وُلدتُ لاجئًا في غزة التي استضافت أهلي لمّا شردهم الاحتلال من قريتنا (يبنا) الواقعة قضاء الرملة المحتلة، وكان في غزة ما يُميزنا نحن اللاجئين عن غيرنا في تفاصيل الحياة اليومية، فالدراسة في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" التي كانت حصرًا للاجئين، كذلك استلام "كابون" من الأمم المتحدة يُقدّم لنا، بين الحين والآخر، فيه بعض من العدس والدقيق والسكر والأرز. وكنا نتلقى العلاج في عيادات وكالة الغوث مجانًا. ولنا جدّات يحدّثننا دومًا عن بلادنا التي صرنا نراها في عيونها لتبقى معلقة في ذاكرتنا ونعلق بها نحن ونمرّرها للأجيال. باختصار كُنت لاجئًا في بلادي.
"بعد مرور وقت ما سيصبح الخامس عشر من أيار يومًا فاصلًا في تاريخ قضيتنا" يسرد هذا الحديث الأستاذ علي الشيخ يونس في مسلسل التغريبة الفلسطينية يوم النكبة الفلسطينية في أيار 1948، ليكون هذا التاريخ علامة فارقة في حياة كل من حمل لقب "فلسطيني" في الوطن المُحتلّ والشتات.
لم تكن فلسطين حاضرة في الأذهان على هيئة أرض نعيش عليها في غزة، بل هي أرض سُرقت منّا ولا نعرفها إلا من خلال الذاكرة والتاريخ، وكانت غزة في شعور اللاوعي هي المكان الذي هُجّرنا إليه، قطعة دون فلسطين، ففي نهاية الأمر نحن لاجئون، وتساءلت مرارا كيف يصبح المرء غريبًا في بلاده ؟
خرجت من غزة قبل أربع سنوات للمرّة الأوّلى، وكذلك كانت المرّة الأوّلى التي ألتقي بها بفلسطينيين غير المليونين الموجودين في بقعة الأرض التي يسكنها مليونين إنسان يحاصرهم الاحتلال داخل حدود 360 كيلو مترًا مربعًا وتسمّى غزة، وأتاحت لي إقامتي في إسطنبول فرصة الالتقاء فلسطينيي العالم كلّه، فكنت بينهم كالغريب وسط أهله وكانوا بالنسبة لي شركائي الذين التقيهم لأوّل مرّة. فرقتنا النكبة في جميع البلاد بقاع الأرض، وجمعتنا الغربة قبل أن تجمعنا فلسطين مجددًا.
حدّثني كلّ واحد منهم عمّا تعنيه له فلسطين، وعلاقته بها وما يفعله من أنشطة في منفاه لأجل إسماع صوتها، وسَخِر بعضهم مني عندما قلت لهم أنّي لاجئ مثلهم أيضًا. "ع الأقل إنت عشت في جزء من فلسطين، احنا نفسنا نرجع لأي مكان فيها" كانوا يقولون.
العلاقة مع الفلسطينيين في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني فكانت مضحكة مُبكية، فالمسافة بيننا في فلسطين لا تبعد إلا عشرات الكيلو مترات، تجمعنا ثقافة واحدة وعادات واحدة وطقس واحد ومنهاج دراسي موحد لكن في ثلاث قطع متفرقةفرّق بينها الإحتلال على نفس الأرض وتحت نفس السماء، لكن ما معنى الاحتلال إذ التقينا ؟
التقيت هنا بأصحاب الهجرتين، فلسطينيي مخيم اليرموك في سوريا، وجدت فلسطين في أدق تفاصيل حياتهم اليومية فحلمهم بالعودة لا يموت وإن أراد الغرباء لهم ذلك، "راجعين لفلسطين خيّا" هذه الكلمة وحدها تردّ الروح إلى الجسد الحي، إلى فلسطين التي ترنو القلوب إليها. وقرأت على جدران مخيمات الفلسطينية في لبنان كيف لا يمكن أن تموت هذه القضية، وعرفت هناك أُناسًا يعرفون تفاصيل التفاصيل عن فلسطين، وتجري في أزقة المخيمات ذاكرة البلاد التي لا تفنى ولا تتبدل مع الزمن ولا يغلبها النسيان.
لاحقًا عرفت أن للنكبة صورًا مختلفة غير الهجرة من المكان، فالنكبة تتجلى في انفصال أجيال متتابعة عن بلادها وعن من هم مثلهم من أهلهم، هؤلاء جميعًا ويجمعهم حلم واحد بالعودة وأمل يُتعب الزمن ولا يتعب.
"محداش إله حق يقتل الأمل .. الأمل في اللي قدامك، في اللي جاي ، في اللي بنقدر نعمله بإيدينا" يُكمل الأستاذ علي هذه الجملة في نهاية المسلسل ليُلخص حكاية الفلسطيني مع بلاده في "التغريبة الفلسطينية" التي لا تنتهي.