ارتبط الاحتجاج بخلل انتاب المشاريع السياسية، والأنظمة التي تحتضنها من خلال العجز عن جسر الهوة بين القول السياسي والفعل المرتبط به. أي غياب الانسجام بين المشروع السياسي والحالة الاجتماعية والاقتصادية، بشكل قد يوحي بأن المجال السياسي محكوم بالانقلاب والارتجاع عن لحظة الخطاب السياسي، مما أفرز في الواقع "حكرة" تلتقي عندها المضامين السياسية والاجتماعية والنفسية، في ظل تنامي الفارق الخرافي دال النسيج الاجتماعي. ونكاد نوافق أن الجهر بالاحتجاج انطلاقا من رسائل وشعارات يروم في الأساس المجاهرة باللا مساواة وانعدام العدالة الاجتماعية، بل و يتعداها إلى "محاكمة" النظام التنموي المتبع، عبر تقييم أداء فعل الفاعل الرئيس سواء كان سياسيا أو اقتصاديا، لدرجة أن الاقتراع السياسي في محطاته العديدة، قد تحول مع تنامي الفشل السياسي إلى مجرد " روتين "، أو تمرين و في أحسن الأحوال أداة ووسيلة يتأبد بها الاستغلال والتمويه خلف أقنعة سياسية، تتفنن في إقبار ووأد الأمل السياسي وإن بدرجات مختلفة .
تدين الحركة الاحتجاجية الحالية في المغرب و منذ حركة 20 فبراير وإلى غاية حملة المقاطعة ضد بعض المنتوجات الوطنية، إلى التحول في نمط و فلسفة الاحتجاج ذاتها، الذي عبر عنه الانتقال من الاحتجاج "الرسمي" المؤطر إما سياسيا أو نقابيا من طرف قوى تشتغل في العلن،أو قوى محظورة،إلى الاحتجاج العنكبوتي الذي يؤطره مجتمع الاتصال والتواصل، وفي هذا إيحاء بانتقال الثقل السياسي من التنظيمات الحزبية والنقابية الموازية لها،إلى مرحلة سيادة الشارع باعتباره فضاء عموميا فاعلا وقادرا على صياغة تصور احتجاجي في أفق تقديم بديله وقوته الاقتراحية. غير أن الالتفاف الذي ميز انتفاضة حركة 20 فبراير من طرف النظام السياسي برمته، والارتجاع الذي عبر عنه مجموع مكونات هذا النظام، قد ولد في تجربة المقاطعة الاحتجاجية نوعا من استيعاب الدرس النضالي، والاكتفاء بالعالم الافتراضي باعتباره أداة يمكن أن تسهم في تكوين كتلة تاريخية قادرة على قيادة معركة نضالية،و هذه المرة بالعودة إلى المطالب المادية المعلن عنها في حملة المقاطعة هاته، بعد أن كانت تجربة 20 فبراير ثورة سياسية تقترح الانتصار لقيم الحرية والمشاركة والكرامة وبتعبير سوسيولوجي دال الحكرة، وبسقف مطالب عالية من خلال إسقاط الاستبداد ورموزه، بشكل أفاد في معرفة طبيعة الحرمان النفسي والشعور بالدونية والظلم واللاعدالة في توزيع الخيرات المتعلقة بالأمن النفسي والغذائي أو الاقتصادي منه والاجتماعي .
إن الحركة الاحتجاجية في صيغة 2011و 2018 تأخذ صفة اجتماعية على مستوى بناء خطابها ووسائلها التي تنحو منحى تدريجياً، يسوغ مقومات كيانه الخاص الذي له قسماته وسماته المعبرة عن جوهره وأفقه الاجتماعي، إذ إن الشك الذي يحوم حول طبيعة وسقف المطالب والإجماع الافتراضي، سرعان ما يرتد إلى وهم "معياري" ينطلق من الفكرة إلى الواقع، وليس نزولا إلى الواقع بغرض صياغة الفكرة،وفي هذا تسقط غالبية الافتراضات النظرية المؤطرة للفعل الاحتجاجي، إن نحن استحضرنا جدوى وفاعلية الخطوات النضالية ونتائجها المرحلية .
لم تتبن الحركة الاحتجاجية الداعية للمقاطعة خطابا أو شعارا، يرمي إلى الجهر بنقد المؤسسات السياسية القائمة، ولكنه رنا ببصره نحو دلالة الفعل الاحتجاجي من خلال منتوجات بعينه، ساعيا من وراء ذلك إلى تقويض "الجشع" الذي ميز هذه العينة من الشركات . وإذا كان البعض يرى أن الكتائب الالكترونية لحزب العدالة والتنمية، هي التي تقف وراء هذا الحراك، فإننا وعلى الرغم من عدم تسليمنا بإطلاقية هذاالتصور، نرى في الخطاب والحركة معا منحى شعبي و غير شعبوي، قد يمتد إلى مقاطعة هذا الحزب سياسي، و ذلك استنادا إلى المؤشرات المقدمة والمتنوعة من طرف رواد التواصل الاجتماعي، سواء برفض الركوب على الحركة ،أو تقديم نقد صريح وواضح للمسؤولين السياسيين البارزين، خاصة من كانت لهم اليد الطولى في تردي الأوضاع، أو في التأسيس لموجة الغضب عبر العديد من القرارات المتخذة من طرف الحكومة "الملتحية"، ولا أدل على ذلك من تحرير قطاع المحروقات ، وإصلاحات التقاعد، لذا فمنسوب التذمر من مسؤولية الحزب "المتأسلم" تتنامى بشكل متزايد داخل الفضاء الافتراضي والمواقع الخاصة به .
بناء على ذلك ؛ تمرغ المقاطعة في حياض كتائب العدالة والتنمية أو بإيعاز منها بعيد بدرجة كبيرة عن المشروع السياسي لهذا الكائن أو لأي مشروع سياسي بديل، فهو بذلك حكر على الجماعة الافتراضية بمختلف هوياتها و منطلقاتها الاجتماعية والمعيشية بالأساس ، و ليس ردا وانعكاسا مباشرا بالضرورة وصدى للبلوكاج السياسي الذي كان وراءه بعض رموز الإدارة واليمين السياسي في المغرب ، الذي يشتغل وفق منطق خفافيش الليل، ونقد الزعيم الحالي " للأحرار" .
في المحصلة النهائية لقراءة المشهد، الحركة الاحتجاجية التي تقف وراء هذا الفعل الاحتجاجي ، مطالبة بتطوير هذا المد، وصياغة أطره الدافعة للإنجاز، وتحويل الأمر من فكرة الرفض والمقاطعة، إلى ابتداع مواجهة احتجاجية حجاجية "دامغة" تكفل في المدى البعيد والقريب بناء رأي عام لها مصداقيته وبرنامج النضالي والحقوقي ، وقوته الاقتراحية القادرة على صياغة مركزه الخاص في موازين القوى والحراك الاجتماعي، دون الارتماء في أي هاجس استعراضي ينطوي على طموحات مرحلية محكومة بتحقيق مطالب آنية، وإنما طموحات استراتيجية لها خطها النضالي في تقوية الجبهة المدافعة عن المجتمع التنموي وقيم العدالة والوطنية الراسخة، ومبادئ المغرب المتنوع الطامح إلى الدخول إلى النوادي العالمية في مؤشرات القوة العلمية والثقافية .
إن سلوك المقاطعة الاحتجاجي يتعالى عن النمطين المعروفين؛ أي الاحتجاج المشروع والمؤطر قانونيا، والذي يتجلى في المظاهرات و الإضرابات المرخص لها ، أو الاحتجاج غير المشروع، أي الذي لا يستند على أي شرعية قانونية ، وهو ما يفيد بأن النص القانوني والذهنية المرافقة لها تبقى متخلفة عن الحرب الاستباقية، وقراءة المتغيرات وعقلها قانونيا وتنظيميا، مما قد يطرح إشكالا عميقا، يتعلق بكيفية ملاءمة النصوص مع المتغيرات الاجتماعية ، ومعانقة التركيبة الذهنية والنفسية المواكبة للتطور الاجتماعي في ظل مجتمع المعرفة والثقافة و التواصل ، و ليس مجتمع التقنين والتأطير والسلطة الذي يظل أسير هواجس و حسابات المراقبة، والحرص على التفاني في الولاء والطاعة والافتتان و خدمة العلاقات والشبكات السلطوية، وهذا ما يجعل المجتمع القانوني غير قادر بحكم الفلسفة التي تحكمه أن يمارس الحرب الاستباقية تفاعلا مع تطور الوعي والأشكال النضالية المرتبطة به، وذلك ما يجعله قادرا على النمو والتطور. ولا أدل على ذلك من وسائل الاتصال والتي عانقت السلطة وبجلت منطقها في الاشتغال، بهدف الحفاظ على "زبونية" غير مفهوم، وعلى علاقات غير تواصلية، لأنها تتعارض في بنيتها ومبدئها مع مصالح المواطن، لدرجة تحول معها الإعلام العمومي في المغرب إلى أداة ذيلية لا تتوفر على مسافة نقدية تجاه السلطة. وتفتقر بالتالي إلى المهنية التي توصلها للانخراط في مشاريع إعلامية مجتمعية. وهو ما يفسر التجاهل غير المسؤول من جانبها تجاه المد الافتراضي، والاستمرار في القفز على قضاياه المعيشية والإنسانية، بل و تقديم مادة إعلامية مريعة تهتم بالرقص واللهو والترفيه المبالغ فيه الخارج عن أي رسالة أو خط إعلامي هادف، حتى يكاد الأمر يعني في استمراريته مشروعا مؤسسا لغاية فرملة و تلغيم أي حركة ثقافية أو مد توعوي يطالب فيه الناس بالمجتمع المنشود ، فهل دبر الأمر بليل ؟،وإلا كيف يعلل استمرار الإعلام المغربي في الخط المناوئ للحركية والفاعلية الاجتماعية التي ميزت العديد من لحظاته، وذلك طيلة عقود ؟ .
إن النقلة التي ميزت الحدث الاحتجاجي والسلوك المرتبط به في ظل حراك المقاطعة، توضح بما لا يدع مجالا للشك أن منسوب الوعي تطور في اتجاه ترسيخ مبدأ السلمية تجاه السلطة السياسية والأمنية. إذ لم ينفك يؤكد على طابعه المغربي الصرف ،الذي لا ينتمي لأي اتجاه أو ايديولوجية عنيفة أو متطرفةأوأجندة خارجية، إذ يتحرك في المجال المشروع الذي تم النصيص عليه في الوثيقة الدستورية لسنة 2011،الأكثر من هذا أنه قدم دلالة مفيدة في معرفة هذا الانتقال، وهي رفض النزول إلى الشارع ، حتى لا يتحول إلى مجابهة واستعراض عضلات ،أو يعطي الفرصة للمقاربة الأمنية لتكرس خيريتها ومنطقها الخاص في تنزيل وتأويل الأحداث بما يساير توجهاته، و من تم يسهل إجهاض المحاولة وامتصاص بريقها عبر التقاط رؤوسها ورموزها والزج بهم في الغرف السوداء والتضييق عليهم في الحياة العامة، ويبدو أن الاستفادة من مسار حراك الريف وجرادة، قد بدا جليا في فهم وتطبيق مقتضيات العمل وفق الشبكة الافتراضية وفلسفة توجيها وحبك خيوط تحركها ، التي استطاعت فيها التفوق على العمل النقابي و تجاوزه، وقد لا نغالي إذا قلنا تحييد دوره، بفعل هزالة الثمن الاجتماعي للحوار الذي عجز عن تقديم ما من شأنه تطوير الحركة الاحتجاجية، وتقوية سبل مناعتها من أي اختراق سلطوي أو سياسي معين. هذه المهمة التي أنيطت بالحركة النقابية ومنذ الاستقلال وبإيعاز من الظروف المحلية والدولية، أسهمت في تمييع العمل النقابي وأردته موسميا بفعل ارتباطه بالأحزاب السياسية وهواجسها، وبمنطق اشتغال السلطة وقدرتها على موضعة الحركة في سياق محدد من الفعل النضالي، ويتضح في هذا السياق أن زيادة 600درهم إبان موجة الانتفاضة التي تزعمتها حركة 20 فبراير ، قد تمت بعيدا عن المركزيات النقابية من أجل شراء السلم الاجتماعي، ونفي دورها في الحراك السياسي والاجتماعي، مخافة تقوية هذا الحزب أو ذاك، أو بلغة أدق تقزيم الأحزاب ونفي دورها الريادي في العملية الاحتجاجية، في أفق إنزال هيبته الانتخابية، بشكل بدت معه المركزيات النقابية متواطئة بدرجة وبأخرى في التحايل والخداع السياسي بعيدا عن الاقتناع الحقيقي بإصلاح وإرساء العمل التنظيمي والاجتماعي المتين .
أبانت الحملة عن وعي سياسي باهت يرقى إلى الضحالة والضعف الذي قل نظيره، قد يعين بذلك على فهم صعوبة تنزيل " القيم " الإيجابية في الوثيقة الدستورية، إذ إن مصطلح "المداويخ" بدلالته الاجتماعية والنفسية التحقيرية، تفيد بأن فعل الاحتجاج هو نتيجة مرضية لعينة كبيرة من المرضى النفسيين "الهبال بالمعنى الدارج أي الحماق"، وهي امتداد لذهنية ثقافية حسبت الاحتجاج عقوقا وعصيانا و"كفرا" سياسيا، ولا أدل على ذلك من جملة النعوت التي وصفت بها المعارضة في المجال الحضاري الإسلامي، من قبيل السوقة والرعاع والسفلة وأراذل القوم، والدهماء والهمج والأوباش والمارقين والأصلاف و الأجلاف والعصاة، وهي كلها نعوت تستصغر الحق في الاعتراض، وتسفه الرأي والحلم في غد أفضل، وفقا لذلك قد يذهب الاعتقاد إلى أن النخب السياسية أو بلغة واضحة "العقلية التقنوقراطية" لا تعقل ما تصنع، وليس لها من الدربة والخبرة مما يعينها على الخوض في السياسة وتدبير القول داخل مجالها، الذي يعد مجالا لا شيء فيه على السجية. كل الإشارات والإيماءات تحمل خطابا، تقدر فيه الخطوة بألف ميل، ولا حاجة للتذكير بغياب وتغييب الاستقالة بفعل خطأ فادح في سوء التقدير والقول والأدب، إذا لأمر موكول إلى الثقافة الحاملة للمشروع السياسي، فكيف بمن لا يحترم تعدد المغاربة، اختلافهم، تعددهم، الذي من المفروض أن يكون معطى سيادي وعامل قوة، إلا إذا كان القفز على السياسة لممارستها بغير منطقها، وفي أحسن الأحوال غياب المحاسبة وربطها بالمسؤولية، مع العلم أن بعض الأحزاب لا تعلم في السياسة إلا يومياتها وليس فلسفتها و أفقها ومرجعيتها النظرية. كما أننا في حاجة للاقتداء بنموذج معين في حسن الأدب، ما دامت المدرسة علمتنا قيمة من لا يستحي يصنع ما يشاء.
لا تقتصر الآفة على غياب الثقافة السياسية المنظمة للقول السياسي في ظل التفاعل السلبي مع حملة المقاطعة، حيث تصل إلى خرافة الردود، بموجبها تم النهل من القاموس الديني وأضحى على أساسه المغاربة خونة حين يقاطعون، ووطنيون شرفاء حين تداس أم كرامتهم بالنعال، وكأن الوطنية تقاس بالحليب، وتراب الوطن أكياس منمقة في القيمة والحجم، مكتوب عليها رحم الله من شرب وسكت وتجرع مرارة العيش و تضرع لله أن ينصر حليب الوطن وزبدة الوطن وقشدة الوطن ومشتقاته، الوطنية أن يمرغ الأجر والمدخول في سياسة التقشف وتصبح صناديق الدولة خزانا لا ينضب بإشارة من الرغبة في تنظيم تظاهرة كأس العالم، آنذاك تتحول الدولة إلى بلد الرفاه المالي والخزائن التي لا تتوقف . أليس في الفعل ازدواجية في المعايير ؟
لا نشك أن ردود الفعل تجاه الحملة تنتمي في صيغها ومضمونها إلى عوالم سريالية في التقدير على مستوى الخطاب والتصرف ، و غياب التواصل والتفاعل في القضايا الوطنية والمصيرية، بل ما العيب في الإنصات لنبض الشارع، أحلامه وواقعه؟ وأين القوة في تجاهله والإعراض عنه تحقيره والتعالي عليه؟
أليس المشروع التنموي والسياسي والاجتماعي للدولة ومنذ الاستقلال في حاجة ماسة وملحة وحضارية لإعادة صياغة المؤسسات برمتها؟