية، وكتاب “ما فوق مبدأ اللذة.” يرى فرويد أنّ كل إنسان يحمل في داخله غريزة الحياة وحفظ النسل والبقاء، وتُعزَّز هذه الغريزة بالحب والرغبة الجنسيّة (إيروس). وكذلك فإنّ كلّ إنسانٍ يحمل في داخله غريزة الموت والنزعة التدميرية، والرغبة بفناء المادة العضوية وتلاشيها (ثاناتوس) [3]. وهذه الثنائية ليست إقصائية فيما أرى، بل هي بنّاءة وتركيبية.[4]
صحيح أن دافع الحياة وحفظ النوع، وبشكله التصعيدي: الحب، موجود عند كل إنسان، لكنه يزداد إلحاحًا في زمن الحروب والكوارث. وما يعنينا هو كيف تناوله الشاعر السوري اليوم؛ هل استمرّ بالغناء عنه من بعيد؟ أم استبعده جانبًا، مُعطيًا اهتمامه الأكبر لاحتياجاتٍ أُخرى؟ أم تناوله كقضيّة مركزية ومهمة للبقاء؟
الإيروس:
ينطلق نصُّ حسن ابراهيم الحسن من الأرض، من التراب الذي ما إنْ تتوطّد علاقة الإنسان السليمة معه، حتى يبدأ بالارتقاء درجةً إثر درجة حتى بلوغه قمة النقاء الروحي. ويكون حب الإنسان للإنسان، وعشق الرجل للمرأة، الدافع الأول للحياة، والسلَّم الأمثل للارتقاء من الماديات إلى الروحانيات:
“ليديكِ رائحةُ التراب (…)
مُسّينيْ لأنسى ذكرياتِ الحرب، (…)
ليديكِ رائحةُ البلادِ
وقهوةُ البدو،
احضُنينيْ…
كلُّ ما في الأرضِ بعدكِ باردٌ، (…)
ليديكِ رائحةُ البيادرِ
نملةٌ جوعيْ وقمحُكِ صاخبٌ جدًّا، (…)
مرةً قولي أحبّكَ علَّ ماءِ الروحِ يصفُو”. [5]
ومثلما يصيرُ الهوى ذليلًا “كلما ذلَّ للرجالِ جبينُ” حسب وصف القبّاني [6]، فإن الهوى وحدَه مَنْ يُعيد للرجل كرامتَه المهدورة في زمن الحرب. ويكون الترابطُ بين الهوى والكرامة عضويًّا، يسقطان معًا ويرتقيانِ معًا، إذ لا يمكن للنصر (أو الهزيمة) أنْ يقتصر على جناحٍ منهما دون الآخر. وفي هذا السياق يصفُ محمد طه العثمانكيف شاختْ نوارسه، وفقدت القدرة على التحليق. وكيف أنّ “نابَـهُ” بما يحمله من دلالات القوة (نَصْل السيف/ رأس الرمح) ودلالات الذكورة (القَرْن/الشارب المعقوف/ القضيب) مجروح! مجروح بزهر النهد، النهد الغائب، المرجَـوِّ قدومه ليشفي الجرح:
“مُرّيْ على جسدي
ولا تستدرجيْ حُـمّـى القصائد في غيابـيْ
مُـرّيْ
فكلُّ نوارسي شاختْ
وأوجَعَ زهرُ نهدكِ جرحَ نابـيْ”. [7]
أما الإيروس عند أنور عمران فليسَ دافعًا للحياة ومنقذًا من الموت فحسب، بل هو ما يجعل الإنسان إنسانًا، ومنه تستقي الأخلاقُ وبهِ تتهذّب، وإليه تُعزى منجزاتُ الحضارة في جانبها القِيَمي والـمُـثُـلي:
“لنفترضْ أنني لم أقدّم الماءَ للأعمى في محطة القطارات هذا الصباح،
ولم أساعد الطفلةَ الكسولةَ في تمارين الحساب…
لنفترضْ أنني لم أضَعِ الآسَ على صورة أصدقائي،
ولم أُشعلِ النارَ في خاطرِ جاري الذي يغمرُهُ الثلج،
أو أنني لم أكُنْ عكّازًا للمُسِـنّـةِ التي سألتْني عن موقع الصيدلية،
لنفترضْ أنني لم أتصرّفْ كما تصرّفتُ اليومَ
ما الذي كنتُ سأفعلُه بحبّكِ إذن؟!” [8]
وكأن الشاعر هنا، يستعيد حكاية أنكيدو بلغةٍ وفهمٍ حديثين.
الثاناتوس:
قلنا -نقلًا عن فرويد- إنّ كل إنسان يحمل في داخله الإيروس (الحب وغريزة الحياة) إلى جانب الثاناتوس (النزعة التدميرية وغريزة الموت)، كما أنّ كل إيروس في الظاهر قد يخفي ثاناتوسًا في الباطن، والعكس بالعكس. ما يعنينا هنا؛ هل أوصلت الحربُ الإنسانَ السوري إلى حدّ الاستسلام واليأس من الحياة؟ هل أيقظتْ في داخله النزعة التدميرية الغافية، ورغبةَ المادة بالتلاشي؟ ما شكْلُ هذا الـمَوَات الجمعي وكيف تناوله الشعراء؟
في مجموعة رشا عمران “بانوراما الموت والوحشة” يتمدّد الموتُ على معظم الصفحات ويحاصر القارئ من كل الجهات، وهو ليس الموتَ بمعناه البيولوجي فحسب، إذ هو يشمل الأحياءَ والأموات، بل إنّ الأحياءَ أكثرُ موتًا من الموتى. فالشاعرة/الراوية تُعيد في آخر الليل “أعضاءَها المبعثرة إلى أمكنتها” لكي تستيقظ في الصباح “جثةً مكتملة”. وتقدّم في نصٍّ آخر صورةً سوريالية لموت الكائن الحيّ أثناء حياته، إذ مزّقتْه الحربُ وباعدتْ أشلاءه عن بعضها، لكنها أبقتْ على بصيص ضوءٍ في رأسه، يُوهمه أنه على قيد الحياة. وكأنها تقدّم صورةً معكوسةً للموت السريري، فالدماغ هنا هو “الحيّ”، بينما سائر الأعضاء الأخرى ممزّقة ومبعثرة:
“كنتُ أراقبُ أعضائي موزّعةً على البلاط…
تلك اليدُ أعرفُها جيدًا، وأعرفُ أصابع القدم اليسرى المبعثرة، وأعرف الشامةَ السوداء في أعلى الظهر، الشامة التي كنتُ أبرزها دائمًا كلما نسيتُ اسمي…
أعرفُ بقعةَ الدمِ أسفل الجدار، وأعرف السرّة الملقاة تحت السرير كمنديلٍ عتيق…
وحدَه الرأسُ بكلّ تفاصيله، الرأسُ المعلّق أمام الشاشةِ السوداءِ كمسمارٍ في فراغ الحائط
كان غريباً عني”. [9]
أما عند هنادي زرقة، فيصبح دافع الموت (ثاناتوس) شهوةً مُتملّكة، تحلُّ محلَّ الشهوة الجنسية أو هي نفسها لكنْ بصورة جديدة. وهنا أتدخّل وأشير إلى أن النزعة التدميرية كثيرًا ما تنصبُّ على الآخر، وفي هذه الحالة تُوصف بالسادية عندما ترافقها المتعة. في هذا المقطع تصف الشاعرة حالةَ صراعٍ بين شهوتين مُتعارضتين في الجذر والأهداف؛ شهوة نساء وشهوة رجال:
“يذهبُ الرجالُ إلى الحرب
وتفرَغُ الأسرّةُ من الشهوة
تاركينَ نساءً لا يكفُفْنَ عن الصُراخ
وضَرْبِ الأولاد،
يذهبُ الرجالُ إلى الحرب
الحربُ شهوةٌ أيضًا!” [10]
وفي السياق ذاته، وكتعبيرٍ عن حالة الموت العضوي والنفسي والاجتماعي، آخذُ نصًّا يُغني عن عديدٍ من النصوص، فهو يصوّر الحرب في أثرها الإنساني والواقعي المعيش، بعيدًا عن شعارات أمرائها وأحقاد تـجّارها، إنها الحرب في “بشريّـتها” إنْ صحَّ التعبير. يتميز النصُّ بأنه لا يصف الحرب وآثارها من بعيد، فيغصبُ أو يثور أو يرثي أو يندب، بل يصف حالة الموات/اليباب من الداخل، من صميمها ومن أدقِّ خلاياها. وهو نصّ/خطاب مُقتنعٌ بكونه جزءًا من الموت الجماعي، وراضٍ بكونه سائرًا في سيرورة التلاشي، إنه نصُّ الثاناتوس في أعلى صوره. تبدأ مناهل السَّـهْوي بوصف حالة الـمَوَات/اليباب من انقطاع العلاقات بين الجنسين:
“الثورةُ لا تمنحُنا رجالًا
لا الوطن،
ولا حتى المغصُ المقيتُ قبل العادة الشهرية”
في المستوى الثاني، تعمّقُ الشاعرة الحفرَ في الجرح الشخصي-العام، وتلمسُ اختلالَ ميزان الحياة بفعلِ تكاثُر كفّةٍ وتناقص الأُخرى، وتشير إلى رحلة سيزيفية بين الرمل والماء:
“نحنُ النساء نطرحُ الدم
كما تفعلُ الحروب
ونتكاثر في المعارك،
نخرجُ من كلّ مكانٍ
كصغار السلاحف
تفقسُ في الرمل البارد
وتجري بفطرةٍ إلى الماء”
تزيد الشاعرة من تعميق معاناة المكان/الأرض/ الجسد، عندما تشير إلى أنّ الحياة مستمرة، لكن في مكانٍ/ أرض/ جسد آخر، فتصبح المقارنة الضمنيّة موجعةً بين الأرض/ الأم/ الحبيبة التي فقدتْ أبناءها وأحبّتها، والقارة العجوز التي كسبتْهم وهي لا تحبُّهم أو تستحقُّهم:
“يختفي رجالُنا
عشاقُنا
وأبناؤنا
فمُ الحرب أكبرُ من شفتي بحرٍ
يدلقُهما على قارتين،
ما أكبرَ فمَ البحر حين شاهدناه من فوق!
يختفي الرجالُ الواحد تلو الآخر
في الشفاه المفتوحة
في القبلات الحارة،
يختفي الرجال
كما لو أنّ البحرَ امرأةٌ تمتصُّ الرجالَ كلَّهم
بجوعٍ مُعـمِّـر”
وفي النهاية، تؤكّد الشاعرة على موت “الإيروس”، وانعدام الرغبة بالحياة بكُلّيتها وتفاصيلها، ودخول الجميع في حالةٍ من “الثاناتوس”، في حالةٍ من السعي الجمعي إلى الفناء، يأخذ شكلَ الانتحار الجماعي أو الاستشهاد العبثيّ دون تحقيق الغاية المنشودة منه:
“نحن النساء في الحروب
لا نقصدُ اكتشافَ أطعمةٍ بديلة
ولا تدفئةٍ بديلة
ولا حركاتٍ شِعرية جديدة،
نحن فقط نجري نحو رائحة الزبد
ونغرق…” [11]
والزبد بطبيعته كينونةٌ في طور التلاشي، ولهُ دلالاتُ الولادة والذكورة، فأفروديت وُلِدتْ من زبد البحر، وقد جاء هذا الزبد من خصيتي أورانوس (أسطورة إغريقية). لكنّ الزبدَ هنا لا يأتي بأيّ ولادةٍ جديدة، إنه محضُ سرابٍ ذكوريّ موهوم، يقودُ الساعي وراءَه نحو هلاكٍ وشيك.
الأقنعة الجنسيّة
ليس المقصود بالقناع هنا؛ التقنية الدرامية التي يستخدمها الشاعرُ للتخفيف من الغنائية والمباشرة، كأنْ يستعير شخصيةً تاريخية (نيرون، أيوب، المتنبي…) فيرتدي وجهَها ويأخذ ملامحها وصوتها، ليمرّرَ من خلالها -ومعها- مقولتَه وصوته. وهو ما يقابله الـ (mask) بالمصطلَح النقدي. المقصود بالقناع هنا هو الـ (persona) أي الوجه الذي يتقدّم به الإنسانُ إلى المجتمع، فنحن في حياتنا اليومية قد نجد ضرورةً لأنْ نغلّف الذات الحقيقية بغلاف خادع، ونلبسها قناعًا لتبدو في مظهرٍ لائقٍ ومقبولٍ من الجماعة. ولا يخفى على القارئ أن المصطلح قادم من نظرية ك.غ. يونغ.[12]
إذًا، يتألف القناعُ من وجهٍ ظاهر ومعنىً مخفي. أما من حيث إضافة القناع إلى الجنس، فلا بدّ من الإشارة إلى أن المنظومة السياسية-الدينية لم تستطع على مرّ العصور إلحاقَ الهزيمة بالموروث الوثني، بل أزاحتْه إلى الهوامش فقط، حيث بقيَ هناك، في الجانب المعتم والمحرّم، يزدهر ويتطوّر ويُلقي بظلاله على المركز المسيطر [13]. نحن في النهار كائنات اجتماعية، لكننا ننزلق في الليل إلى عالم الأحلام، حيث تتولى الفطرة مقاليد الأمور، فترمي التابوهات الاجتماعية جانبًا، وتعطي للغريزة والأنانية مقاليد الحكم. يقول شاعرنا العربي: “نهاري نهارُ الناسِ حتى إذا دَنَـا / ليَ الليلُ هـزَتْـنـيْ إليكِ المضاجعُ.”[14]
تتألف الأقنعة الجنسية من سلسلةٍ غير محدودة من الإشارات والرموز، تمتدُّ من الإنسان الاجتماعي إلى الإنسان البدائي. وتتشعّب هذه السلسلة في مجالات الأدب والموسيقى والمسرح وغيرها. لكنْ لماذا يلجأ الشاعر السوري اليوم إلى القناع؟ وما حدود حرية القول التي يتمتع بها؟ وهل للحرب دورٌ في إذكاء الحنين إلى العصور البائدة؟
الإلهة الأنثى:
استكمالًا لما قلتُ عن استمرار الثقافة الوثنية في الهوامش، رغمَ إقصائها عن المركز السياسي-الديني لعدة قرون، نأخذ الإلهة-الأنثى موضوعًا للدرس. لقد استطاع الإسلامُ تحريمَ عبادة الأوثان، وهي تعودُ في غالبها إلى آلهةٍ مؤنثة، وأخرجها من مجال الممارسة الدينية والاجتماعية. لكنها ما لبثتْ أنْ عاودت الظهورَ في الأدب، فتحوّلتْ “ليليت” (أو اللات) إلى “ليلى”، وعادت ابتهالاتُ الشعراء تصبو إليها. ولا أحسبُ توظيفَ الأسطورة في الشعر الحديث غيرَ تَـمَظْهُرٍ (representation) جديدٍ للثقافة الوثنية.
يقدّم أحمد م. أحمد نصًّا إيروتيكيًّا طويلًا بعنوان “بالقولِ تحبلُ الأنثى”، وفيه لا تظهر الإلهة-الأنثى بصورةٍ مفارقة للواقع، ولا تسكن في السماء أو تتجلّى في شمسٍ أو قمر. بل هي إلهةٌ أرضية وتجلّياتُها طبيعية وملموسة: “سآوي إلى البقايا: شِـقّ الرمّانة، رائحة السرو والطيّون في عـشِّـها/الورد-الملاذ”. ويكون التواصل بين العاشق الـمُبتهِل والمعشوقة الإلهة بالحواسّ البشرية الخمس، لا بلغة العشاق العُذريين أو الصوفيين:
“انظُريني ما أقرَبَـنـيْ إليكِ: أشـمُّكِ كغزالتي،
وأدورُ حولك، ويضوعُ عطرُكِ في الخصب العميم.
سأسمعُ بعد حينٍ شهيقك، وأضيعُ في حياة
الرغبة القصيّة عند سقفِ الموت اللذيذ…” [15]
وهنا لا يكون للقناع الجنسي دورُ إخفاء الجنس وتقديمه بصورة مقبولة اجتماعيًّا، فهو واضح وصريح. بل دور إخفاء طقوس الجنس الوثنية، وتقديمها بصورة مقبولة اجتماعيًّا، بصورة حبّ لا ديانة، مع أن الوثنية تشي بنفسها في عباراتٍ مثل “أدور حولك” و “الخصب العميم”، ويزلُّ لسانُها في مكانٍ آخرَ من النص: “الله الذي جبلْـتُه من مائك، وبَرقِ حلمتيك.” وليس كلُّ ذلك سوى هروبٍ فرديّ من الزمن الحالي نحو زمن الفطرة والبداءة، وإنكارٍ ضمنـيّ للمنظومة السياسية-الدينية-الاجتماعية القائمة.
وفي السياق ذاته، نجد شعراء آخرين قد وضعوا الحبّ قناعًا، يخفي الرغبةَ بالعودة إلى الوثنية وطقوسها. نقرأ عند واحدٍ منهم: “يا امرأةً… طالَ ركُوعي بين يديك” [16]، وعند آخر: “ألعقُ فخذيكِ طوال الليلِ كأنهما الماء” [17]، بينما يقول ثالث: “وكأنها المعنى الحقيقيُّ الأخير/ لما تجسَّدَ من زوالِ أُلوهةِ الأُنثى” [18]. لا يا صديقي! ألوهة الأنثى لم تزل، وها هو نصُّك يقول ذلك.
الإله الذكر:
أعتقد أنه لم توجدْ ثقافة أبويّة بالمطلق، ولا أموميّة بالمطلق. وكذلك يتعذّر وصفُ ثقافةٍ ما بالغربية الصافية أو الشرقية الصافية، وما ثقافتُنا إلا نتاجٌ من إسهاماتِ البشرية جمعاء. وفي الوقت الذي كانت فيه الثقافة العربية متمركزة حول المرأة (قبل الإسلام)، كانت الثقافة اليونانية متمركزة حول الرجل. فنُصبَتْ له التماثيل الضخمة، وتسلّلتْ رموزُهُ الجنسية في مختلف مظاهر الحضارة والسلطة، ليست الأعمدة الشاهقة والأبراج سوى بعضٍ منها. كل ذلك قبل اكتشاف حضارات الشرق القديم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ودخولها في الأدب العربي منتصف القرن العشرين.
من صفات الإله-الذكر/البعل المعتادة؛ أنه يسكن في السماء مقابلَ الأرض-الأنثى، وأنه يتجلّى على شكل مطر. هذا الارتباطُ بين الرجل والماء نطالعه في عديدٍ من النصوص حتى اليوم، إذ يحضر الماءُ حيث يحضر الرجل، كقول سارة حبيب: “الكتابةُ عنكَ تحت المطر/ بَـلَـلٌ مُضاعَف”، وفي مكانٍ آخر: “كلّما رفعتَ يدكَ من بعيد/ تحسَّسْتُ مائي” [19]. ويكون للماء وظيفةُ إخصابِ الأرض المؤنثة، لتعشبَ وتزهر من جديد، تقول بسمة شيخو: “مَنْ غيري/ تُنبِتُ العشبَ تحت أقدامك”، وفي النص ذاته: “مَنْ غيري/ لجسدها عناقيدُ/ تنتظرُ نظراتكَ لتعتّقها. وتفاحٌ مُـحـرّمٌ/ ينتظرُ أنْ تقبّـلَ وجنته” [20]. ونلحظ هنا أنّ استعادة الفردوس المفقود، وامتلاءَ الجسد الأنثوي/الأرض بالعناقيد والتفاح، لا يكونان إلّا عند حضور الرجل/الماء، وقيامه بدوره “الزراعي”.
حتى في قصيدة المدينة، تظهر الرموز الوثنية تحت أقنعةٍ جنسية. فنطالع عند هنادي زرقة: “أكادُ أصطدمُ بالأشجار وأعمدةِ الإنارة/ وألعنُ سوءَ تنظيمِ هذه المدينة طيلة الوقت.” فهنا لا يشير الاصطدامُ بالأشجار والأعمدة إلى فوضى في الذهن فحسب، بل إلى فوضى في اللاوعي كذلك، إذ ليست الأشجار والأعمدة سوى رموز ذكورية لبستْ قناعًا مقبولًا اجتماعيًّا، وهذا ما تشي به تتمةُ النص: “لديّ رغبةٌ بالوقوع في الحبّ/ لكنّ المدينةَ سوداءُ/ ورجالُها واجمونَ/ مثلَ صوتٍ جافّ” [21]. ولا نأتي بجديد إذ نقول إنّ الجفاف هو العقم ولا شيء غيره.
وكما أرى، ليست هذه الأقنعة سوى هروبٍ من زمن الحرب والموت والعقم، وتحليقٍ عكسَ الساعة إلى زمن الفطرة البدائية والحرية الحقيقية. وهي تُخفي (وتكشِفُ) موقفًا نفسيًّا يرفضُ المنظومة السياسية- الدينية- الاجتماعية القائمة، و “يكفُر” بها.
الهوامش:
1. آنجلو، مايا: امرأة استثنائية. تر: عبد الكريم بدرخان، دار الأدهم، القاهرة 2015. ص 85.
2. استعرتُ الجملة الأخيرة من تيري إيغلتون، من كتابه “ما بعد النظرية”.
Freud, Sigmund: “Beyond the Pleasure Principle”. Bartleby. New York, 2010. P. 54-64.3
4. ليست ثنائية إقصائية في نظري، لأنّ فرويد اعتمد “مبدأ وحدة الأضداد وصراعها” كقانون ناظم لمبدأ اللذة، وهذا المبدأ قادم من الجدل الهيغيلي (أطروحة×نقيض=تركيب) مرورًا بالمادية الديالكتيكية، ما يعني أنها ثنائية بنّاءة وتركيبية. وهكذا يقوم مبدأ اللذة على بُنيان تتوحّدُ فيه الأضداد ضمن منظومةٍ متكاملة، يحكمها قانون عامّ للذة والألم. وهنا لا يكون الألمُ استثناءً من مبدأ اللذة، بل هو عنصرٌ مكمّل له. حيث أنّ كلّ سعي وراء اللذة يتضمّن تجنُّب الألم، وكلُّ هروبٍ من الألم يتضمّن رغبةً بتحقيق اللذة.
5. الحسن، حسن إبراهيم: غامض مثل الحياة وواضح كالموت. جائزة دبي الثقافية للإبداع-الدورة الثامنة، دبي 2015. ص 33.
6. من قصيدة “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي”.
7. العثمان، محمد طه: جاءت تربّي الضوء. دار فضاءات، عمّان 2016. ص 11.
8. عمران، أنور: أسند ظهري إلى الرياح. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2017. ص 55.
9. عمران، رشا: بانوراما الموت والوحشة. دار نون، رأس الخيمة 2014. ص 5.
10. زرقة، هنادي: الحياة هادئة في الفيترين. دار النهضة العربية، بيروت 2016. ص 35.
11. السهوي، مناهل: جوع النساء المعمّر. جريدة الديار، عدد 1/شباط/2017. ص 26.
12. فتحي، إبراهيم: معجم المصطلحات الأدبية. المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، صفاقس 1986. ص 279.
13. للتوسع في الموضوع، أُحيل القارئ إلى ميشيل فوكو “إرادة المعرفة” أو نيتشه “مولد التراجيديا”، أو إلى أيّ دراسةٍ اعتمدتْ واحدًا من هذين المنهجين.
14. يُنسَب إلى قيس بن الملوح.
15. أحمد، أحمد م: أحرق سفنه إلا نعشًا. دار أرواد، طرطوس 2015. ص 124-127.
16. عباس، د. موسى رحوم: فبَصَرُك اليوم حديد. دار فضاءات، عمّان 2014. ص 30.
17. حمودة، إياد: بوسعي أن أرى الطائر كاملًا. دار أرواد، طرطوس 2015. ص 82.
18. عثمان، أحمد شكري: كمآذن ألِـفَـتْ مراثي الريح. جائزة الشارقة للإبداع العربي، الشارقة 2017. ص 82.
19. حبيب، سارة: النجاة حدث مملّ للغاية. دار أرواد، طرطوس 2017. ص 34-35.
20. شيخو، بسمة: شهقة ضوء. مركز التفكير الحرّ، جدّة 2015. ص 86-87.
21. زرقة، هنادي: نفسه. ص 41.