فصلٌ من كتاب "غيرة اللُّغة" للكاتب: أدريان ن. براﭬـي Adrién N. Bravi
الصَّادر عن منشورات جامعةِ ماتْشِراتا EUM
أتُراهُ من الممكن، أسألُ نفسي، أن يتخلَّى المرءُ عن لغتِه، إذا ما وضعنا في الاعتبار أنَّ اللُّغةَ ليست مجرَّدَ وسيلةٍ للكلام فحسب، أو أنَّها بالأحرى لا تتعلَّق بمنظومةٍ نحويَّةٍ فحسب، وإنَّما بطريقةِ تصوُّرنا للأمورِ أيضاً؟ قد يحدُث، نتيجةَ تقلُّباتٍ حياتيَّةٍ مختلفةٍ، أن نديرَ لها ظهرانينا، أو أن نبتعدَ عنها، أو أن نستبدلَ بها لغةً أخرى، ولكن أغلبُ الظَّنِّ أنه ليس بإمكاننا الانفصالُ عن أمومةِ اللُّغة التي يتَّفقُ الجميع على أنَّها الأصلُ الذي لا يمكن إلغاؤه، حتَّى عندما يُقيَّضُ لنا أن نرى العالَم في ضوءِ لغةٍ جديدة. فأمومةُ اللُّغة لا تعلِّمنا الكلامَ فحسب، ولكنَّها تعطينا نظرةً، وشعوراً، وتصوُّراً حيالَ الأشياء. قواعدُ تركيبها تشكِّلُ منظوراً وزاويةَ رؤية. يمكننا أن نغلِّفَ قصصَنا بلغاتٍ أخرى، ولكنَّ أمومةَ لغتنا الأصليَّةِ ستبقى حاضرةً وستحتجُّ علينا؛ ذلك أنَّها طريقةُ وجودٍ، وحياةٍ، وتفكيرٍ، بغضِّ النَّظر عن طريقةِ التَّعبير بها. إنَّها فنُّ تأويلنا للعالَم؛ ونحن في النِّهاية إنَّما نتكلَّمُ لغتَنا الأمَّ بلغاتٍ أخرى كثيرة.
لقد دأبَتْ سيلـﭭـيا بارون سوبرﭬـيل، وهي كاتبةٌ أرجنتينيَّةٌ كتبَتْ بالفرنسيَّةِ أيضاً، على التَّأمُّل في مسألةِ تغيير اللُّغة. في عام 1998 نشرَتْ في بيونس آيرس كتاباً بعنوان تغيير اللُّغة عندَ الكاتب El cambio de lengua para un escritor، وفي عام 2007 صدرَ لها بالفرنسيَّة، وتُرجِمَ إلى الإيطاليَّة، كتابٌ بعنوان أبجديَّة النَّار: دراساتٌ صغيرةٌ حولَ اللُّغة. في هذا الكتاب الأخير، تطرحُ الكاتبةُ رؤيتها للمسألة: "كلَّما فكَّرتُ أكثر، ازددتُ إحساساً بأنَّ اللُّغة الأولى لا تموتُ أبداً: إنَّها تقبعُ صامتةً، ولكن حيَّةً، في أعماق الرُّوح"(1). هذا يعني أنَّه بينما نكبرُ نحنُ ونغيِّرُ لغتنا فإنَّ طفلاً باسكوليانيَّاً(2) يبقى قابعاً في أعماقنا، يخلطُ صوتَه بصوتِنا، ويواصلُ النَّظرَ إلى الأشياء من خلال تلك الأمومة المختبئةِ "في أعماق الرُّوح". وذلك هو الصَّوتُ الصَّامتُ، ذلك هو الجرْسُ المحجوبُ بلغةٍ جديدةٍ، الذي لا ينفكُّ يكلِّمُنا من حينٍ إلى آخر في دخيلتِنا. عندما أضعُ هذه الأفكارَ معاً، فإنَّني أفهمُ ما كتبَه باشلار في كتابه شاعريَّة أحلام اليقظة: "عندما ننتقلُ من لغةٍ إلى أخرى فإنَّنا نعيش تجربةَ الأنوثة الضَّائعة أو الأنوثة المقنَّعة بأصواتٍ ذكوريَّة"(3). إنَّه إذاً هتْكُ الأنوثة ما تقومُ بهِ أمومةُ اللُّغة خلالَ طبقاتٍ من الأصواتِ الذُّكوريَّة الجديدة. في كلِّ مرَّةٍ نتحدَّثُ فيها فإنَّ هذه الأمومةَ تفضحُ احتجابَ الأنوثةِ بخمارِ اللُّغة المكتسَبة.
في الكتاب الأوَّل من المأدبة (الفقرة XIII) يتحدَّث دانتي عن حبِّه للُّغةِ الأمِّ، والتي يعدُّها عنصرَ الانصهارِ بين أبوَيه: "لغتي العامِّيَّةُ هذه كانت المصهرَ لأبويَّ اللذَين كانا يتحدَّثان بها، مثلما النَّارُ هي المطوِّعُ للحديد في يدِ الحدَّاد الذي يصنعُ السِّكِّين: جليٌّ إذاً أنَّ صُهارتَها قد تصبَّبَتْ على تكويني، وشكَّلَتْ مِن ثَمَّ سبباً من أسباب وجودي"(4). هي لغةٌ لا تمثِّلُ الانصهارَ بين أبويه فحسب، ولكنَّها تشارك في ولادته وتشكِّلُ، في الوقتِ نفسِه، سبباً من أسباب وجوده أيضاً. لغةٌ-أمومةٌ تحدِّدُ الحياةَ وترسمُ العلاقةَ مع عالَم الابن. فاللُّغة التي نولَدُ فيها تعطينا العيون التي نظلُّ ننظرُ بها إلى العالَم، حتَّى عندما نتوقَّف عن التَّكلُّم بها. في هذا الصَّدد يقولُ إيتالو كالـﭭـينو في سيرةٍ ذاتيَّةٍ نجدُها في بداية كتابه ناسكٌ في باريس: "كلُّ شيءٍ يمكن أن يتغيَّر، إلَّا اللُّغة التي نحملُها في داخلنا، أو بالأحرى التي تحتوينا في داخلها مثلَ عالَمٍ هو أشدُّ استئثاراً وقطعيَّةً من رحم الأمِّ"(5).
بالنِّسبة إليَّ، شخصيَّاً، كان لا بدَّ لي من الخوضِ في اللُّغة الإيطاليَّة التي أتحدَّث بها منذ أكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً، وما أزالُ أرتكبُ فيها الكثيرَ من الأخطاء، والتي أكتبُ بها منذ حوالي ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً فحسب. خلال الأعوام العشرةِ الأولى من إقامتي في إيطاليا تابعتُ الكتابةَ باللُّغة الإسبانيَّة. كنتُ أشعرُ بأنِّي مُكبَّلٌ إلى هذه الطَّريقة في التحدُّث، حتَّى وإن كانت فكرتي، عندما صعدتُ إلى الطَّائرة التي ستحملُني إلى أوروبَّا، أن أترك الماضي وراءَ ظهري. لمدَّةِ عشر سنواتٍ عشتُ علاقةً غامضةً ومؤلمةً مع كلتا اللُّغتين المتاحتَين لي، تلك التي غادرتُها وتلك التي جئتُ إليها، لغةِ البلدِ الأمِّ ولغةِ البلد الذي اخترتُ البقاءَ فيه، على الأقلِّ لفترةٍ من الزَّمن. من ناحيةٍ كنتُ ملتحِماً بالذِّكريات والكلمات والاستعارات وبطريقةِ التَّحدُّث بلغتي الأمِّ؛ إلَّا أنَّني من ناحيةٍ أخرى كنت أرغبُ في الوقت نفسِه في التَّحرُّر منها، لا بنسيانها، وإنَّما بجعل الذِّكريات تتحدَّث بصوتٍ مُختلف. إنَّنا نعيش داخلَ اللُّغة أكثر ممَّا داخلَ مساحةٍ جغرافيَّةٍ معيَّنة. يبدو لي أنَّني فهمتُ ذلك مُذ بدأَتِ اللُّغةُ الإيطاليَّةُ تُحرِزُ قصبَ السَّبقِ عندي.
يقولُ برودسكي، خلالَ مؤتمَرٍ عُقِدَ في عام 1987 في ﭬـيينَّا، إنَّ المنفى هو، قبلَ كلِّ شيءٍ، حدَثٌ لغويٌّ. إنَّ مَن تقيِّضُ له الظُّروفُ أن يحيا مغترباً يكون أمامه خياران، إمَّا أن ينسحبَ وإمَّا أن يلوذ بلغته؛ وعندَ هذه النُّقطة "ما كان في السَّابق سيفَه، يصبحُ الآنَ درعَه، غلافَه الحافظ"(6)، والمكانَ الذي يجدُ فيه حِرزاً وملاذاً. اللُّغةُ الأمُّ هي السَّيفُ الذي يصيرُ في الغربةِ درعاً، ملجأً، حيِّزاً يمكننا أن نختبئ فيه مع ذكرياتنا أو مع ماضينا لنعثُرَ فيه، في ذلك المخبأ، على باطن لغتنا الحميميِّ الخفيِّ؛ باطنٍ لن يكون قادراً أبداً على البقاء خفيَّاً كحيِّزٍ مُغلَقٍ، لأنَّنا ندركُ في النِّهاية أنَّ ذلك الغلافَ الحافظَ، غلافَ اللُّغةِ الأمِّ، إنَّما كان حجرةً مليئةً بالنَّوافذ، ومفتوحةً على العديد من الملوِّثات.
* * *
أدريان ن. براﭬـي: كاتبٌ أرجنتينيٌّ يكتبُ باللُّغة الإيطاليَّة. وُلِدَ في بوينس آيرس عام 1963، ويعيشُ حاليَّاً في مدينةِ رِكاناتي الإيطاليَّة. انتقلَ إلى إيطاليا في أواخر الثَّمانينيَّات لمتابعةِ دراسته، فتخرَّجَ من كلِّيَّةِ الفلسفة في جامعة ماتْشِراتا للدِّراسات وعملَ كأمين مكتبةٍ في الجامعةِ نفسِها حيث كان مسؤولاً بشكلٍ رئيسٍ عن أرشفة الكتب القديمة. في عام 1999 نشرَ روايته الأولى باللُّغة الإسبانيَّة وفي عام 2000 بدأ مشوارَ الكتابةِ بالإيطاليَّة. مُعظَمُ رواياته صدرَتْ عن منشورات Nottetempo في روما. كما صدرَ له كتابٌ للأطفال والعديدُ من المقالات والدِّراسات النَّقديَّة. حصلَ على العديد من الجوائز، وتُرجِمَتْ نصوصُه إلى الإنجليزيَّةِ والفرنسيَّةِ والإسبانيَّة. من أعماله نذكر: "الشَّجرةُ العطشى" 2010؛ "الشَّجرة والبقرة" 2013؛ "الفيضان" 2015؛ "العُرجان" 2016؛ و"غيرةُ اللُّغة" 2017.
* * *
هوامشُ المؤلِّف والمترجم:
1- سيلـﭭـيا بارون سوبرﭬـيل، أبجديَّةُ النَّار، ترجمة آنَّا بيرتاتْشيني، كابرياسكا، منشورات صفحة الفنِّ، 2010، ص59.
2- نسبةً إلى مدرسةِ الشَّاعر الإيطاليِّ جيوﭬـانِّي باسكولي؛ (المترجم).
3- باشلار، شاعريَّة أحلام اليقظة، ص40.
4- دانتي أليجييري، المأدبة، تحرير فرانكا برامبيلَّا أجينو، فلورنسا، منشورات الآداب، 1995، المجلَّد 2، 1، 13، الصَّفحتان 56-57.
5- إيتالو كالـﭭـينو، ناسكٌ في باريس، ميلانو، منشورات موندادوري، 1996، صVII.
6- جوزيف برودسكي، صورةٌ لِكْلِيُو، تحرير أرتورو كاتَّانيو، ترجمة جيوﭬـانِّي بوتَّافاﭬـا، وجيلبيرتو فورتي، وأرتورو بوتَّافاﭬـا، ميلانو، منشورات أدِلْفي، 2003، ص53.
[التَّرجمة عن الإيطاليَّة: أمارجي]