- وجهة نظر -
منذ سنة النكبة 1948 حتى اليوم، جرت مياه كثيرة تحت جسر القضية الفلسطينية وتوابعها، أعني ما يتصل بها وينبثق عنها، سياسة وثقافة واقتصادًا ومجتمعًا. ورغم عدم انفصال أي من هذه العناصر عن الآخر، فسوف تخوض هذه المقالة في عنصر الثقافة وعالمه الواسع، لكن من خلال التركيز على عالم الأدب وتحوّلاته، وخصوصًا الشعر والرواية، في ضوء التحولات والمراحل التي مرّت بها قضيتنا الوطنية، ذات الأبعاد المتعددة، المحلية والعربية والعالمية. وسوف تكون لنا إطلالة على ما تحقق عبر عقود من السنوات، وصولًا إلى المشهد الراهن.
في الثقافة الفلسطينية خصوصًا، والعربية عمومًا، أسهم المثقف الفلسطينيّ، وعلى مدى العقود الممتدّة من بدايات القرن العشرين، في بناء الثقافة العربية، في مجالاتها المتعددة، فكرًا وأدبًا وفنونًا وإعلامًا، إسهامات لا تخطئها عين الراصد لهذه الثقافة. إذ كانت الهوية الثقافية لفلسطين قد أخذت، منذ منتصف القرن التاسع عشر، في البروز عبر صور متعددة. فمن روّاد التنوير في فلسطين، تقدم لنا بعض المصادر، أسماء مجموعة من الشخصيات البارزة مثل خليل بيدس، واسكندر الخوري، ونجاتي صدقي، وبندلي الجوزي، وإسعاف النشاشيبي، وخليل السكاكيني، وعادل زعيتر، ومحمّد روحي الخالدي، وأحمد سامح الخالدي، وعجاج نويهض، وأحمد شاكر الكرمي، وعنبرة سلام الخالدي، وإسحق موسى الحسيني.. وسواهم.
ولمزيد من الاقتراب من الصورة، وعلى سبيل المثال، فقد شكّل روحي الخالدي، منذ مطلع القرن، حالة نقدية متميزة على المستوى العربي، لا الفلسطيني وحسب. وكما تورد المصادر، فقد كان ظهور كتاب الكاتب المقدسيّ روحي الخالدي "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو"، قد شكّل سبقًا في عالم النقد الأدبي العربي الحديث، و"كان تأثره بالغرب أعمق من تأثر المهجرين الذين كانوا في وقته (بدأت طباعة هذا الكتاب وظهوره للجمهور ما بين سنة 1902 و 1904). وفي حين كان النقد الأدبي العربي الحديث في مطالع القرن العشرين الأولى يكتفي بالمطالبة بالجديد، دون أن يبين عن أفكار أدبية متبلورة، جاء كتاب الخالدي يحمل بعض هذه الأفكار".
كما كان خليل السكاكيني من أبرز النقّاد الفلسطينيين والعرب الذين أثاروا قضايا نقدية عدة، وبقدر من الجدية، جامعين بين التجديد والأصالة؛ فهو الذي أثار قضايا تحديد طبيعة الأديب، والكاتب، والشاعر. وهو الذي أثار قضية الشعر وأنواعه، والكلام وأنواعه، والأسلوب، والصلة بين المذهب في الكتابة والفئةالاجتماعية، والتطور في الأساليب، وكذلك قضية القديم والجديد .كما تتناول المصادر ذاتها مساهمة محمّد اسعاف النشاشيبي، على صعيد "قضية اللغة" (العربية)، وصِلة هذه اللغة بأهلها وبعمرانهم وحضارتهم، وقضية اللفظ والمعنى، وقضية التجديد والتقليد وغيرها.
ولو تناولنا جانبًا آخر في ذلك المشهد الثقافيّ المبكر، وهو جانب "الإعلام الثقافي"، فسوف نجد الإصدارات المتعددة الشهيرة، ولعل من أبرز المجلات والصحف والملاحق الثقافية التي عرفت طريقها للصدور في فلسطين، في ذلك الحين مجلة "الكرمل"، وصحيفة "القدس"، ومجلة "النفائس"، والملحق الأدبي في جريدة فلسطين، والفجر الأسبوعي، والاتحاد، والحقوق، وصوت العروبة، وغيرها الكثير. فيما نجد أن الكثير من الأدباء والمثقفين والكتاب عكفوا على إصدار بعض الملاحق والمجلات والصحف التي تعنى بالثقافة الفلسطينية، وذلك في بلاد المهجر، محاولين التواصل الثقافي مع أبناء وطنهم الذي هجّرهم الاحتلال إلى الدول العربية المجاورة، فقاموا بإنشاء الصحف والمجلات، ومن أهم هذه المجلات جريدة "غزة" التي كانت توزع في الأردن ومصر والسعودية.
وتبعًا لذلك، يمكننا أيضًا أن نحصل على صورة واضحة لذلك الوضع الثقافيّ، من خلال استعراض عناوين الكتب المنشورة منذ مطلع القرن العشرين، وإلى ظهور مجلات دورية، وإلى بداية الحراك السياسي، يمكن القول إن العقد الأخير في القرن التاسع عشر، والعقد الأوّل من القرن العشرين يمثلان السياق الزمني لظهور ردود فعل ثقافية أولية لدى الفلسطينيين.
بدايات تأسيسية
كانت تلك هي البدايات التأسيسية في بلورة هوية ثقافية عربية في فلسطين. وهي، على تواضعها، تمثل التجارب الأولى التي جرى استلهامها والبناء عليها، حيث تبعت ذلك الجيل أجيال لم تكن لها تلك الشهرة، لكن الجهود المتصلة أثمرت عطاءات ونتاجات متنوعة، في مجالات الثقافة كلها، إبداعًا ودراسات وترجمات من الآداب العالمية، خصوصًا من اللغة الروسيّة التي أتقنها عدد من الكتاب الفلسطينيين.
رغم ذلك، فإن البدايات الحقيقية والأعمق لهذا الأدب، أعني الفلسطينيّ، بدأت قبيل النكبة بقليل، وتطوّرت وطاولت التجديد في فترة ما بعد النكبة. نتوقف هنا مع الأدب الفلسطينيّ، وتحديدًا في الشعر والرواية، بعد النكبة، حيث ارتبطت هذه المرحلة بأسماء شهيرة في كلا المجالين. ففي الرواية نستطيع ربطها مع الثلاثيّ الشهير غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، وآخرين أقل أهمية وشهرة. بينما في مجال الشعر ارتبطت بالثلاثيّ الشهير أيضًا توفيق زيّاد ومحمود درويش وسميح القاسم، وآخرين يرد ذكرهم كثيرًا دون أن يكونوا شكّلوا الحالة نفسها.
نقف مع حال الرواية، والثلاثيّ المذكور، وقد كان لكل منهم عالمه الذي يتناول جانبًا من حياة الإنسان الفلسطينيّ، ولكل منهم أسلوبه الذي يختلف في التناول والمعالجة، وهذا كان منشأ دراسة الكاتب والروائي فاروق وادي في كتابه "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينيّة (1981). حيث يرى أن الثلاثة "تميّزوا بنضجهم الفني الذي نستشف من خلاله تبلورًا أيدولوجيًا، وقدرة علي تملك الواقع وتملك الأداة الفنية التي تعيد صياغة مجمل رؤيتها بأدوات فنية روائية متميزة".
وكما نعلم، فإن وادي، خلال دراسته هذه، يقدم "إضاءات أولية لعملية تطور الكتابة الروائية الفلسطينية". وعلى ذكر علامات فاروق وادي الثلاث، فإن هذه العلامات قد ظلّت حاضرة بقوة، ومن دون أن يتمّ تجاوزها، أو حتى "صنع" ما يعادلها. ومثلما ظلت دراسة فاروق وادي شبه يتيمة في متابعة ورصد المشهد الروائي الفلسطيني، وفي الفكر النقدي للرواية، إلا أن هذا الإنتاج الروائي الفلسطيني، رغم غزارة الإنتاج وتنوعه، قد ظلّ دون القدرة على الوصول إلى مستوى "الحركة الروائية"، إذ لم يصل إلى حدّ رفد المشهد الروائي بأسماء وتجارب من مستوى تلك العلامات الثلاث، سواء في قيمة ما يصدر بين وقت وآخر من روايات، أو حتى في مقدرة هذه الروايات على ملامسة الهموم الإنسانية العاصفة لحياة الفلسطينيين، في وطنهم أو في المنافي الكثيرة.
عن العلامات الثلاث
في حين تميّز كنفاني بتناول عالم المخيّم، لاتّصاله بهذا العالم على نحو صميم وحميم، في سورية ولبنان، ومن خلال عمله في وكالة الغوث ومدارسها ولو لفترة وجيزة، فقد استطاع التقاط ابرز ملامح ومعالم هذا المخيم، وعوالمه الخفية، ليشتغل عليها ويعيد صياغتها على نحو نادر في خلق شخصيات باقية.
فقد تميز عالم جبرا بتناول عالم البورجوازية الفلسطينية، في الوطن السليب وفي المهجر. وبدءًا من روايته "السفينة" مرورًا بـ"البحث عن وليد مسعود"، وصولًا إلى ما سيرته في "البئر الأولى"، فضلًا عن قصصه وترجماته المتعددة التي تجسد نمط شخصيته في خياراته، فقد شكّل جبرا حالة متميزة، بل متفرّدة، في المشهد الروائيّ، وحتّى الثقافيّ، الفلسطينيّ كلّه.
وتميز حبيبي عن كنفاني وجبرا، بتناول الداخل الفلسطيني والعلاقة مع الاحتلال، وجاء تميّزه على غير صعيد، فابتداء من "بوابة مندلباوم" (1954)، مرورًا بروايته "سداسية الأيام الستة"(1969)، ثم "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) وصولًا إلى "سرايا بنت الغول"(1991) وغيرها الكثير، جسّد خروجًا على الشكل المألوف للرواية، وللسرد عمومًا، وبأسلوبه الساخر الممتع استطاع التعبير عن معاناة شعبنا حيال الاستعمار الصهيونيّ.
هكذا إذن، وجدنا أن لكلّ من هؤلاء الثلاثة عالمه وأسلوبه، حتى أن رواياتهم قد تضمنت، أو كادت تتضمّن الخريطة الفلسطينية، وحياة الإنسان الفلسطينيّ، في الوطن والشتات، وتشكّل ما يشبه "وطنًا" روحيًّا يحتضن مأساة هذا الفلسطينيّ.
بعد هذا الثلاثيّ، بل هذه العلامات الثلاث في الرواية، جاءت أجيال وروائيون كثر، لكنّ أحدًا منهم لم يتميّز كما تميّزوا، ولم يترك البصمة التي تركها كل منهم. ولو توقفنا على نتاجات المراحل، فسوف نجد تحولات في الكتابة الروائية والسردية عموما. تحوّلات تقوم على أساس "القضية" الأشدّ حضورًا في الحال الفلسطينية. فالقضية مرّت في أحوال وتحوّلات ومراحل ومحطّات، كانت الأعمال الإبداعية، ومنها الروائية والشعرية والفنية، تتابع تفاصيلها، بدلًا من الوقوف الأعمق على جوهر القضية وحقيقتها وجذورها.
التحوّلات طالت القضية منذ مرحلة اللجوء الأولى، مع غسان كنفاني و"رجال في الشمس"، إلى مرحلة المقاومة مع يحيى يخلف وتوفيق فياض وسحر خليفة وغيرهم، في روايات تراوح بين السياسي و"الثوري" والتاريخيّ والاجتماعيّ، وقضيّة المرأة- خصوصًا عند سحر خليفة منذ روايتها "لم نعد جواريَ لكم".. وصولًا إلى روايات محمود شقير عن تاريخ القدس والريف المقدسي، في روايتيه الأخيرتين "فرسُ العائلة" و "مديح لنساء العائلة"، اللتين تتناولان تاريخ ريف القدس وباديتها وعشائرها طوال قرن أو أكثر من الزمان، بعاداتها وتقاليدها ومشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية.
في الشعر وتحوّلاته
كان ذلك على صعيد الرواية، فضلًا عن تعدّد وتنوّع إبداعات هؤلاء الثلائة. ولو انتقلنا إلى الشعر الفلسطيني مثلًا، فسوف نجد محطّات في مسيرة هذا الشعر وتحوّلاته، بعد تجارب أبو سلمى وإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وغيرهم، في الأربعينات، مرورًا بما سمي "شعر المقاومة"، ممثّلًا، أساسًا، في الثلاثي الشهير توفيق زيّاد ومحمود درويش وسميح القاسم، الذين عاشوا مآسي الاحتلال منذ بداياته، وفي صور المعاناة المختلفة، سجنًا ومقاومة وتشريدًا، في "اليسار الشيوعيّ"، رغم الاختلاف بين "أمزجتهم" الشعرية، واختلاف مدى تقاربهم مع الجزء الآخر (المحتل) من الوطن.
نستذكر تاريخ الشعر الفلسطيني الحديث، والشعراء الذين صنعوه، ونتوقف عند حضور موجات من تجارب الشعراء في ذاكرتنا ووجداننا الفلسطيني والعربي. ومن دون أن نلغي أيًّا من التجارب الشعرية، فإن تجربة جيل "شعراء المقاومة"، التي امتدت عقودًا، وبصرف النظر عن دقّة التسمية، كانت هي التجربة الأشد سطوعًا وحضورًا في المشهد العام. هذا رغم دخول الكثير من التجارب إلى المشهد، وهي تجارب تميز الكثير منها بما لم تتضمنه تجارب "شعر المقاومة" بمواصفاته السائدة، خصوصًا مع "الثلاثيّ" المؤسس، زيّاد والقاسم ودرويش.
إن جميع التجارب اللاحقة لهذا "الثلاثيّ"، بما جسّده من قيم المقاومة، هي تجارب امتلكت خصوصيّتها من تفرّد تجربة الشاعر الشخصيّة، أكثر من ارتباطه بالقضية. وهذه سمة الكثير من تجارب القصيدة الفلسطينية الجديدة. ومن هنا، أرى ضرورة الإقرار بأن ليس في الشعر الفلسطينيّ من تجاوز قامة درويش الشعرية، وهذا ليس انتقاصًا من التجارب اللاحقة، بل محاولة لقراءة التحوّلات في الشعر الفلسطينيّ، والعربي حتى. فلنتابع مسيرة القصيدة الفلسطينية في محطّاتها.
في الخمسينات والستينات، وحتى السبعينات وإلى منتصف الثمانينات، ظهرت وسادت "قصيدة المقاومة"، ليس على صعيد الشعر الفلسطينيّ فقط، بل حتى في الأفق العربي. وكان "شعراء المقاومة" هم من يحتلّون الأفق الشعريّ العربي. وكان لهؤلاء الشعراء، ولشعرهم عمومًا، دور في "تعبئة" الجماهير، وإشاعة الكثير من الشعارات التي كانت تقود المظاهرات، لترتفع صورة فلسطين وصوتها وقضيتها، وتحتلّ مكانة عميقة في القلوب والحناجر.
جاءت هزيمة العام 1982 في حصار بيروت، فجسّدت انتكاسة كبرى في مسيرة المقاومة الفلسطينية، ونكسة للمثقفين والأدباء، ومنهم الشعراء، ووقع انتكاسُ القصيدة من مرحلة المقاومة والشعارات، إلى أفق جديد يُعني بالإنسان الفرد، وهمومه وتفاصيله الصغيرة، بعد أن كانت هموم الشعب والجماعة والثورة هي الهمّ الضاغط على الشعر، وعلى الأدب والثقافة عمومًا.
في هذه المرحلة، حتّى درويش غادر محطة "حاصر حصارك"، كما غادر من قبلها مرحلة "سجل أنا عربي"، وراح ينطلق نحو آفاق جديد، لغوية وميثولوجية، وحتى شخصية ترتبط بحالته الصحية. فكتب في مجال يربط القضية بالشأن الشخصيّ، ثم ما يتعلق بالحالة الشخصية، منجِزًا ما هو جماليّ ومرتبط بقضيته وآفاقه الوجودية معًا، حتى أصبح هو نفسه أسطورة شعرية، في اللغة والخيال واستلهام الواقع، وذلك كله في حياكة خاصة لم يسبق للشعر العربيّ أن احتوى على حالة مثلها.
شكّلت هذه "النقلة" في تجربة درويش، دافعًا لكثير من الشعراء للبحث عن "عوالم" جديدة يردونها، غير عوالم المقاومة العسكرية وشعاراتها المباشرة، فشهد الشعر الفلسطينيّ تجارب ابتعدت عن "العامّ" في اتجاه "الخاص"، ووجدنا نفورًا من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، وانهماكًا في اللغة ومحاولات "تفجيرها"، أكثر من الاهتمام بالموضوع والمضمون، الأمر الذي أدخل القصيدة الفلسطينية، والعربية عمومًا، في مأزق الاختبارات والتجريب، وهو ما نجَم عنه الكثير من التخريب أيضًا.
هذه، في اختصار شديد، بعض أبرز ملامح التجارب الأدبية، الروائية والشعرية، في علاقتها مع القضية الفلسطينية، وهي ليست سوى مفاتيح لتساؤلات ودراسات وأبحاث يفتقر إليها المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ، والعربيّ أيضًا، ودائمًا.