منطلق هذه النصوص أعمالُ الفنان السوري علاء حمامة. غالباً ما ابتعدتُ عما أدلى به من تعليقات أو ما كشفه من معلومات سِيَرية أثناء مقابلات معه، صحفية أو متلفزة، وإن انتفعتُ بها إلى حد معين في قراءة أعماله. آثرت النسيان والانطلاق مما رأيت، فقد لا تلزمنا دائماً العدة والعتاد البلاغيان والنقديان لنكتب عن الفنّ، مهما كانت معارفنا مجتزأة وناقصة. هذه التداعيات الشخصية، غير الاعتباطية بأية حال، قد تبدو شططاً غامضَ الدلالات، وقد لا تفضي للوهلة الأولى إلى إدراك محدّد واضح بالضرورة، لكنها ما كانت لتدوَّن على هذا النحو لولا التقاطعات بين ذاكرتين: إحداهما تتخيّل لتعيد كتابةَ المفقود من صفحةٍ طويلةٍ ممزّقة، والأخرى تتخيّل وتستكمل بالرسم ما تمزّق من مشاهد حياة انقضت. لعلّ الباعث الذي حفّزني ولعٌ غير مفهوم بما يتنافر ويتطاير ولا ينسجم مع أي سياق، إلا مواربة غالباً أو عن بُعد، ولعلّها محبةُ الحوار بين شخصين اثنين، لا ثالث لهما، لا من الشياطين والملائكة ولا من الإنس وعباقرة الجنّ. للأسف، لا تتلوّن الكلمات تماماً، والأشكال اللغوية التي تخلقها المصادفات في الكتابة طلاسمُ لا تكاد تستهوي أحداً أو مسوخٌ على الأغلب محكومة بالموت منذ ولادتها. لا لأن الشعرَ أعجزُ عن المحاكاة، لكونِه أقرب إلى الموسيقى وأقلّ استسلاماً لغياب المعنى، وإنما لأن الكلمات محدودة ولا مهرب من إخضاعها لبُنى العبارات ومنطقها؛ المعجم نفسه محدود، يتقاسم استخدامه المجرمون والأبرياء والرماديون كتدرجات الظلال في صورٍ بالأبيض والأسود. ربما الكتّاب مرضى الكلمات يقلّبونها في رؤوسهم بغير نهاية ولا يبتُّ في وساوسهم هذه إلا الإرهاقُ أو الملل أو اليأس، لكنهم يستردّون شيئاً من العافية حين يحاورون ما تجود به الألوان على الرسامين، وأحسب كلتا الفئتين، كتاباً ورسّامين، لا تفلحان غالباً في الاقتراب من اللاموصوف الكبير في الحياة، العصي على أي تفسير، والفنون كافة تجابهه. لم أقصد المطابقة بين الاقتباسات في الكتابة المفتوحة وبين عناصر الكولاج، كما لم أقصد الاكتفاء بتدوين الانطباعات أو تداعيات التداعيات، ولا البحث التخصصي الفني-الاجتماعي-السياسي، بل أمل الوصول إلى مستويات متعددة من التلقّي الشخصي إزاء عمل فنّي بعينه أقرأ فيه نفسي، ولا بد من الوقوف أمامه وجهاً لوجه وإلا ضاعت التفاصيل.
العنوان "الأعداد، وما خلفها من صُوَر" مأخوذ من إحدى قصائد بول تسيلان.
-الحقيبة السحرية-
سنة 1894. فرناندو بيسّوا، الخالق أو الصانع وفق الإنكليز الذين أجاد لغتهم، تخيّل أول أنداده الذين كانوه وكانهم، ولم يكن أيٌّ منهم أحداً على وجه التحديد المطلق. بيسوا الطفل ابتكر شخصية فرنسية وقال: "كتبتُ من خلاله رسائل إلى نفسي".
توفي بيسوا بتشمع الكبد عن عمر 47 عاماً، تاركاً وراءه حقيبة كبيرة في إحدى الغرف المستأجرة التي آوت عزلاته في لشبونة. كانت هذه الحقيبة مليئة بنصوص نسبها إلى الكتّاب والشعراء الذين خلقتهم مخيّلته، وحوَتْ أوراقاً وقصاصات مشوَّشة التواريخ، مكتوبة بخط اليد فتعذّرت قراءة بعضها. ضمّت تلك المجموعة الضخمة مخطوطات غير منشورة ومسوَّدات ومتفرقات من القصائد والمقالات والكتابات الهرمسية والحوارات والتأملات الفلسفية والمسرحيات والقصص القصيرة.
ترجم بيسوا قصائد إدغار ألن بو، وتركت قصة "رجل الزحام" أثراً بالغاً في نفسه. الراوي في قصة بو رجلٌ ناقه هادئ لا يفوّت فضوله أي شيء؛ يمضي مساء خريفياً، شاغلاً نفسه بتفحّص المارّة من نافذة مقهى في لندن. وسط حشود متدافعة من الموظفين والنشّالين والشحّاذين والمقامرين و "نساء البلدة" يلمح الراوي عجوزاً غريب الوجه، فينهض عن كرسيه ويعتمر قبعته ويقرر أن يتبعه. يخيّم الليل ويستحيل ضباب لندن مطراً، والراوي مواصلٌ اقتفاءَ الرجل الطاعن في السنّ "القصير الهزيل الواهن"، عبر الأزقة والساحات والأسواق. أخيراً يدخل العجوز حانة لشرب الجنّ مطلعَ الصبح، ثم يستأنف مشيه راجعاً إلى قلب لندن، ولا ينفكّ الراوي يطارده طوال اليوم التالي، حتى يظنّ عند حلول المساء إن هذا العجوز الشريد المجهول الذي لا يكفّ عن المشي هو مجرمٌ، بيته الوحيد الزحام، وقلبه "كتاب لا يسمح لأحد بقراءته".
هل كان بيسوا يلاحق قرينه المريض حين أعاد كتابة هذه القصة على لسان العجوز، الخائف مما يضمره الرجل الغريب الذي يلاحقه ويحسبه لصّاً أو قاتلاً؟ هذا المثال جزء ضئيل من محتويات تلك الحقيبة التي ضمّت كذلك مقاطع نثرية جمعت لاحقاً في "كتاب اللاطمأنينة" (أو اللادعة أو القلق). تعددت الترجمات العربية لهذا الكتاب، وقد تمّت عن لغات وسيطة، واستقطبت قراء كثيرين على الأرجح، تجولوا في صفحاته عشوائياً كمن يتنزّه في أزقة مدينة مفقودة. قد يقال إن فيه لغةً وبنية جديدتين تحاولان، رغماً عن تمزُّقهما، الإمساكَ بالشتات الهائل من الأفكار والأحاسيس. لكن كيف سيبدو العالم في ناظري شخص لا عزاء له، محروم من اليأس ومحروم من الأمل؟
-قلبي دليلي-
ارتاد الروائي فؤاد التكرلي مقهى صغيراً، هادئاً وأنيقاً ومنزوياً، منسجماً وطباعه، قرب مكتب الخطوط الجوية التونسية، مقابل فندق الشام في دمشق. كان يتردّد على دار المدى في عين الكرش حيث كنتُ أصادفه، والمسافة الفاصلة بين مكتبه هناك وبين المقهى قصيرة ولا يرهقه قطعها مشياً. لعل فضولي تجاه التكرلي يعود إلى قصة سمعته يرويها، ذات مساء دمشقي بعيد وممطر في كانون الثاني، مسترجعاً خوفه من الأمطار الغزيرة في طفولته، لأنه لم ينسَ منزلاً انهار أمام عينيه تحت وابل السماء. كنت قد سمعتُ إن التكرلي لن يعود إلى بغداد التي عمل قاضياً في محاكمها وقتاً طويلاً، وسمعتُ عراقيين في منفاهم السوريّ يتداولون ما لا يسِرّ عن ترؤسه لجنة جائزة من جوائز صدام حسين للأدب. كان مثل هذا اللغط متفشياً بين المنفيين تضخّمه نمائمُ المقاهي والسهرات. كان الروائي المسنّ "رقيق الحاشية، لدن معاطف الكلام"، إذا استعرنا كلام القدامى، يزوره صديقه الروائي مهدي عيسى الصقر، فيتهامسان أو "يتصامتان" في قبو المحرّرين في دار المدى. أتذكره يرتدي قميصاً سكّرياً وبنطلوناً رمادياً مكوياً بادي النظافة يرتفع حزامه الأسود الرفيع اللامع ليحاذي كبده أو أقلّ بقليل، يغيب هنيهة ليعِدّ الشاي، ثم يخرج على الزائر بيد ترتعش قليلاً فيتضح ارتعاشها الناعم وهي تحمل كأساً رقيقاً ضيق الخصر من الشاي الخفيف. كان حليقاً يقظاً وابتسامته يشوبها القلق. ذات ظهيرة، كنت قد اشتريت من مكتبة الدار في الطابق الأول ترجمة بسام حجار لقصص ج. د. سالينجر، بدلاً عن نسخة أولى ضاعت في باص الليل على الطريق إلى حلب. أثناء نزولي إلى القبو لمح التكرلي الكتاب في يدي، فاستوقفني على الدرج مستأذناً ليطلع عليه. كانت كياسته مربكة أحياناً. تصفّح الكتاب وسألني من أين اشتريته، ثم قال إنه سيعيرني كتاباً آخر لسالينجر. في اليوم التالي، أتاني بالكتاب الممتع "عشر قصص" المنشور في بغداد، بترجمة ملكة أبيض ومراجعة زوجها الشاعر السوري-اللوائي سليمان العيسى. كان التكرلي يحب مذكرات لويس عوض وترجماته للأدب الإنكليزي، ولسبب أجهله زودني بكتاب آخر هو مختارات قصصية من الأدب الإنكليزي، بترجمة إبراهيم عبد القادر المازني الذي لم نكن نعيره بالاً خارج المناهج المدرسية. صوّرتُ الكتابين اللذين كان العثور عليهما في دمشق مستبَعداً، لكنّ التكرلي اختفى فجأة، ولم أرَ له أثراً. علمتُ لاحقاً بوفاته في عمّان. وُوري الكتابان المستعاران في عتمة صندوق من صناديق مكتبتي في حي ركن الدين الدمشقي. في نهاية ترجمات المازني، على الورقة الخالية التي تبثُّ صفرتها في النفس ضيقاً وحناناً، كان الراحل قد كتب بخط يده ""أنا قلبي دليلي"، ليلى مراد على الراديو، 1949". إلى أي إذاعة كان يستمع الشابّ فؤاد التكرلي، مستلقياً في ليل العراق؟ هل أحلم أم أتذكّر؟
-المسافرة الأمريكية-
ترجم المازني في تلك المختارات القصصية "أربع مقابلات" لهنري جيمس. في هذه القصة محفظتان أو حقيبتان كبيرتان مليئتان بالصور تخصّان الراوي، ابن السيدة صاحبة الدعوة إلى حفل الشاي. ابنها "المسفار" العائد من أوروبا إلى نيوإنغلاند في أمريكا، يضع الحقيبتين على كرسيين تحت مصباح، ويعرض فتحهما على فتاة هادئة انزوت قرب النافذة، فتقبل اقتراحه. الفتاة العانس (هكذا كانت تلقَّب المرأة التي تجاوِزُ الثلاثين من دون زواج في أمريكا الطهرانية، قبل نهاية القرن التاسع عشر) تعمل كمدرّسة وتفكر بالسفر دائماً، لكنها ليست ذات مال، والسفر إلى أوروبا باهظ التكاليف. يريها الراوي في الألبومات مناظر من سويسرا وإيطاليا وإسبانيا، قصوراً وتماثيل، فتسأله "هل رأيتَ هذا المكان؟" أو "وهل سافرت إلى هذه البلاد أيضاً؟" أو "هل أقمت طويلاً في بلدان أجنبية؟" لا تسأم الفرجة لكنها تلزم الصمت، وتعقّب: "لا يعنيني أن أتكلّم، همّي الإنصات". تسمّي الفتاة ما تراه في الصور، لأنها تعرف الأمكنة بعدما قرأته من كتب التاريخ وكتب إرشاد السياح، وأحلامها سوف تدلّها حين ترى على أرض الواقع ما رأتْهُ في الصور. يقول الراوي: "تأتي التجربة وتُرينا ما نحلمُ به".
-صورة جماعية مع شخص غائب-
أتت التجربة السورية الكبرى وجدّدتْ كوابيس العالم. سوريون سكناهم الصورُ، دخلوا مشاهدَ أوروبا التي حلموا بها ليعودوا إلى مشاهد سوريا التي لاذوا بالفرار منها أو أرغِموا على فراقها.
لا أحد يدرك بالضبط لماذا تعود الذكريات وكيف ينبعث الماضي. مصياف السورية، مدينة علاء حمامة الأولى، ليست شرقية ولا غربية. لملم علاء صوراً فوتوغرافية ملتقطة هناك وبعثرها في أرجاء لوحاته، ودفنها أحياناً تحت طبقاتٍ من الألوان. أذكر رياح الصيف في مصياف، والمساء يستدرج الناس من عتمات غرفهم الحجرية وينهضهم عن عتبات منازلهم ليبدأ "المشوار"؛ في منعطف شارع منحدر يشتدّ فيه هبوب الرياح، رأيتُ ملاكماً ودوداً يضرب شاباً تحرّش بحبيبته. كنت ألفّ جذع صنوبرة بذراعي وخشونة اللحاء تحت كفّي، والشمس تُنهي غروبها، وأنا المراهق أراقب شجاراً دامياً في مدينة أحببتها وسئمتُها حين زرتها للمرة الأولى والأخيرة. لا أحنّ إلى مكانٍ لم أضجر فيه. تلك ذكرى لا تصوير لها في أي أرشيف من هذا العالم.
*
كانت العرب تنعت الليل الدامس بأنه "ليل أخضر"، والظلمتان ظلمة الليل وظلمة أعماق البحر. تبدو لي إحدى الحقائب التي تخيّلها علاء جرةً من الجرار الطافحة بالماضي في قاع بحر إيجة (مَغرق الهاربين ومنجاتهم)، يجرفها اليمُّ فتطفو الصور من خلفها كزبد قارب مبحرِ إلى الغرب، أو كذيل مذنَّب متجمد أمام العيون التي لا تستطيع أن ترى حركته لأنّ سنوات ضوئية تفصلنا عنه. حقيبة أخرى تشبه مطحنة تنزّ صوراً فيطيّرها إعصار، كريح الكون التي رسمت دربَ التبّانة في سموات الليل: درب لصوص سرقوا التبن من حظائر الآلهة وفضحتهم الثقوب في أكياسهم. بلاد المنفيين بهذا البعد، سماؤهم بهذا القرب.
*
يقول علاء إن إحدى القصاصات الزهرية الملصقة في إحدى لوحاته هي بطاقة "بلكون للعموم، 75 ق.س" في سينما مصياف التي كان والداه يتردّدان عليها قبل زواجهما، وإن مبنى هذه السينما اليتيمة في البلدة قد تحوّل لاحقاً إلى مطحنة. بالطبع، المتفرّجون على لوحاته في معرضه الأخير "ذاكرة حقيبة"، ربيع هذه السنة، في غاليري أوروبيا في باريس، شاهدوا الصور الفوتوغرافية والأكياس والحقائب الزاهية والفاقعة، ورأوا كيف صوّر الفوضى ولم يرتّبها، أو ربما أوهمهم بفوضاها المنضبطة، محافظاً على حيوية هذا المنطق المفكَّك. يبقى ما تنقله الصور الملصقة إلى سطوح اللوحات عشوائياً كالكلمات في معجم ممزق، وإن كان قد انتقاها بمزيج من الحرص واللهو لأنها جزء تكويني من عمله، وقصقصها وأزاحها وقلَبَها ليدخلها عالماً ليس لها، وإنما عالم اللوحة الذي لا يبدو بديلاً ولا تعويضاً عن عالمٍ ولّى. ربما لملم علاء الصور وجمّعها فلم يجد شيئاً لأن الكثير من المشاعر التي تحرّكها الصور ليس لها أسماء، فتبدّت له هنا خريطة للاضطراب الكبير. للعشوائي جذوره أيضاً، وعلينا بالتأنّي أمامه. كل صورة وجهةُ نظر تختزل تاريخاً مصغَّراً، في هيئة قصة شخصية أليفة قد تعكسُ عالماً بأسره. تلك مرآة المستحيل حيث ترقد أحاسيس منسية. كل شيء هو نفسه ونقيض نفسه وما لا يُحصى من المجازات في الوقت إياه. فمَن يرى في حبة رمل أو حبة تراب الكونَ كله، قد لا ينسى إن هذه الحبة جزءٌ مجهريّ من فتاتِ بيت، أو جزء من رجوع الزجاج في نظارة أمه إلى الصحراء أو ساحل البحر. لا حدود للاحتمالات الفنية في لحظات الريبة الكبرى، ويكاد يكون كل احتمال ضرباً من الاستحالة أو برهاناً على شلل الذاكرة عند التطرق إلى "التعبير الصادق" عن هول ما جرى.
لا أفكّر هنا بالتوثيق، وإنما بفقدان الثقة في مقدرة الصور على نقل أي حقيقة أو أي قصة. دائماً كان القلق. دائماً كان الخوف الذي يشوّش الأيام. يقدم الناجي تاريخه المحطَّم عبر تشظّي الصور، ولا يقترح خيطاً سردياً أو خريطة لهذا المتاه أو لائحة بالمفقودات التي خسرها الناس للنجاة بحياتهم. الأنا تهشّمت، وحكايتها حطام حكايات. ربما سيدرك الفنان أين تكمن قواه أثناء سعيه إلى تعرية الدمار والابتكار من العدم، مصارعاً ما لا يكتمل من قصته الشخصية. زوبعة الأحاسيس والأفكار انتقلت من رأسه إلى يديه ليلصق إلى القماش صوراً ممزقة، ملونة أو بالأبيض والأسود، آتية من ألبومات عائلته وأصدقائه المقرَّبين، أدلائه وشركائه في التذكُّر. إنها محكومة بالمصادفات، وتكاد لا تستعير شيئاً من خارج عالمه الشخصي. أخته، مثلاً، أتته بحقيبة مليئة بصور قديمة للعائلة والأصحاب حين زارت سوريا الصيف الماضي. أمه أرسلت إليه صورة لقلعة مصياف كما تراها كل يوم من نافذة بيتهم، رابضةً في السهل تحت عيون الأهالي. صديقته الألمانية كريستين، وأصدقاء ومعارف وجيران ألمان، زوّدوه بصورٍ من من ألبومات عوائلهم، في فرانكفورت التي استقرّ فيها علاء وصارت بدورها جزء من ذاكرته. صورٌ مقصوصة كهذه قد تخرج من أرشيف أي شخص، حميمة بحوافها المسننة كالطوابع، كأجنحة فراشات محنطة، كالقلامة التي تُبرى من خشب الأقلام الملوّنة. في شواش الصور وتذرذرها تتمرأى الذاكرة، فنراها تشكّل تاريخاً شخصياً مليئاً بالفجوات، مشيرة في نفس الوقت إلى فشل إنساني عام، فكل الأدلّة الوثائق المصورة المسربة عن فظاعات سوريا لم تفلح حتى الآن في مقاضاة مجرم واحد، ولا يزال المجرمون طلقاء، باسمين ومنتصرين، على مسارح الأحداث ومنصاتها. لا شيء أكيداً، وكل تقرير أو تحليل قاطع اليقين يولّد شكاً جديداً، بينما تستعصي دقة التعبير عما جرى، يرافقها عجز عن التفسير لا تكفي لتجاوزه كلُّ التفاسير المتداوَلة.
*
التذكُّر كالضوء مادةٌ أولاً. لكن لم يحسم أحد هذا السؤال: هل الترجمة النهائية لأيّ تذكر صوتٌ أم صورة؟ أما آوى جسد الإنسان صوتاً مهذاراً لا يُعرف له عُمر، يُدفَن مع صاحبه من دون أن يُسمع أبداً، غير أنه لا يكفّ عن التعليق على أي صورة ساكنة تنبثق في ظلمات الجسد، ولولا تلميحات هذا المعلّق البدائي الذي لا يروَّض، ولا يوفِّر شيئاً، لما تحرّكتِ الصور في سريرة الإنسان ولعجز العقل عن استنطاقها. أيكون ما يسمّى "الصدق الفني" هو تدوين ما يُمليه هذا الصوت؟
يقول علاء: "في فيديو قادم، إذا تحرّكت شفتاي نطق جسدي بأصوات الآخرين".
*
لا وجود لصورة لم تتمزّق. فإلى أين ستتجه الإدانة وإلى أين سيمضي الحنين؟ الفن لا يترجم الواقع ولا ينقل الماضي. الرغبة في استرجاع ما مضى ليست غاية بحد ذاتها، تصاحبها حاجة غامضة إلى التذكّر، حاجة إلى الوجود بأي ثمن خارج الابتزاز، حاجة ماسّة إلى تصحيح خطأ رهيب في الوجود داخل الزمان والمكان الخاطئين. ومع الإخفاق المتكرر في استرجاع أي شيء، سواء عبر التذكر أو الصور، يبقى الإحساس بالخسران مهيمناً. الماضي والحاضر مهدَّمان وممزَّقان الآن، متنافران ولا يمكن تركيبهما. تلِفتِ النظرة. لم يُمِتها الرعب ولم يفرّغها، بل أتلفتها الصور حتى أوصلتها إلى عين خاوية تنظر ولا ترى. فأين، إذن، تتخفّى الحقيقة؟ يعلمنا ثربانتس إن الإنسان لن يميّز الحقيقة إذا رآها لأنه لم يعرفها قطّ، ولهذا يبحث عنها، عبر القراءة على الأقل، ويواصل بحثه عنها حتى مماته، قارئاً كل ما تطاله يداه، إذ قد تكون الحقيقة مدوَّنة في قصاصة مجهولة طيّرتها ريحٌ في زقاق.
*
كثيراً ما انتهت طرقات المستقبل بالطفولة. في مشاهد مدينته الأولى، بما فيها من ملامح ريفية-رعوية، يعرف علاء حمامة أين كان ومن أين أتى. قد تُسمعك صورةٌ كوزَ صنوبر يرتطم بسقف سيارة على طريق معبَّدة؛ أو قد تريك أشياء لا تُرى، كاللافتة إلى يمين كراج الانطلاق وقد أسقط الوقت حروفها أو محا طلاءها. هذه مشاهد سابقة على القنابل، قبل انفجار الجنون العظيم في البلاد، قبل ظهور اللاجئين بالحقائب والعربات والمنازل المحشورة في أكياس السماد والخيش، بالحياة المحزمة في صرر من شراشف البيوت. كانت أمهات يحفّضن أطفالهن بقماش أكياس الطحين، وكانت أخوات يطوين أكياس الورق والنايلون، ويخفينها تحت الأسرّة والأرائك، ويصنّفنها وفق حجومها وفخامة ماركاتها. أعرف هذا الولع بالأكياس وتجميعها، صادفته أيضاً لدى سجناء سابقين في معتقل تدمر، وربما تناهت إلى علاء أمثلة كهذه عبر قصص تناقلها شيوعيون معارضون من عائلته.
قد نتساءل، أمام ما اختاره علاء من ألبومات صحبه الألمان: "أهذه ذاكرة ما قبل أوشفيتز وبوخنفالد وداشاو؟" من أرسل هذه الرسالة المضمدة بالألوان، ظرفها مزيّن الحواف بالأحمر والأزرق، مرصَّع بطابعٍ مختوم؟ قدّام صور الأطفال بالأبيض والأسود، في الحرب العالمية الثانية، يفكر الناظر إنهم الآن موتى. الموتُ يصوّر الحياة. الكلاب الشاردة تخاطفت عظام القتلى من العربات. المشاة والواقفون في هذه الصور اختفوا أو ماتوا، تشرّدوا وحرموا من مواصلة أيامهم. كان الأسوأ ينتظرهم في المستقبل: سنوات يتنقل فيها الموت مثلهم من شاشة إلى شاشة.
-الحنين والإبادة-
كيف تُبنى قصتك من فوضى صور مهمَلة ليست لك؟ يحفل الأدب بأعمالٍ تملؤها صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود، من بورتريهات ووثائق ومناظر طبيعية، وحتى بطاقات مواصلات وقصاصات قد تصادَف طيّ الكتب المستعملة. تخبرنا روايات و. ج. زيبالد وجورج رودنباخ إن كلّ سرد ناقص ولا ينتهي. بأي الحيل سنقارب ما يستحيل وصفه؟ هل الأجدى لو رويت الذكريات السورية من الأسفل، من حضيض الزمان، من الأقبية والملاجئ، بعويل صفارات الإنذار وسيارات الإسعاف، بزبد المختنقين بغاز السارين، بغرغرة الغرقى الصاعدة من قعر البحر؟ هل الأصحّ إن الانفجارات كرسّامي الكولاج تدمّر المركز وما يُدعى الوحدة الموضوعية في الفنّ، تمزّق ألبومات الصور وتطيّر مزقها وتلصقها إلى الوحل وطراوة الإسمنت وجبائر الأطراف المكسورة؟ هل الكولاج أسلوب الطفل في التعبير عن نفسه قبل الوصول إلى اللغة؟
في عمل الفيديو آرت المعروض إلى جوار اللوحات، سلك علاء منحى آخر، منتقلاً إلى تخييل بصري لما جرى في سوريا بعد 2011، الصور فيه بمثابة وثائق مجهضة تتراكم في ذاكرة على شكل تابوت ترمز إليه الحقيبة، والفنان يلغي نفسه، إن صحّ التعبير، مقتفياً خطى الآخرين. استعيرت حقيبةٌ من عائلة أحد اللاجئين الذين أتوا من البلقان إلى ألمانيا منذ عقود، سالكاً الدروب نفسها التي قطعها اللاجئون السوريون مشياً. تنفتح هذه الحقيبة في بداية الفيديو فنرى في باطنها مرآة صغيرة مكسورة تعكس للفنان وجهه، وتنغلق في النهاية على شكل قبر تعلوه حفنة تراب معشوشبة. هذا العمل سرّع الزمن، معتمداً تسلسلاً كرونولوجياً تكاد تتلاشى صوره فور ظهورها، بالسرعة التي يستهلك بها الألم من دون أي فسحة للتفكير، أما اللوحات فجمّدت الزمن في فوضى الصور التي ما عدنا قادرين على تثمينها وقراءتها جيداً. جذّاب هذا التضادّ بين المقاربتين، أي سيل الزمن الباطش الذي كثّفتْ فيه دقائقُ الفيديو الخمس أعواماً من الإبادة في سوريا المعاصرة، ومن جهة أخرى جمود الزمن داخل الصور الملصقة إلى اللوحة الباعثة على التداعي الحرّ، كأنها سردٌ ملوَّنٌ بلسان متكلّم متوارٍ ينوّع على ثيمة واحدة هي الحقيبة، تنصبّ فيها وتندلق منها المتطايرات. هكذا تغدو اللوحات معابر وممرات بين عوالم خلت وأخرى ستأتي، وربما ارتحالاً معكوساً وغير منتهٍ باتجاه الماضي، حيث كل لوحة عملٌ على الطريق إلى اللوحة.
رشق الفنان أعماله بالكثير من تلك اللحظات المتباعدات. فلنخترع المعنى إذن. تبدو لي الحقيبة البلقانية، في عمل الفيديو آرت، توأم حقيبة صديق دنماركي: كان يعبئها كتباً صغيرة لتوزيعها على المقاهي والمكتبات والأصحاب، ثم أحتضنها وأجلس في صندوق دراجته الأمامي (الشبيه بصندوق الدراجة التي كان صبية الأفران يوزعون بها ساخنَ الخبز على البيوت، فجراً في شمال سوريا)، وأجوب معه الشوارع وقدماي تتدليان أمام مقوده، وعيناي على سماء كوبنهاغن الملبّدة بالغيم. قصدنا متحف لويزيانا، حيث شاهدتُ تجهيزاً فنياً لحقيبة سوداء وحيدة تدور على الحزام الأسود الدوّار للأمتعة، في مطارٍ لا يتسع لأكثر من شخص واحد، ومع ذلك خشيتُ لهنيهة من أنها حقيبة مفخخة، وقلتُ في سرّي: "ستلصَق بي التهمة من غير بد، لأنني أطلت التحديق بدوران الحقيبة اللعينة في هذه الحجرة الموحشة، وسوف تظهر الشرطة بعد قليل وتعتقلني". أراني صديقي، على الطريق إلى بيته، لوحة صغيرة رشقت بأزرق سماوي، هدية إلى زوجته في عيد ميلادها. الفنّان، "بولوك الدنماركي"، يعلق أطر لوحات خالية، قماشها أبيض أو بيج، إلى جدران مسبح مهجور. حوض السباحة الفيروزي سماء مقلوبة هجرتها الآلهة، تُغطَّى بالنايلون وتُفجَّر في قلبها علبة كبيرة من الطلاء. الرسّام هو الانفجار.
-ريشة على الرأس-
هل سنسترجع أبو مريم، المعلّم في قرية "القورية" على أطراف دير الزور، معلناً انشقاقه وسط تصفير التلاميذ وهتافاتهم بسقوط الأسد نهاية 2011، ثم مباشرته جولةً لاقتلاع صور الأسدين من المدرسة، وحين ينتزع صورةً لبشار الأسد عن باب غرفة الإدارة تظهر تحتها صورة أخرى للأسد الشابّ نفسه؟
مزقة من صورة تظهر فيها سيارات جيب تويوتا، مركبات المخافر، لونها خاكي أو بيج كلباس الشرطة، وضعها علاء حمامة إلى جوار صورة تذكارية من مدرسة ابتدائية، حيث حشد من التلاميذ الموحَّدين بصدرياتهم الخاكية و"الفولار" الكحلي و"السيدارة" الموشّاة بشريط برتقالي. أهي المدرسة إياها التي احتضن في باحتها كرة قدم تغطي نصف جسده الطفل؟ هؤلاء الصغار، حملة المشاعل في مسيرات "طلائع البعث"، ربما وقفت أمهاتهم في الطوابير الطويلة أمام المؤسسات الاستهلاكية للحصول على علبة محارم "كنار" أو علبة من سمنة "النواعير" أثناء الحصار الأمريكي لسوريا في الثمانينات.
ثمة صورة فوتوغرافية لحافظ الأسد داخل صورة أخرى ألصقها علاء إلى قماش واحدةٍ من حقائبه المتخيّلة. "راعي العلم والعلماء" معلق فوق رؤوس التلاميذ في أحد الصفوف المدرسية. الابتسامة على شفتيه، المسبحة في يديه الشاحبتين. كليَّ الحضور كان هذا الشبحُ بسحنته الطباشيرية التي خطف سرطانُ الدم لونها، ويُحتمل ظهوره في أي ركن أو مكان من البلاد. إنه أسطورة تلك الحقبة، حيث كل شيء على ما يرام، ولا شيء على ما يرام. الساعة في معصمه الأيسر متوقفة عن الدوران عند العاشرة صباحاً، وقد منحه كل صباح وعداً جديداً بالأبدية حتى مات.
سيادة الرئيس يحبّ المتنبّي ويحفظ بعض أبياته، وهذا أحدها: "كريشة بمهبّ الريح ساقطة لا تستقرُّ على حالٍ من القلق". بعد الانقلاب الفاشل لأخيه رفعت، يقف حافظ الأسد على شرفة في حي المهاجرين محيياً وفاءَ الجماهير، ثم يرمي ريشة حمامة بيضاء في الهواء، لتتهادى من شرفة الرئيس كأنها تستشرف فيلم فورست غامب. مَن تحط عليه الريشة يتبرع بدمه للأب المريض القائد. متأرجحةً تدنو الريشةُ من رؤوس المتجمهرين، طافيةً فوق غابة الزنود وهدير الحناجر، وكلُّ هتاف يطلقه أحدهم "بالروح بالدم نفديك يا حافظ" تتخلّله نفخةٌ تُبعِد الريشة إلى شخص آخر.
-ملاك موسوليني -
أعداد ضخمة من نسخ الأيقونات والأناجيل والقرآن وزِّعت مجاناً على فقراء العالم بمؤمنيه وتائبيه طوال القرن العشرين. في إيطاليا، أمُّ الفاشية ومصدّرتها، نافس موسوليني بكثافة صوره المسيحَ وأمّه مريم. قبل الحرب العالمية الثانية، كان زعيم الإمبراطورية الرومانية الثانية ماثلاً في كل مكان، صوراً وملصقات وميداليات برونز سُكَّ فيها وجهه وتماثيل نصفية تكشف صدره الروماني العاري.
نهاية التسعينيات في دمشق، بعد حديث مطوَّل عن الواقعية الإيطالية، تحاشى الناقد السينمائي عمار ألكسان الحديث عن السياسة الممنهجة لترويج صور الزعيم لدى الفاشيين، وأظنّه ألمح إلى أن مايكروسوفت وورد وضعت له على كمبيوتره الشخصي خطاً أحمر تحت اسم بازوليني، واقترحتْ تصحيحه إلى موسوليني. لا أستطيع الجزم. الآن، بعدما حاولتُ سدى استعادة تلك الذكرى، يتراءى لي إني رأيتُ في أحد أفلام روسيلليني مشهداً لا يُنسى، لكني لست متأكداً البتة تراها ذاكرتي قد حلمتْ بهذا المشهد واختلقته، أم أنه كان موجوداً بالفعل في فيلم لا أذكر عنوانه: سيدة تتمشى في أزقة روما القديمة، ذاهبة لتصلي في كنيسة سان بيترو؛ تعترضها صورة ضخمة للـ "دوتشه" عند منعطف زقاق خالٍ، فتختلس وحدها التحديق في عينيه، عيني النسر الروماني، ثم تهرع بغتة إلى الكنيسة لتتضرّع إلى الرب وتستغفره وسط زحام المصلّين، في خوف وتلعثم، لإدراكها إنها الآن حُبلى من أيقونة القائد.
أي ملاكٍ بذر نوره وأحبلَ العاقر؟ كيف سال دمع الأيقونات؟ أي معجزة رقرقت العيون بالمنيّ والزيت المقدّس؟ في اللغة العربية، الصورةُ تُخلَق ولا تخلُق، والله يصوّرنا في الأرحام. وفي لسان العرب أبيات شعر تذكر "النعوظ والجحوظ" لضرورات أخرى غير القافية، وتسمَّى الدمعةُ نطفة. في واحدٍ من الإسرائيليات، وهي أحاديث واهية لا يُؤخذ بها ورواها إسرائيل بن يونس (وضعف إسنادها يزيدها سحراً، ويضاعف جاذبية قراءتها)، نقرأ إن الملائكة واحدُهم يولَد من دمعة الآخر، "وقيل إنها نطفةُ خشية وليست نطفة شهوة، فمِن هنالك كثُرتِ الملائكة".