كاوُس الدّمشقيّة، رّواية صدرت عن دار ميارة في تونس 2018، لرّوائيّة قدمت مجموعة أعمال سابقة عن المواضيع التي تهم الإنسان في العالم العربي الذي يتفاعل مع قضايا تخص مصيره ومستقبله. تونس وفلسطين وسوريا والعراق..الخ. ولأني لم أقرأ رّواياتها السابقة فمن الصعب أن أحكم، أو أقيم ما كتبت، ولكني معني برّوايتها الأخيرة كاوُس الدّمشقيّة التي قرأتها خلال الأيام الماضية، فهي رّواية تكشف عن فجيعة الإنسان السوريّ الذي عاش تحت وقع المأساة التي تدحرجت من تظاهرات، إلى ثورة سلميّة، إلى عنف مسلح وإرهاب بأبشع أشكاله وحرب أقليمية شارك العالم كلّه في إدامتها، تهجير وقتل وتدمير مدن ومحو ذاكرة! بل وتكتب تفاصيل وقائع حياته اليوميّة وتقلباته النفسيّة ومعاناته الخاصة التي تتأثر وتشتد قسوتها بحكم ما يحدث من قصف وقتل وتهجير وموت مجاني يستهدف الجميع.
إنّنا إزاء رّواية المتن والهامش، المتن الرّوائي الذي كتبته سلمى اليانقي يقودنا إلى عوالم الهامش الوعر والمثير والظلمات التي تعصف بحياة الناس. ( في ظُلُمات ثلاث) هامش يحتل المساحة الأكبر من الرّواية، هامش حياتي مغلف بعذابات أروى حامد خليل - كاوُس الدّمشقيّة، التي تسرد مذكراتها الموغلة في جحيم المعاناة والموت والتدمير والفقد، حتى يستحيل أن تجد أنّ ثمة إنسان قادر على تحمل كل هذا العذاب، وتحيلها إلى صديقتها التونسيّة، الاعلاميّة والكاتبة أروى العربي، التي " أنّى لها أنّ تتفطّن للسّديم السّاكن في أعماق ممرّضة دمشقيّة طُحنت ذاتُها وأضحت غبارا... ص192" فتحولها إلى رّواية يصعب علينا معرفة من كتبها أصلاً، سلمى اليانقي أم رؤى العربي؟
أبدعت سلمى اليانقي التي أعتمدت بنية المذكرات وتقنية اليوميات والنص الرّوائي الذي لم يكتمل بعد موت كاتبه – قصي، والرسائل المتبادلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي في روايتها، في اجتراح دفقها السرديّ عبر الآنا الساردة من خلال أروى حامد خليل، الممرضة التي تنحدر من عائلة ميسورة، ولكنها تكتشف خيانات أمها وقدرتها المؤلمة على تجاهل أولادها والتخلي عنهم إلى الأبد! لكنها تخشى من تكرار صورة أمها الخائنة عبرها هي أو عبر والدها!.
قدمت الكاتبة عائلة الدكتور حامد، كتعبير صادق وصادم عن الحالة السورية التي يحكمها القمع والاستبداد وطغيان الفساد، فيتشضى أهلها ما بين سجين يدفن في سجن تدمر، لكنه ( يغادر المعتقل جثّة تسير على قدمين برأس تساقط شعره، وعينين تهدّلت جفونهما، وذاكرت تناثرت حبّاتها.. ص 108)، وقتيل منسي، ومهاجر يبحث عن ملاذ يطبب جراحاته وكوابيسه، ومدن مدمرة مغلفة برائحة الموت وعفونة الجثث المتفسخة.
قاريء هذه الرّواية التي تتحدث في مجملها عن سوريا، سيكتشف غياب المكان الشاميّ والبيئة الشاميّة عن الرّواية، ولعل قلة حضور المكان جاء للتعبير عن قتامة الوضع وخطورته، فحُددت حركة أبطالها بين مقهى باب توما في دمشق وعدد من المدن السورية، حماه التي تعلق في ذاكرة كبار السن كواقعة أليمة سرعان ما تتجدد وتعيد فتح القروح التي لم تندمل، أو اللاذقية، وحمص، حيث يلقون حتوفهم مثلما يتلقون صدمة انهيار ثورتهم السلميّة وتحولها إلى كارثة حرب وتدمير وعنف منفلت وتلاشي آمال التحرر من الدكتاتوريّة والاستبداد.
وعلى الرغم من أن الرّواية تتحدث عن المأساة السوريّة، عبر مذكرات شابة سورية تواجه وقائع حياتها المأساوية بمفردها، لكن بعض المفردات التونسيّة، أو تلك التي لم يستخدمها أهل الشام تسللت إلى مذكرات أروى حامد " في المرة الفارطة، أدباشه، صلوحيّتها، الركح، كايك الليمون، الموالي، حذوه، حذوي، حذونا، متصاماً، تمعشت..."
" كاوّس الدّمشقيّة" رّواية جديرة بعناء القراءة والمراجعة، لأنها نبض الإنسان الذي يواجه مصيره عارياً ومجرداً من كلّ شيئ!