فصلٌ من كتاب "غيرة اللُّغات" للكاتب: أدريان ن. براﭬـي Adrián N. Bravi
الصَّادر عن منشورات جامعةِ ماتْشِراتا EUM
كلُّ لغةٍ تعملُ عملَها داخلَ رؤيةٍ وبنيةٍ زمنيَّةٍ خاصَّتين؛ فهي تلوي بطريقتها الخاصَّة أزمنةَ الماضي والحاضر والمستقبل التي يمكنُ أن تُنشِئَ في بعض اللُّغات مُدَداً وتراكيبَ قد تبدو في لغاتٍ أخرى ناشزةً تماماً، إن لم نقُلْ عصيَّةً على الفهم. اللُّغةُ طريقةٌ لرؤية وتأويل الأشياء. بل إنَّها تشكِّلُ سلوكَنا. ولذلك يمكن القولُ إنَّنا نولَدُ ونعيشُ داخلَ لغةٍ أكثر ممَّا داخلَ مكانٍ ما من العالَم. وهذا هو السَّببُ في أنَّ تغييرَ اللُّغةِ إنَّما يقتضي سلفاً تمثيلاً مختلفاً للواقع. ومع ذلك، عندما ننتقلُ من لغةٍ إلى أخرى، فإنَّ جزءاً من تلك النَّظرةِ التي كانت داخلَنا في البداية، تبقى كامنةً هناك كمثلِ أمومةٍ مستترةٍ (خلف هذه اللُّغة الإيطاليَّة التي أكتبُ بها تتردَّدُ أصداءُ صوتٍ هو عبارةٌ عن مجموعةٍ من الذِّكريات والغَفلاتِ التي تنتمي إلى قلعةِ طفولتي). فوق بذور لغتنا الأمِّ تنمو اللُّغةُ الجديدة. ثمَّة حوارٌ باطنيٌّ، وأدوارٌ مختلفةٌ تتبادلُها اللُّغاتُ في داخلنا، ثمَّة شظايا تبقى مُنشِبَةً مخاطيفَها في لغةٍ معيَّنةٍ، ومن الصَّعب اجتثاثها: إنَّنا نحبُّ بلُغةٍ، ونبكي بلُغةٍ أخرى، ونُجري الحساباتِ باللُّغة التي تعلَّمنا ترقيمَ الأشياء بها، ويُهينُ أحدُنا الآخر بأوَّل لغةٍ تعلَّمَها، حتَّى وإن كانت اللُّغات الأخرى تمتلك تلويناتٍ أفضل. بنفس الطَّريقةِ، فإنَّ لغتنا الأمَّ ("أحد أسباب وجودي" كما يقول دانتي في المأدبة) تنشأ فوق بذور لغةٍ أصليَّةٍ وما قبل أموميَّةٍ، متلعثمةٍ وصَدَويَّةٍ(1)، نحملُها في داخلنا وفقدناها على نحوٍ لا يمكن إصلاحُه في نهاية ما يسمِّيه رومان ياكوبسون(2) "ذروة اللَّعثمةِ" الطُّفوليَّة، أو عندَ العبورِ من حقلِ ما قبل اللُّغة إلى حقلِ اكتساب الكلماتِ الأولى. في تلك المرحلةِ الدَّقيقةِ من مراحل وجودنا، بين اللَّعثمة (التي ليست لها أيَّةُ حدودٍ صوتيَّةٍ والتي تشملُ على نحوٍ كامنٍ كلَّ اللُّغاتِ) وبين أوَّل الكلمات المفصليَّةِ، لا يوجدُ ممرٌّ تدريجيٌّ، وإنَّما انقطاعٌ حقيقيٌّ وتامٌّ، وخسارةٌ غيرُ قابلةٍ للتَّعويض لا يمكننا العودة إلى الوراء عنها. هناك، في تلك الهاوية التي تفصلُ ما بين التَّأتأة وبين أوَّل كلمةٍ منطوقةٍ، يتشكَّلُ نسيانُنا الأوَّل وعبورُنا الجذريُّ الأوَّل من حقلِ ما قبل اللُّغة إلى الحقلِ الذي نكتسبُ فيه لغتَنا الأمَّ. الطِّفلُ الموجودُ على ذلك الجانب من جانبَي الكلمة، يقومُ بقفزته الأولى نحو اللُّغة.
في كتابٍ ثريٍّ بما يطرحُه من أفكارٍ، عنوانه صداءاتٌ؛ مبحَثٌ حول نسيان اللُّغات، يتساءلُ دانيال هيلر-روازن ما إذا كان لشيءٍ من اللَّعثمةِ الوليديَّةِ أن يبقى كامناً في لغةِ البالغ: "أيمكن للطِّفل أن يفتتنَ إلى هذا الحدِّ بلغةٍ وحيدةٍ يتخلَّى لأجلها عن تلك المملكةِ اللَّامتناهيةِ، ولكن العقيمةِ في نهايةِ المطاف، التي تتضمَّن في ذاتها إمكانيَّةَ كلِّ اللُّغاتِ الأخرى؟ [...] أهيَ اللُّغة الأمُّ التي، إذْ تستحوذُ على المتكلِّمِ الجديد، ترفضُ أن تتسامحَ في داخلهِ حتَّى مع ظلِّ لغةٍ أخرى؟"(3). تولَدُ اللُّغةُ الأمُّ في اللَّحظةِ التي تتوقَّفُ فيها اللَّعثمة. "كما لو أنَّ اكتسابَ اللُّغةِ"، يكتبُ هيلر-روازن، "لا يكون ممكناً إلَّا من خلال صنيعِ النِّسيان، أو ما يمكن تسميته بفقدان ذاكرةٍ لغويَّةٍ طفوليَّة". من حقلِ ما قبل اللُّغةِ هذا نختارُ لغتَنا الأمَّ وننسى إلى الأبد تلك الأصليَّة التي تشملُ على نحوٍ كامنٍ كلَّ لغاتِ العالَم الأخرى. يمكننا القولُ إنَّ هذا النِّسيان هو مفتاحُ الدُّخولِ إلى اكتساب اللُّغة. ولذلك فإنَّ السُّقوطَ البابليَّ يتكرَّرُ كلَّما اكتسبَ طفلٌ لغةً أمَّاً ونسيَ تلك التي كان قد بدأ من قبلُ بالتَّلفُّظ بها بعدَ الولادة. من دون نسيان تلك الأصوات، تلك الملفوظات، لن يكون هناك أيُّ تعلُّمٍ لأيَّةِ لغةٍ. يكتبُ هيلر-روازن: "لعلَّ هذا الفقدانَ لترسانةٍ صوتيَّةٍ لامتناهيةٍ هو الثَّمن الذي يتعيَّن على الطِّفل دفعَه للحصول على الوثائق التي تضمن له الجنسيَّةَ الكاملةَ في مجتمعٍ وحيدِ اللُّغة"(4). من يدري؟ لعلَّ شيئاً من تلك الأمومةِ البابليَّةِ والمتلعثمةِ قد بقيَ قابعاً في داخلنا (يرى بورخيس، في إحدى مقالاته القِصار، أنَّ الفعلَ الإنجليزيَّ to babble والألمانيَّ babbeln، ومعناهما "يهذرُ"، ربَّما كانا مشتقَّين من كلمةِ بابل، وليس من التَّلفُّظات الأولى لحديثي الولادة). لقد سمحَ ذلك الهذرُ المبهَمُ والذي لا تحيطُ به الذَّاكرة لجميع اللُّغات بالوجود. فقانون تعلُّمِ اللُّغةِ يقتضي ضمناً هذا الشَّكلَ من النِّسيان. إنَّها تجربتنا الأولى، وربَّما كانت صدمتَنا الأولى. فالتَّحوُّل من لغةٍ إلى أخرى، أو من الهذر الأصليِّ إلى اللُّغةِ الأمِّ، يعني أن يضحِّيَ المرءُ بجزءٍ من ذاته: أن ينسى شيئاً لأجل شيءٍ آخر. يُسمِّي دانتي ذلك بلبالاً توراتيَّاً ("والذي لم يكن سوى نسيانِ اللُّغةِ السَّابقة": post confusionem illam que nihil aliud fuit quam priores oblivion)(5) وفي الأنشودةِ السَّادسةِ والعشرين من الفردوس يجعلُ آدمَ يقول: "وخبَتْ تماماً اللُّغةُ التي كنتُ أتكلَّمُها".
أغلبُ الظَّنِّ أنَّنا نحيا من أجل استعادةِ لغةٍ مفقودةٍ ومنسيَّة. ولذلك، أنْ نتعلَّمَ المشيَ والكلامَ إنَّما يعني أنْ نغادرَ العالَمَ السِّحريَّ الذي يحتضنُ ميلادَنا ليبدأ ضياعُنا في الأرض. إنَّ حالَنا لَتُشبه حالَ القطرُس في قصيدةِ بودلير: منفيٌّ على الأرض، يظلُّ في مكانه مصلوباً على ألواحِ السَّفينةِ، سبيَّ البحَّارةِ، بجناحين عملاقين يَعوقانه عن الرَّحيل. فهذا الطَّائرُ العملاق، سيِّدُ السَّماوات والكلمات، هو رمزٌ لمأساة السُّقوط، لمأساةِ شاعرٍ جُرِّدَ من لغتِه، وحُكِمَ عليه بالصَّمت في عالَمٍ ليس عالَمَه. إنَّنا جزءٌ لا يتجزَّأ من لغةٍ تحتوينا وتصفِّدُنا بقواعدِها. نُفينا، كقطرُسِ بودلير، من تلك اللُّغةِ الأصليَّةِ الخاليةِ من القواعد والتي كانت تلفِّعُنا بضبابيَّتها. وها نحن الآنَ مشرَّدون بين اللُّغات، متروكون لِبَلْبالِنا الأبديِّ، غير قادرين، إلَّا بالكاد، على تمييز تلك الأمومة التي تضمُّنا داخلَ صمتِها. إنَّنا عابرون بين اللُّغات، وفي الوقتِ نفسه، معبورون بها.
في عام 1902 كتبَ هوغو ﭬـون هوفمانستال(6) نصَّاً عرفَ شُهرةً واسعةً للغاية، ألا وهو رسالةُ اللُّورد كاندوس. في هذه الرِّسالة، بالتَّحديد، يُخبرُ اللُّورد كاندوس المرسَلَ إليه باعتزاله الكتابةَ، واختياره الصَّمتَ، لأنَّه بات يعتقدُ بأنَّه لا توجد كلمةٌ مناسبةٌ للتَّعبير عن حقيقةِ الأشياء. وهكذا فإنَّه يهجرُ الكتابةَ ويتخلَّى معها عن أيَّةِ إمكانيَّةٍ لإقامةِ أيِّ حوار. فاللُّورد كاندوس قد أدركَ، حاذياً حذوَ طابورٍ من معتزلِي الكتابة، أنَّ أيَّة لغةٍ، مهما كانت دقيقةً، ليست كافيةً للتَّعبير عن الأشياءِ في ذاتها وفي صيرورتها. إنَّه يعي عجزَ الكلماتِ عن مواجهةِ الأشياءِ نفسِها، وبالتَّالي فهو ينتقمُ لوجوده أمامَ اللُّغةِ من دون كلمات. ربَّما كان بطلُ هوفمانستال الوهميُّ هذا واعياً أكثر من سواه لحالته كمنفيٍّ من لغةٍ منسيَّةٍ لم يعد بإمكانه استرجاعَها:
"في كلِّ سنواتِ حياتي الباقية، لن أكتبَ أيَّ كتابٍ آخر، لا بالإنجليزيَّةِ ولا باللَّاتينيَّة: وذلك لهذا السَّبب وحده الذي أتركُ غرابتَه التي طالما أرَّقَتْني لبراعتك الرُّوحيَّة اللَّامتناهية كيما تضعه بما لديك من بصيرةٍ ثاقبةٍ في موضعه الصَّحيح داخلَ مملكةِ الظَّواهر الرُّوحيَّة والمادِّيَّةِ التي تتكشَّف على نحوٍ متناغمٍ لك: ذلك أنَّ اللُّغة التي وقفْتُ نفسي ليس على الكتابة بها فحسب، ولكن ربَّما على التَّفكير بها أيضاً، ليست اللَّاتينيَّة ولا الإنجليزيَّة ولا الإيطاليَّة أو الإسبانيَّة، بل هي لغةٌ لا أعرف منها كلمةً واحدةً، لغةٌ تتحدَّث فيها الأشياء إليَّ صامتةً، وفيها ربَّما ذاتَ يومٍ وأنا في قبري سأجدُ نفسي أجيبُ على أسئلةِ قاضٍ مجهول"(7).
* * *
أدريان ن. براﭬـي: كاتبٌ أرجنتينيٌّ يكتبُ باللُّغة الإيطاليَّة. وُلِدَ في بوينس آيرس عام 1963، ويعيشُ حاليَّاً في مدينةِ رِكاناتي الإيطاليَّة. انتقلَ إلى إيطاليا في أواخر الثَّمانينيَّات لمتابعةِ دراسته، فتخرَّجَ من كلِّيَّةِ الفلسفة في جامعة ماتْشِراتا للدِّراسات وعملَ كأمين مكتبةٍ في الجامعةِ نفسِها حيث كان مسؤولاً بشكلٍ رئيسٍ عن أرشفة الكتب القديمة. في عام 1999 نشرَ روايته الأولى باللُّغة الإسبانيَّة وفي عام 2000 بدأ مشوارَ الكتابةِ بالإيطاليَّة. مُعظَمُ رواياته صدرَتْ عن منشورات Nottetempo في روما. كما صدرَ له كتابٌ للأطفال والعديدُ من المقالات والدِّراسات النَّقديَّة. حصلَ على العديد من الجوائز، وتُرجِمَتْ نصوصُه إلى الإنجليزيَّةِ والفرنسيَّةِ والإسبانيَّة. من أعماله نذكر: "الشَّجرةُ العطشى" 2010؛ "الشَّجرة والبقرة" 2013؛ "الفيضان" 2015؛ "العُرجان" 2016؛ و"غيرةُ اللُّغات" 2017.
* * *
هوامشُ المؤلِّف والمترجم:
1- اللَّفظ الصَّدَويُّ، ويُعرَف أيضاً بتصديةِ الألفاظ أو بالصِّداء اللَّفظيِّ، بالإيطاليَّة Ecolalia (= Echolalia بالإنجليزيَّة)، هو ظاهرةٌ تُعَدُّ من الجوانب البارزة لاضطراب الاتِّصال التي تكون ملازمةً للعديد من الأمراض النَّفسيَّةِ كالتَّوحُّد وانفصام الشَّخصيَّة والصَّرَع، ويتمثَّل بالتَّكرار الذَّاتيِّ واللَّاواعي لكلماتٍ أدلى بها شخصٌ آخر؛ (المترجم).
2- عالمٌ لغويٌّ وناقدٌ أدبيٌّ روسيٌّ من أهمِّ روَّاد الشَّكلانيَّةِ الرُّوسيَّة لجهوده الرَّائدة في تطوير التَّحليل التَّركيبيِّ للُّغة والشِّعر والفنِّ؛ (المترجم).
3- دانيال هيلر-روازن، صداءاتٌ. مَبحثٌ حولَ نسيان اللُّغات، ترجمة أندريا كاﭬـاتزيني، ماتْشِراتا، منشورات Quodlibet، 2007، ص13.
4- المرجع السَّابق نفسُه.
5- باللَّاتينيَّة وترجمتُها: "والذي لم يكن شيئاً، لم يكن سوى الشَّيء الأوَّل الذي جاء بعدَ البلبالِ العظيمِ الذي جلبَ النِّسيان"؛ (المترجم).
6- روائيٌّ وشاعرٌ وكاتبٌ مسرحيٌّ نمساويٌّ كتبَ بالألمانيَّة، من أعماله: "الأحمق والموت" 1894؛ "إلكترا" 1904؛ و"المرأة التي لا ظلَّ لها" 1911؛ (المترجم).
7- هوغو ﭬـون هوفمانستال، رسالةٌ إلى اللُّورد كاندوس، ترجمة مارغا ﭬـيدوسُّو فِرْياني، ميلانو، سلسلة مكتبة ريتزولي العامَّة، 1991، ص61.
[التَّرجمة عن الإيطاليَّة: أمارجي]