لاحقتني إلى سريري ليلة البارحة صور احتفاليات السفارة الإسرائيلية بـ "عيد الاستقلال" السبعين، النكبة الفلسطينية، بالقرب من ميدان التحرير، وصور الفريق الإماراتي في سباق الدراجات الإسرائيلي في القدس المحتلة. كانت الليلة سيئة والآن استيقظت على انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقها مع إيران، رائحة الخبر تعد بمزيد من الدمار لسورية، قد يسقط النظام، قد ينزلق لبنان إلى ساحة الحرب، قد يلحق بإيران ما حدث للعراق، يصعب الآن توقع ما سيحدث في السنوات المقبلة، لكن المؤكد أن إسرائيل ستخرج منتصرة.
يا له من صباح تعيس! نسيت أن أعطي لابنتي المضاد الحيوي وسط كل هذه القنابل الإخبارية التي تنهال علي. أنبني ضميري، افترس ما تبقى في داخلي من راحة بال. هل ألحق بها قبل بدء الحصة الأولى؟ أم أن في ذلك مبالغة؟
"نسينا أن نعطيها الدواء، من العادي أن ينسى المرء أمراً ما، لن تمُت البنت من نسيانك الدواء مرة، كوني كالعالم والناس وتعلمي أن تتحرري مما لا يمكنك تصحيحه"... لا أحب أن يتدخل زوجي فيما لا يعنيه، من حق كل أم أن تشعر بالتعاسة لأبسط الأخطاء التي ترتكبها تجاه أطفالها، ومن حقي أن أحول اليوم إلى كربلائي الخاصة... وفيما أنا غارقة في الجلد الذاتي، اتصلت بي سكرتيرة المدرسة لتخبرني بنبرة مرتبكة:
- احضري فوراً، لينا تجلس أمامي وقد دفعها أخوها أرضاً. إن في يدها حجر! رجاءاً احضري معكِ ملقطا لأننا غير مخولين بإزالته!
- ما يعني: في يديها حجر؟ أتعنين أن حصوة دخلت تحت جلدها؟
- نعم! هذا ما أعنيه.
أعددت حقيبتي ولم أنسَ المضاد الحيوي هذه المرة. كانت عيناها وارمتين وقد ارتسم على فمها البؤس. نظرت إلى يدها، كان الخدش بسيطاً، حضنتها، بحثت في حقيبتي عن المضاد الحيوي والمعقم، وجدت حلوى وشوكولاتة في قاع الحقيبة.
- اختاري ما تريدين.
- أريدك أن تبقي معي.
- الجرح طفيف يا حبيبتي، سأعصم أصبعك الآن، وإن كنت لا تريدين الكتابة، فاجلسي في الصف للاستماع فحسب، سأتحدث إلى مدرستك، لا تقلقي.
احتفت المُدرسة والصف بعودتها سالمة، ودعتها وقلبي يعتصر من تأنيب الضمير. لماذا تركتها مكسورة الخاطر؟ نعم، الجرح طفيف لكن ألم فراقي كان موجعاً لها. بكيت في السيارة، شعرت باكتئاب حاد دون أدنى سبب منطقي، تخبطت أفكاري حتى رست في مدرستي أنا، في بيروت الثمانينيات...
كان يوماً خاصاً في صيف 1982، بلغت أجمل أمنياتي في ذلك اليوم، سمحت لي "المادموزيل" أن أجلس على حجرها، ها أنا مغيبة، هائمة في غيمة عطرها الراقي وملابسها الأنيقة، يلامسني شعرها الأسود الناعم كلما حركت يديها لشرح شيء ما للآخرين. ما يزال شعرها رطباً وبارداً مثل ساعات الصباح. تحبني "المادموزيل" أكثر من الآخرين، لأنني سريعة الفهم، عالية التركيز ومطيعة في كل ما تطلب منا، لكنني أحبها أكثر. نظرات الأولاد الآخرين غير مريحة، لكني لا أعبأ بما يشعرون. أنا الآن في تجل ولن ينهي ساعة المجد هذه إلا جرس الفرصة.
مرت الساعات التالية بشكل روتيني. رسمنا وغنينا "فرير جاك"، تناولنا الحرف العشرين من الأبجدية ثم طن صوت الإنذار وارتعشت المدرسة تحت دقات الأرض. هلع الجميع من بين الصفوف إلى حافلات المدرسة، دفع أحدهم الكرسي جنباً محدثاً صوتاً مزعجاً. كنت أود أن أعدل وضعه، لكن المادموزيل أصرت أن أتوجه مع الطابور إلى الباصات. عوت الحافلة بين وهلة وأخرى، وصرخ سائق الباص على غير عادته بيننا: "اجلسوا فوراً واصمتوا، مش ناقصة هي!"
ما كاد "أمين البدين" يدخل بطن الحافلة حتى أغلق السائق بابها المتهالك، وانطلقت إلى الشارع. كانت الشوارع خالية من البشر، يملأها غبار فاتح وصمت كثيف. حتى الأولاد لم يلعبوا أو يثرثروا، وصلنا إلى نزلة الفكهاني لكن الشارع كان مسدوداً، لم يتردد السائق ولا انتظر. لوى الديريكسيون بثقة وعاد إلى المدرسة معي، قال لي: "انزلي عمو!"
خرجت إلى هواء المدرسة الساخن وكان الحوش موحشاً مخيفاً. أحسست بالخطر والوحدة، ففعلت ما علمتني تجاربي الأولى أن أفعل: لم أبكِ، تصلب وجهي على تعبير محايد، طالما تدربت عليه على الحدود المصرية، على نقاط التفتيش الفلنجية والسورية، أمام الضباط العراقيين الذين كانوا يريدون التحقق من جواز سفري العراقي: "شلونچ عيني؟ شِنو إسمچ؟ ليش ما دا تحچين ويانا؟". لم أفه بكلمة واحدة، ولبست قناع "التعبير المحايد" حتى تركوني وأمي نخرج من الحدود متجهين للأردن. "تعلمين أنك تدينين لي بالكثير؟ لو أنني فتحت فمي أمام الضابط لعلم على الفور أني فلسطينية، ولواجهت أنتِ مشاكل كثيرة، لقد أنقذتك!" انهالت دموع أمي وسط غرباء سيارة الأجرة بعد أن زال التوتر، وأخذت تقبلني بامتنان.
لكن أين هي عندما احتاج أنا إلى منجِ؟
عاد سائق الحافلة من المكتب: "ماما أكيد في الطريق، التلفونات خربانة، تعالي اقعدي هون عمو"...علق الوقت في بيت حبات الغبار، بقي محير الاتجاه، أشعل السائق سيجارته والراديو ليتابع نتائج القصف الأخير، لكني لم أسمع سوى دقات قلبي على طبل أذني.
أخيراً جاءت أمي وهلعت إلي تقبلني والدمع يغمر وجهها، شكرت السائق وجذبتني إلى سيارة الأجرة، طوقتني: "هل أنت بخير؟" أومأت لها بتعبيري المحايد، وقلت في داخلي: “أنا بخير، لكني اليوم مُت مرة أخرى".