تجلس على مقعد خشبي متهاوٍ، ترقب باخرة. تودع الميناء، وعيناها معلقتان على غيمة تطاردها عاصفة.
تتذكر كل تلك الأوهام التي صنعت منها وطنا تقترف حبه كل حين فيتمادى حلم عناقه في البعاد، وكل تلك الوجوه التي بهتت في ذاكرتها، والمرافئ التي اختبرت فيها وجع الملح وهو يلفح جرحاً توارى وراء ملامح أتقنت خداع المرايا، وكل تلك الشعوب التي حاولت ترويضها لتنكر المجزرة وتبكي المحرقة، محاولين رمي رداء ذنوبهم عليها، ومروجين لعقيدةِ غفران المقتول لقاتلة ومباركةِ صاحب البيت لسارقه.
وتستعيد قصصهم عن وعد قبل آلاف السنين لإله، يشككون بوجوده أصلاً، ولكنهم جعلوا من كلماته أساساً لرسم خرائط هذه الأرض، وحقاً لمنح الهبات لقوم دون غيرهم.
وتتذكر كيف يرسم أبناء وطن -حوَّله الغزاة إلى سجن- نافذةً على جدران زنازينهم، تطل على براري تعرف خطواتهم، تعيش عليها صبارة اقتلعتها أيادٍ غريبة، فنمت من جديد شاهرة زهورها في عيون قاتليها، وتسترجع وجوه جدات، شتتت ملامحهَن المجازر وأرهق التلويحُ للغُيَّاب أياديهن.
توارت الباخرة عن الأنظار، فوقفت تحتضن ما تركته لها حياة هذه الأرض من ذكريات، تحملها معها كصدفة لفظها البحر إلى اليابسة، فاحتفظت في باطنها بصدى وطن سكنته ذات يوم، فصار يستوطنها إلى الأبد.
وغادرت الشاطئ تردد في سرها جملة لطالما ربتت بحنان على كتفها: "كل سنة وإحنا قد نكبتنا".