القامشلي، سورية
“نَوباتُ الرّبو الحـــادّة يمكن أنْ تُهدد حياتك، هذا ماقالهُ لي طبيب الصدرية المُناوب في مشفى (الرحمة) حين أسعفني زوجي بعد منتصف الليل قبل حوالي الأسبوع وقد كنتُ في حالة يُرثى لها، وفقدتُ الأمل في البقاء على قيد الحياة.” بكلماتٍ مخنوقة بصفير سُعال مُتكرر تسرُد «بتول» ــ سيدة ثلاثينية وأم لأربع بنات ــ معاناتها من هجمات الرّبو المُزمنة بعد تركيب مُولد الكهرباء في حارتها المعروفة بــ ” الآشورية ” قبالة بيتها في مدينة (القامشلي) شمال شرقي سورية قبل خمس سنوات. وتُضيف: “كنتُ أعاني من حساسية الرّبو لكنها تحولت إلى ربو مُزمن بعد تركيب المولدة التي تنفثُ غازات سامة تخنقني إلى درجة الغثيان والإغماء أحيانـــاً.”
الحـالة باتتْ خطراً مَحتوماً على حياة سميرة ادريس المراهقة التي شُخّص مرضها بسرطان الدم، فبحسب دراسة أعدّتها الجامعة الأميركية في بيروت فإن استخدام مولدات الديزل لمدة تصل إلى٣ ساعات يومياً، ترفع من نسب التعرض اليومي للسرطان بنسبة ٣٣ % أمّا في المناطق التي تعمل فيها المولدات لمدة ٨ إلى ١٢ ساعة في اليوم، فيمكن للجرعات المُستنشقة من البنزوبيرين ــ مُركّبات مُسببة للسرطانات محمولة جواً ــ أنْ تُعادل ١٠ سجائر في اليوم.
سميرة واحدة من ٣٠٠ ألف شخص من سكان (القامشلي) ممّن يُعانون من الاضطرابات النفسية والصحية جراء التلوث وضجيج مولدات الديزل “عصب الطاقة” البديلة للكهرباء النظامية التي تمدّ شوارع وبيوت وأسواق المدينة بالكهرباء لثماني ساعات في اليوم، والتي تجاوز عددها ٣٨٠ مولدة بحسب إحصائية بلدية الشعب المركزية في القامشلي بعد انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه نهائي منذ عام٢٠١٢.
١٠ آلاف مُصاب بالسرطان سنوياً
يستقبل مشفى البيروني في العاصمة دمشق سنوياً سبعة آلاف إصابة جديدة بأمراض السرطان كَمُعدل وسطي حسب إحصائيات المشفى، في حين قَدرت مصادر طبية أنه في كل عام هناك نحو ١٠ آلاف إصابة جديدة في البلاد.
وهي أرقام يعتبرها دانيش إبراهيم أخصائي أمراض الدم والأورام الخبيثة مُخيفة وهي تعادل الــ٦٠ إصابة يومياً لأسباب يُرجّح الطبيب إرتفاعها إلى سوء التغذية والأسلحة المحظورة دولياً، والمُبيدات الحشرية والكيماوية التي يعتبرها الإختصاصي إبراهيم من العوامل المؤهلة والمحرضة للإصابة بالمرض، والتي تعمل على تغيير الشفرات الوراثية التي تؤثر بدورها على انتقال الأمراض وراثياً إلى الأجيال القادمة. وأشار إلى انتشار السرطان بنسب كبيرة بين مختلف الفئات العمرية لاسيّما في منطقة الجزيرة محافظة الحسكة بسبب انتشار المولدات الكهربائية والحَرّاقات.
صورة رقم 1: الدكتور «دانيش إبراهيم» أخصائي أمراض الدم والأورام الخبيثة.
أكثر من ٣٥٠٠ حالة جديدة سنوياً بسرطان الثدي في سورية، وحسب تقديرات بلندا عبد الرحمن طبيبة مُشرفة سابقاً في مشفى البيروني والاختصاصية في علم الأورام أنّ أكثر السرطانات النسائية الشائعة في دول العالم الثالث هي سرطان الثدي حيث إن ١ من أصل كل ٧ نساء تُصاب بسرطان الثدي. بينما ١ من كل ١٢٨ امرأة سَتُصاب بسرطان عنق الرحم. وعلى الرغم من قلّة الإصابة بسرطان عنق الرحم إلا أنّ أكثر من نصف النساء المصابات به يَمُتنَ بسببه؛ فهو أخطر من سرطان الثدي وتكون طرق الوقاية منه بإجراء لُطاخة عنق الرحم. وارتفعت مؤخراً معدلات الإصابة بالسرطان بنسب كبيرة بين السوريات لا سيما سرطان الثدي.
صورة رقم 2: الطبيبة «بلندا عبد الرحمن» المُشرفة سابقاً في مشفى (البيروني) والاختصاصية في علم الأورام.
انهيار النظام الصحي
الحرب الدائرة رحاها في سوريا لعامها الثامن تسببت بهجرة ٥٠٪ من الأطباء الاختصاصيين إلى خارج البلاد، وخلّفت أمراضاً كثيرة لاسيّما بين أنقاض المدن المدمرة. فَبسبب تلوث الطعام والمياه وحتى الهواء وتراكم أكوام القمامة الملقاة في كل مكان، وانحلال الجثث التي يصعب انتشالها من تحت الأبنية المُنهارة، عدا عن الجرب وشلل الأطفال والحصبة والتهاب الكبد الوبائي، والكوليرا، وحمّى التيفوئيد.
وتُرجّح الطبيبة «سحر جميل» أخصائية الأمراض الجلدية أسباب تزايد انتشار اللايشمانيا وغيرها من الأمراض الجلدية المُعدية إلى ظروف النزوح وتجمع أعداد كبيرة من المواطنين في أماكن محصورة وغير نظيفة (كمخيمات اللاجئين ومراكز الإيواء) واستخدامهم مرافق الخدمات المشتركة وتداعيات الحرب على البيئة. إضافةً لوجود مواد غذائية وطبية كـ اللقاحات دخلت سوريا بطرق غير شرعية وغير مراقبة طبياً ومجهولة المصدر وتاريخ الصلاحية.
أشار بيان منظمة الصحة العالمية لعام ٢٠١٧ إلى تدهور الخدمات الصحية وتأثر وصول المدنيين إليها، وكشفت إليزابيث هوف مُمثلة المنظمة في سوريا، عن أنّ أكثر من ٥٠٪ من المرافق الصحية بما في ذلك المستشفيات والمراكز الصحية لا تعمل. وبالإضافة إلى ذلك فإن ٧٥٪ من المِهنيين في مجال الصحة، بمن فيهم المتخصصون في اختصاصات عالية مثل أطباء البَنْج والجراحين غادروا البلاد. وتؤكد هوف أن سوريا قبل الحرب كانت تتمتع بأفضل مؤشر صحة في منطقة الشرق الأوسط، وما رأيناه الآن يُوضّح أنّ تغطية عمليات التطعيم قد انخفضت من ٩٥٪ إلى أقل من ٦٠٪، وهذا يُؤثر بشكل خاص على المناطق التي يصعب الوصول إليها والمناطق المحاصرة.
الأسلحة الحارقة
تصاعدت الهجمات بالأسلحة الحارقة في سوريا بشكل كبير منذ بدأت روسيا عمليتها العسكرية المشتركة مع الحكومة السورية في٣٠ سبتمبر/أيلول ٢٠١٥ ضد الفصائل المسلحة المعارضة في غوطة دمشق وإدلب وحماة وسراقب وغيرها. ولم تتوانَ الفصائل المسلحة التابعة للمعارضة السورية والمدعومة من تركيا في استخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين في حيّي (الأشرفية وشيخ مقصود) في مدينة حلب وفي مدينة منبج وريفها.
وتوّلد الأسلحة الحارقة الحرارة والنار من خلال تفاعل كيميائي لمادة قابلة للاشتعال، ما يُسبب حروقاً مُؤلمة لا تُطاق ويصعب علاجها.
صورة رقم 3: الصاروخ الذي ضرب بيت «فهد الناصر».
كان بيت عائلة «فهد الناصر» من قرية الدندلية في ريف مدينة منبج في مرمى القنابل الحارقة والصواريخ التي أطلقها مقاتلو درع الفرات الفصيل المسلح التابع للمعارضة السورية على قريته قبل حوالي عامين وتعرض طفله مصطفى ذو ثلاث سنوات وزوجة أخيه وأخته لحروق أدّت إلى تشوّهات خُلقية.
يُؤكد الناصر تعرض أخته وزوجة أخيه وطفله إلى حالة غثيان وسُعال شديدتين نتيجة استنشاقهم لغازات ذات روائح كريهة كما قال، إضافة لمواد سائلة انبعثت من الصاروخ الذي قُصف به منزله أدّت إلى احتراق أقدامهم وتشوّه جلدها.
صور رقم 4 و 5: تُظهر الطفل «فهد الناصر» وتشوه قدميه نتيجة المواد سائلة المنبعثة من الصاروخ الذي قُصف به منزله.
وتُوّلد الأسلحة الحارقة الحرارة والنار من خلال تفاعل كيميائي لمادة قابلة للاشتعال، ما يُسبب حروقا مؤلمة لا تُطاق ويصعب علاجها، وتُشعل الأسلحة أيضاً حرائق يصعب إطفاؤها، وتُدمّر الأحياء المدنية والبنية التحتية.
منظمة هيومن رايتس ووتش سجلت استخدام ٤ أنواع من الأسلحة الحارقة في سوريا منذ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٢، جميعها من نوع “زاب”، وهي قنابل حارقة.
صورة رقم 6: مادة سائلة ناتجة عن الصاروخ الحارق.
السلاح الكيماوي
خلال الحرب السورية وُثّقت عدة حالات تم خلالها استخدام السلاح الكيماوي كان أبرزها الهجوم الكيماوي الذي استهدف منطقة الغوطة (غوطة دمشق) في ٢١ آب ٢٠١٣. فقد اتّهمتْ المعارضة السورية قوات النظام بإلقاء سلاح كيماوي من غاز السّارين على منطقة الغوطة في حادثةٍ أدّت إلى مقتل ما لا يقل عن١٥٠٠ شخص في زملكا وكفربطنا والمعضمية وجوبر وعربين وسقبا وحمورية وحرستا وعين ترما. كان معظم الضحايا من المدنيين بينهم نساء وأطفال وبلغ عدد المصابين أكثر من ٦٠٠٠ حسب إحصاءات المشافي والنقاط الطبية في المنطقة. وكانت بعثة الأمم المتحدة للتحقيق حول استخدام الأسلحة الكميائية في سوريا قد أجرت تحقيقاً في العام ٢٠١٣ لتقصي مزاعم استخدام الأسلحة المحظورة في ٧ من أصل ١٦ حالات: خان العسل، وسراقب، وشيخ مقصود، الغوطة، البحارية، جوبر، وأشرفية صحنايا.
واعترفتْ احدى فصائل “جيش الإسلام” التابعة للمعارضة السورية، في السابع من أبريل/نيسان ٢٠١٦، باستخدامها أسلحة محظورة خلال الإشتباكات مع وحدات حماية الشعب الكردية في حي الشيخ مقصود بمدينة حلب والتي تسببت بحالات اختناق في صفوف المقاتلين والمدنيين في الحي.
كما اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش قوات النظام السوري باستخدام غاز الأعصاب في ثلاث هجمات على خان شيخون، وتحدثت المنظمة في تقرير نشرته في أيار/ مايو ٢٠١٧ عن “نمط واضح وممنهج” في استخدام الأسلحة الكيماوية قد يصنف في خانة “جرائم ضد الإنسانية”.
ووفقاً لمجلة فورين بوليسي فقد استخدم الجيش الأمريكي الكيماوي رغم تعهده بعدم استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب في ساحات المعارك في العراق وسوريا، إلا أنّ عدداً من المسؤولين أكّدوا أنّ الجيش الأمريكي قد أطلق آلاف القنابل التي تحتوي على هذه المادة خلال غارتين على شاحنات النفط في سوريا في مناطق كان يُسيطر عليها تنظيم داعش في أواخر سنة ٢٠١٥. وتُعتبر هذه الهجمات بمثابة أول استخدام مُؤكُد للجيش الأمريكي لليورانيوم منذ غزو العراق سنة ٢٠٠٣، عندما استُخدمت هذه المادة السامة لمرات عديدة، الأمر الذي أثار موجة غضب داخل المجتمعات المحلية التي زعمت أنّ هذه المواد السامة من شأنها أن تتسبب في أمراض سرطانية فضلاً عن جملة من التشوهات الخُلقية.
تُحذّر عبير حصّاف رئيسة هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية الكردية في القامشلي من النتائج الكارثية على الصحة البشرية والحيوانية والبيئية جرّاء استخدام الأسلحة الكيماوية وتضيف: “استخدام الأسلحة المحظورة دولياً تُشكل تهديداً خطيراً على الأمن الصحي في سورية، نتيجة شيوع الأمراض السرطانية، وازدياد التشوهات الجينية التي تخلقها الأسلحة والمواد الكيميائية، ممّا يؤدي إلى تعقيد الواقع الصحي بارتفاع عدد المرضى وضرورة توفير الرعاية اللازمة لهم.”
صورة رقم 7: «عبير حصّاف» رئيسة هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية (الكردية) في القامشلي.
ونوّهت حصّاف إلى أضرار استخدامها على الثروة الحيوانية والزراعية، كون الأسلحة الكيميائية تُؤدي إلى تلوث خطير في التربة والنباتات. وقد تتسبب الخضار والمحاصيل الزراعية والفاكهة المصدرة محلياً بين المحافظات والمزروعة في الأماكن التي تعرضت لتلك الأسلحة إلى خطر انتقال أضرارها إلى المدنيين الذين سيتناولون تلك المحاصيل الملوثة ممّا سَيزيد من خطورة الكارثة، وانتقال خطورتها مستقبلاً أيضاً.”
انهيار القطاع الدوائي
تتوزع معامل الأدوية بشكل رئيسي بين ثلاث محافظات هي: حلب فمعاملها تنتج حوالي ٥٥٪ من إنتاج الدواء السوري، ودمشق وريفها ٤٠٪ وحمص ٢٠٪ ، وبحسب تقديرات الصناعات الدوائية، فقد انخفض انتاج الدواء في سوريا إلى ٦٠٪ نتيجة تضرُّر العديد من المعامل.
أرجع الصيدلاني جلال مراد سبب تراجع جودة الدواء المتوافر حالياُ في سوريا إلى انخفاض جودة المواد الأولية المستوردة من الصين والهند وإيران. وأشار إلى أنّ الغياب شبه التام لرقابة المؤسسات المعنية كان سبباً في قيام مُنتجي هذه الأدوية بتخفيض النسبة الدوائية الفعالة فيها. ناهيكَ عن رَواجْ تجارة الأدوية المُهربة والمخدرات والأدوية المُهدئة والتي تحتوي على نسب عالية من المواد المخدرة، وانتشرت بعض الأصناف الدوائية عديمة الفعالية كأدوية الالتهابات وبعض المسكنات.
صورة رقم 8: الصيدلاني «جلال مراد».
وأضاف مراد إنّ انقطاع طرق النقل والمواصلات بين المحافظات تسبب بدوره بصعوبات في نقل وإيصال الأدوية والمستلزمات الطبية إلى الأسواق. ناهيك عن تعامل المنظمات الصحية العالمية فقط مع السلطات المركزية السورية، وهذا بدوره انعكس سلباً على الواقع الصحي في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري.
استمرار الحرب السورية منذ منتصف آذار ٢٠١١ والتي تسببت بمقتل وإصابة الآلاف وتشريد عشرات الآلاف في مخيمات النزوح واللجوء. فاق واقع الصحة في سورية النتائج الكارثية للحرب التي أنهكت كاهل السوريين منذ قرابة الثماني سنوات. هذا الواقع يُحتم على الجهات المعنية الإسراع في إجراء تقييم شامل للقطاع الصحي والرعاية الصحية في البلاد وتأمين الأدوية للمصابين بالأمراض المزمنة. يجب أن يتم هذا تقييم من خلال دراسات تشمل إلى جانب القطاع الصحي الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثم وضع السياسات اللازمة لتحسينها مع استكمال ترميم المشافي والمراكز الطبية المتضررة وتأمين المعدات الطبية اللازمة لعملها، وذلك بالتعاون مع منظمات الصحة العالمية.