جاء قرار رفع أسعار المحروقات والكهرباء، يوم الخميس، كصفعة لمطالب الإضراب الذي دعت له النقابات المهنية يوم الأربعاء اعتراضًا على تعديل قانون ضريبة الدخل ونظام الخدمة المدنية، قبل أن يتحول لمهزلة حين تم التراجع عنه «بإيعاز» ملكي؛ تلك اللازمة التي نسمعها كلما أسقط الشارع قرارًا حكوميًا. اتضحت هزالة هذا التراجع وهزليته مع احتجاجات ليلة الجمعة التي خرجت من عشرات النقاط حول الأردن، ليبدو واضحًا أن ما يحدث في الشارع بات أبعد بكثير من قرار الرفع ومن مشروع ضريبة الدخل، سواء لحقت النخب به أم لم تلحق.
قرار الرفع وما تلاه أثار استغراب الكثيرين وطرح التساؤل حول ما إذا كانت الحكومة بهذا الغباء فعلًا باستخفافها بالشارع إلى هذا الحد. لكن هذا القرار يشكل مدخلًا مهمًا لفهم تعامل النظام مع المطلبين: التراجع عن مشروع قانون الضريبة، والتراجع عن قرار رفع الأسعار. رأى النظام في هذين المطلبين مسألتين منفصلتين ترفعهما فئتان منفصلتان كذلك: الطبقات الوسطى – ممثلة بالنقابات في حالة المطلب الأول، والطبقات الفقيرة في حالة الثاني. وهذا الفصل من أهم ما يجب تحليله وتفكيكه في اللحظة الراهنة، ابتداءً من الإضراب ووصولًا إلى ما نحن أمامه اليوم من هبّة شعبية.
إضراب طبقة وسطى؟
عبّر الطابع العام للإضراب بشكل أساسي عن مطالب الطبقة الوسطى التي رفعتها النقابات المهنية، وتجلى ذلك في هدفه الأول، التراجع عن تعديل قانون الضريبة، الذي لا يطال الفقراء بشكل مباشر. إلا أنه تحول سريعًا إلى منصة صعدت عليها عدة مطالب رفعها من هم غير متضررين بشكل مباشر من مشروع القانون، كونهم تحت عتبة الشريحة الأولى المشمولة فيه. هؤلاء الفقراء شاركوا لأن ما مسهم طيلة السنوات الماضية من رفع أسعار محروقات وكهرباء وضرائب مبيعات هو جزء من السياسة ذاتها التي يأتي ضمنها اليوم تعديل قانون ضريبة الدخل حتى وإن لم يمسهم هذا الجزء الجديد. المتابع لتفاعل الناس مع الإضراب سيرى تكرارًا للتأكيد على أن الموضوع «أبعد من الضريبة» وأن المستهدف بالاحتجاج هو «نهج الإفقار» الذي يتخذ هذا الشكل اليوم، لكنه ليس شكله الوحيد، ولعل هذا جاء رغم أن الكثير منهم كانوا نظريًا أمام خيار قول «هذه ليست حربنا»، بل هي، نظريًا، حرب طرفاها الحكومة وصندوق النقد الدولي من جانب، وأصحاب رؤوس الأموال من جانب آخر. كما أن الفقراء لا يثقون في أن الضرائب التي ستحصّلها الحكومة من الطبقات الوسطى أو حتى الأغنياء ستعود عليهم بأي نفع ملموس من خلال توجيهها لخدمات في القطاع الصحي أو التعليمي أو غيرهما. لذا، فإن تتالي الضربات التي وجهتها الحكومة لهذه الطبقة جعلتها متحفزة لانتهاز أي فرصة لإعادة مطالبها للشارع حتى وإن في إطار حراك أوسع.
من جهة أخرى، فإن من شاركوا بالإضراب من المتضررين بشكل مباشر من تعديل قانون الضريبة ليسوا بأي حال فئة واحدة. فهناك المتضررون ممن سيدخلون في الضريبة مع التعديل المقبل، وهؤلاء من الطبقات الوسطى الدنيا وهم على الأرجح الشريحة الأكبر من المتضررين، الذين واجهوا قرارات اقتصادية خلال السنوات الماضية أثرت عليهم أيضًا، فهم لم يكونوا بمنأى عن رفعات الأسعار وتضييق فرص الصعود الطبقي. لكن هنالك كذلك شرائح وسطى عليا وأصحاب رؤوس أموال متوسطة وكبيرة ممن يدافعون عن «مكتسباتهم» الخاصة برفض الضريبة التي تطالهم أيضًا أكثر مما سبق. وقد تفاعلت عدة أطراف مع وجود هذه الشرائح في الإضراب بأشكال مختلفة. فقد حاولت الحكومة استخدام وجودهم لإضفاء شرعية على الضريبة بالقول إنها تحقق «العدالة الاجتماعية» وتخدم «مبدأ التصاعدية». ومن جهة أخرى، تفاعل جزء من الطبقات الفقيرة وبعض القوى السياسية مع وجود هذه الشرائح في الإضراب بالتوجس منه على اعتباره تمثيلًا لمصالح فئات لا تتقاطع مع الفقراء بشيء، بل هي شريكة في إفقارهم.
هذا التعدد في الفئات المشاركة في الإضراب يجب أن يظل واضحًا حتى لا نتوهم أن الجميع يتشاركون نفس المصالح أو الأهداف. لكنه كذلك مهم حتى لا نتوهم أن ما يجري هو مجرد تحريك بيادق لتصفية حسابات بين الحكومة ورجال الأعمال. فإلى جانب كون هذا التصور يجرد الناس من أي فاعلية سياسية ويصورهم على أنهم يساقون بقرار من أصحاب العمل، فهو غير دقيق حين ننظر إلى مستوى أشد تفصيلًا في التفاوتات بين الفئات المضربة. فهناك فروقات هامة بين المضربين من القطاع العام ومن القطاع الخاص، ففي الأول لا يمكن الحديث عن أي إيعاز أو تسهيل من المدراء أصحاب العمل، بل أن البعض تعرض لتهديدات بالتعرض لعقوبات في حال المشاركة، كما حدث في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ومؤسسة المواصفات والمقاييس، مثلًا.
وفي القطاع الطبي مثلًا، أعلنت مستشفيات القطاع الخاص أنها «لن تمتنع عن معالجة المرضى»، أي لن تشارك في الإضراب، «بغض النظر» عن رأيها في مشروع القانون، وحتى مع مشاركة عدد من أطباء القطاع الخاص. البنوك، في مثال آخر، لم تعلن دعمها أو مقاطعتها للإضراب، بل قدمت «مقترحات لزيادة حصيلة ضريبة الدخل دون الحاجة لزيادة النسب الضريبية على القطاعات والشرائح»، كما اكتفت بتشجيع صغار موظفيها للمشاركة دون إثبات حضورها بوضوح في الإضراب. كان من الملاحظ أيضًا أن قطاع الألبسة والإلكترونيات شارك بشكل كبير بالإضراب، وهؤلاء في الغالب أصحاب رؤوس أموال متوسطة أو صغيرة، وهؤلاء متضررون بشكل مباشر من تدني القوة الشرائية عند الفقراء والطبقات الوسطى الدنيا.
بالتالي، من غير المعقول أن تتم مساواة مصالح ومطالب أطباء مستشفى الخالدي، مثلًا، بالعاملين في مركز صحي ذيبان، وصهرها معًا تحت إطار أن ما يجري هو تشبث لكبار أصحاب المصالح بما يعتقدون أنه حقوقهم، وأن من شارك بالإضراب من صغار الموظفين مسيّر أو مدفوع من أعلى. بكلمات أخرى، لم يعد كافيًا الحديث فقط عن «طبقة وسطى» يتساوى فيها موظفون بالكاد يعيلون عائلاتهم ولم يشهدوا تحسنات ملموسة في رواتبهم لسنوات عديدة مع مدراء يشغلون العشرات من هؤلاء الموظفين ويستطيعون الاستغناء عنهم والإتيان بغيرهم في أي لحظة، فهذه الفئات ليست مختلفة فحسب، بل قد تحمل مصالح متناقضة، وإن تقاطعت اليوم في مسألة الضريبة. في هذا السياق، من الأدق النظر للإضراب كمنصة عبرت فيها عدة فئات من عدة طبقات عن مطالب مختلفة تقاطعت لحظيًا. هذه المطالب شملت التراجع عن قانون الضريبة لكنها امتدت لتشمل ما احتج عليه العمال الفقراء منذ سنوات من نهج يتخلى أكثر فأكثر عن أي دور اجتماعي حمائي للدولة.
التحالف لتحت، لا لفوق
وسط كل هذه التعقيدات، جاء قرار رفع أسعار المحروقات الذي دام أقل من 24 ساعة، دافعًا بالناس للنزول إلى الشارع. كانت مظاهرات اليومين الماضيين تعبيرًا عن تفتت ولو جزئي للفصل المقام بين الطبقة الوسطى بإضرابها والفقراء بمظاهراتهم ضد رفع الأسعار. استثمر الناس زخم إضراب الأربعاء للتحشيد لمظاهرات الخميس والجمعة والتقت قنوات السخط في تعبير أوضح مما سبق عن وحدة النهج الذي يمس حياة ومصالح الفئتين.
هناك عدة عوامل سياسية ساعدت على التمهيد لهذا الالتقاء، منها حادثة صوامع العقبة القريبة التي لا تزال حاضرة كمثال على مدى الاستهتار بأرواح العمال الفقراء، إضافة إلى تصريحات استفزازية من قبيل ادعاءالناطق باسم الحكومة محمد المومني بأن «49% من التعليقات السلبية ضد الأردن مصدرها سوريا»، ثمتأكيد وزير المالية عمر ملحس بعد الإضراب بيوم أن الحكومة متمسكة بمشروع القانون ولن تسحبه من مجلس النواب، إضافة إلى النمط المستمر في أداء الملقي نفسه منذ بداية حكومته في التعالي حتى على الحديث بشكل مباشر مع الناس، والاستخفاف بأي تحرك شعبي بصفته مجرد ضوضاء انفعالية لا يلتفت إليها أصحاب القرار العقلانيون.
لكن التعويل على استمرار هذا الالتقاء مشروط بما ستفعله النقابات المهنية ومن ورائها من تمثلهم من فئات من الطبقة الوسطى في الأيام المقبلة. فما صدر من تصريحات من مجلس النقباء يوم الجمعة يشير باتجاه تمسك النقابات بعنوان ضريبة الدخل وحده دون محاولة اللحاق بالشارع الذي دفع المطالب إلى مستوى أعمق يتعلق بالنهج الاقتصادي برمته. وتأكد ذلك بشكل أوضح مع البيان الهزيل الذي أصدره مجلس النقباء صباح السبت وزعم فيه «أن قرار الحكومة برفع أسعار المشتقات النفطية هو السبب الرئيس في تأجيج احتجاجات المواطنين وليس له علاقة بالإضراب السابق الذي تم يوم الأربعاء الماضي أو ما سيأتي من إجراءات لاحقة تم الإعلان عنها سابقًا»، في تنصل واضح من مطالب الشارع وحتى من خطاب اعتمدته النقابات نفسها لفترة وجيزة ركز على معارضة «النهج» الاقتصادي، لا القانون وحده، وهو ما تم بوضوح بعد أن تلقى المجلس «ضمانات» تؤكد تحقق مطالبه.
حتى وإن لم تكن النقابات قد استهدفت الوصول إلى هذه المرحلة من التصعيد حين دعت للإضراب، فهي مسؤولة اليوم أمام هذا الحراك، فقد فتحت قنوات للاحتجاج، وشكلت مظلة آمنة حفزت الناس على المشاركة، خاصة بعد تقلص فرص التنظيم السياسي، ولهذا ظهرت أصوات تمتدح النقابات باعتبارها «استعادت» الدور الذي لعبته في فترة الأحكام العرفية. كما أن نجاح الإضراب حفّز دفع الناس لإعلاء أصواتهم أكثر مما جعل وقع قرار رفع الأسعار أشد إثارة للسخط من العديد من قرارات الرفع السابقة. لذا فإن سحب الغطاء السياسي الذي وفرته لهذا الحراك سيشكل ضربة حقيقية له.
مسؤولية النقابات أمام الطبقات الوسطى الدنيا التي تحركت معها من أجل مصالحها المباشرة تكمن في ربط هذه المصالح بمصالح العمال والفقراء لا بمصالح أصحاب الأعمال، وهو ما ينعكس في مدى التمسك بخطاب أوسع يطرق المشاكل الجذرية في سياسات اللبرلة الاقتصادية والتي أنهكت الفقراء قبل الطبقات الوسطى، مقابل خطاب يركز فقط على ضريبة الدخل، أي على نقطة تقاطع مصالح الطبقات الوسطى الدنيا مع الوسطى العليا والرأسمالية. فهذا التحالف لأعلى لن يؤدي سوى إلى إعطاء النظام المزيد من الوقت لإعادة ترتيب أموره والمضي في السياسات ذاتها حتى وإن من باب آخر، وهو ما ستكون نتيجته شبه المؤكدة طحن المزيد من الشرائح عاجلًا أم آجلًا.
فمنذ اتفاقية الأردن مع صندوق النقد الدولي لبرنامج التحول الاقتصادي عام 2001، الذي فتح الباب أمام الخصخصة تحت مسمى «إعادة الهيكلة» وصولًا إلى تخلي الدولة شيئًا فشيئًا عن آخر آليات الرعاية الاجتماعية، المتمثلة بدعم الخبز والمحروقات، كان الفقراء هم المستهدفون بشكل مباشر. لكن مع الغوص في دوامة من الديون الداخلية والخارجية التي تكدست فوائدها، استُنزف الفقراء ولم يتبق ما يمكنتجريدهم منه، وعندها بدأ اللجوء إلى الطبقة الوسطى. الاطلاع على «مشورات» صندوق النقد الدولي للأردن، التي جاءت بتعاون مباشر مع الـ(USAID) ضمن ما سمي تقييمًا مشتركًا لنقاط ضعف الإدارة الضريبية، يعكس بوضوح أن ما نتجه إليه هو المزيد من تقليص الإعفاءات الضريبية والدعم الحكومي في أشكال مختلفة، فما «أشار» الصندوق به على الحكومة الأردنية كان إدخال شريحة دخل 6000 دينار سنويًا للفرد و12,000 سنويًا للأسرة للضريبة، كما وبّخ الصندوق الحكومة في تقرير صادر في صيف 2017 على تأخر تطبيق هذه «الإصلاحات» الضريبية. وإن كانت الحكومة قد أدخلت شريحة الـ8000 للفرد و16,000 للأسرة، فلن يكون مفاجئًا أن يقود تمرير القانون لتعديل جديد بعد سنوات لتطبيق المشورة على نحو ينال كامل رضا الصندوق. وبالطبع، هذا الطريق المظلم لا يثير أي هواجس لدى المسبّحين بحمد بالصندوق و«إصلاحاته» الذين لن يستطيعوا الاعتراف بفشل هذه السياسات وخطرها الاجتماعي حتى لو وصلت إلى «تشليح المواطن»، كما عبّر أحد النواب ببلاغة غير مقصودة.
لقد استفادت أجزاء من الطبقة الوسطى من النهج الاقتصادي الذي طالهم اليوم، بتحسين نمط حياتهم بالاقتراض من أجل الاستهلاك في الوقت الذي كانت فيه الدولة توقف القروض والمساعدات التي كانت تمنحها للمزارعين وصغار المصنّعين من أجل الإنتاج. وإلى جانب هؤلاء، هناك فئات أكبر في الطبقة الوسطى لم تتضرر من النهج بشكل مباشر. لكن ما بات واضحًا اليوم، هو أنه ليس أمام الطبقات الوسطى -الشرائح الدنيا تحديدًا- سوى الالتحاق بالفقراء الذين سبقوهم في رفض هذا النهج، وتشكيل كتلة اجتماعية تنظم نفسها للدفاع عن مصالحها والتمايز عن أصحاب رؤوس الأموال، وهو ما يمكن أن يتم، فيما يتعلق بقانون الضريبة بالمطالبة برفع النسبة على الشريحة الخامسة (العليا) من دافعي ضريبة الدخل، أو خلق شرائح أعلى بنسب أعلى، لا تقف عند نسبة 25% من الدخل بل تصل إلى 35% أو 40%.
لم يعد ممكنًا ترك الفقراء والعمال الذين وقفوا -منفردين أحيانًا- في وجه سياسات صندوق النقد في الخصخصة وبيع موارد الدولة، في هبة نيسان 1989 وفي حراك 2011 وفي هبة تشرين 2012. حينذاك، استفرد النظام وأصحاب العمل إلى حد كبير بالحراكات العمالية، من عمال الموانئ والمياومة والفوسفات والبوتاس والكهرباء وغيرهم، وضُرِبت هذه الحراكات وتم تهميشها. اليوم، لا بديل أمام الطبقات الوسطى ونخبها، وعلى رأسها النقابات، عن الالتفاف حول مطالب الفقراء والدفاع عن نفسها بالدفاع عنهم. أما الانغلاق على الذات والدفاع عن مصالح ضيقة بخطابات حول «قيادة» شرعية لحراك عمره أيام، تتمثل في النقابات المهنية، فهو وحده الإجهاض الحقيقي للحراك، وتخاذل حقيقي عن اللحاق بالشارع.
[ينشر المقال ضمن اتفاقية تعاون مع مجلة حبر]