مرةً أخرى تعود الدراما السورية في هذا العام، لتتلقى سهام النقد، من قبل أغلب المهتمين والمتابعين للحدث الدرامي، نقدٌ طال أهم وأفضل الأعمال وحوَّل بعضها إلى مادةٍ للسخرية والتهكم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض البرامج الكوميدية. لذا نجد اليوم عدداً كبيراً من جمهورها قد آثر العودة الى ماضيها الجميل، حين كانت بأوجها وألقها، لمشاهدة أعمالٍ قديمة تحظى بقيمةٍ فنيةٍ جيدة.
دراما خارج سيناريو الواقع
حاولت معظم أعمال الدراما السورية في الآونة الأخيرة التغريد خارج سرب الواقع السوري، لتحاكي ظروفاً وأحداثاً وأمراضاً تعيشها المجتمعات المثالية في أوقات السلم، بينما غفلت عن ملامسة معظم الأمراض والكوارث التي أفرزتها الحرب.
أعمالٌ ترصد حالات البذخ والثراء في المجتمع، تم تصويرها في أماكن فارهة وبيوتٍ واسعةٍ فخمةٍ، في وقتٍ أصبحت فيه معظم عائلات المجتمع السوري تعيش تحت خط الفقر، ويسكن بعضها في بيوتٍ مقفرةٍ ضيّقة، وأحياناً في غرفةٍ واحدة تضم عائلتين وأكثر.
تتحدث معظم الأعمال عن مشاكل الشباب في الحب والزواج وفشل الدراسة، وتغمض أعينها عن معاينة همومهم اليومية التي ولدت في سنوات الحرب، كهموم الهاربين من معارك القتال أو المنخرطين فيها رغماً عنهم، والمتوارين عن الأنظار خوفاً من اعتقالهم أو سوقهم إلى الخدمة العسكرية، والذين تم سحبهم من الحواجز إلى الجبهات وماتوا قبل أن يتعلموا لغة السلاح. قد يقول قائلٌ إن لسلطة الرقابة دوراً في منع الدراما من رصد ما سبق، ولكن أين هي من الواقع الإنساني الحياتي الذي تعيشه أغلب شرائح وأطياف المجتمع ويراه القاصي والداني؟
يمكن القول إن بعض الأعمال حاولت أن تلامس شيئاً من جوانب الواقع (من وجهة نظرها) فتناولت مواضيع عامة كالفقر وأحوال النازحين ميسوري الحال وجزءاً من آلام الناس ومعاناتهم مع بعض مافيات وسلطات الحرب والمتنفذين.
ولكن ذلك التناول كان، برأي البعض، خجولاً وسطحياً وهامشياً، يتجاهل كوارث وأزمات كبيرة وصورته لا تشبه ما نراه في حياتنا اليومية، أما الممثلون فقد كانوا بعيدين عن شخوص الواقع حد التناقض، مشهدٌ يؤكد أن صناع تلك الدراما مغتربين عن الواقع ولم يلامسوا حقيقته ومأساته عن كثب. حتى اليوم لم نجد مسلسلاً رصد معاناة النازحين بشكلٍ متكاملٍ وحقيقي، في مساكنهم البائسة داخل (شقق العظم) ومراكز الإيواء، أو تناوَل موضوع التحرش الذي تعرضت له بعض النساء والأطفال هناك.
أين أعين الدراما من رؤية أطفال الشوارع المشردين والمتسربين من التعليم نحو التسول وسوق العمل المليء بالمستغلين والوحوش؟ ماذا عن العصابات التي تقوم بتشغيل الأطفال بأعمال التسول والسرقة ونقل المواد الممنوعة، لتحوّلهم إلى كتلةٍ من الأمراض وتجعل منهم مشاريع مجرمين؟ ماذا عن النساء اللواتي يفترشن أرصفة دمشق، في مشهدٍ بات مألوفاً، ليبعن على البسطات بضائع بائسة توفر لهن لقمة عيشٍ مريرة؟
دراما تفتقر إلى المهنية ومقومات الفن
بنظرة سريعة على مسلسلات هذا الموسم سيبدو واضحاً حجم تردي المستوى الفني والمهني لمعظم الأعمال، نصاً وأداء وإخراجاً، وهو ما أبعد بعض الأعمال السورية خارج مضمار المنافسة الرمضانية لتحل مكانها أعمال مصرية وخليجية حققت شروطاً فنيةً أفضل ولاقت قبولاً من قبل محطات العرض.
يتحدث المسلسل الكوميدي “الواق واق” (للكاتب ممدوح حمادة والمخرج الليث حجو) عن سبعة عشر رجلاً وامرأة غرقت سفينتهم فاجتمعوا على جزيرةٍ منعزلة محاولين بناء مجتمعٍ مثالي. بالرغم من أن العمل يحظى بمشاهدةٍ كبيرة، لكنه لم ينج في أعين النقاد، كونه لم يأت بفكرةٍ جديدة– الفكرة تم تناولها كوميدياً وتراجيدياً عبر أعمالٍ غربيةٍ وعربيةٍ، منها فيلم” البداية” ومسلسل “في اللا لا لاند”.
أيضاً تنحو بعض شخصيات المسلسل نحو التهريج والسذاجة، وبعضها الآخر يبدو فنتازياً أو قادماً من كوكبٍ آخر، كما أن تكرار معظمها لثيماتٍ تعبيرية إيمائيةٍ وفكاهيةٍ وترديدها لعباراتٍ ومفرداتٍ، تُبرز من خلالها هويتها الكوميدية، قد منحها صفةً وصبغةً نمطيةً، تُذكرنا بمواقف وأداء (كاركترات) شخصيات مسلسلاتٍ أخرى حملت توقيع الكاتب ذاته، وهي سمة باتت مستنسخة في بناء شخصيات ممدوح حمادة.
تمر أحداث العمل بشكلٍ رتيبٍ ورتمٍ بطيء ينقصه التصعيد والتجدد، تُعاد فيه بعض المواقف والحوارات والدعابات بشكلٍ ممجوجٍ وممل يُظهر عجز معظم الحلقات عن خلق تنوعٍ وتميزٍ في محتوى قصصها. من جهةٍ أخرى، يتساءل البعض كيف لهذه الجزيرة المعزولة أن تتوفر فيها كميات كبيرة من الأطعمة المعلبة والأواني المتنوعة والفرش والأغطية وبعض متطلبات العيش الرغيد وأشياء أخرى؟ هل يمكن لهاربٍ من الغرق أن يصطحب معه كل تلك الأشياء؟
يحاول المخرج ايجاد مَخرجٍ درامي، فيرينا أن البحر قذف إلى الشاطئ ببعض صناديق المعلبات، لكن هذا، برأي البعض، لم يكن إقناعاً درامياً كافياً لحضور معظم متطلبات الحياة إلى شاطئ الجزيرة في زمنٍ قصير.
صُنف المسلسل الواقعي “فوضى” (للكاتبين حسن سامي يوسف ونجيب نصير والمخرج سمير حسين)، من ضمن أفضل مسلسلات هذا العام، لكنه رغم ذلك لم يكن عملاً متكاملاً وتلقى بعض الانتقادات، فهو يفتقر إلى التنوع في الحدث والحبكة والصراع، حيث تتشابه معظم خطوطه الدرامية ومسارات شخصياته وصراعاتها، لتبدو قصص ومعالم تلك الشخصيات مطابقة لبعضها البعض في معظم الحلقات.
فمثلاً، يتناول العمل موضوع العلاقات العاطفية عند النساء من خلال أغلب الشخصيات النسائية في العمل، فيُخضعهن بمجملهن لنفس المواقف والظروف، ويظهرهن جميعاً، بما فيهن الفتيات المراهقات، كأنهن يعانين من مشاكل في العلاقات العاطفية والبحث عن الرجل بشتى السبل، لتنحصر جميع أدوارهن وصراعاتهن فقط في إطار العلاقة المعقدة مع الرجال. يتكرر الأمر ذاته في موضوع العلاقة المتأزمة بين الأهل وأبنائهم، إذ يُقحم العمل جميع شخصيات الأبناء في التعبير عن هذا الموضوع، فتحاكي بمجملها واقع الصراعات والخلافات ذاتها التي تقع بين الابن وأمه أو أبيه حول المفاهيم ذاتها كالتربية الصالحة والحياة المثالية وصراعات الأجيال، لتتكرر القصص والمواقف والأحداث بين شخصيات هذا الخط الدرامي، وتبدو وكأنها شخصية واحدة تعيش في بيوتٍ مختلفة.
لا يقتصر موضوع التشابه والنمطية على طبيعة الشخصيات وقصصها، بل يشمل أيضاً لغة وطبيعة الحوار، إذ نجد أن معظم الحوارات تتشابه في مضامينها وفحواها وأحياناً مفرداتها، لتبدو الشخصيات وكأنها تقمصت أحاديث بعضها البعض وتماهت حواراتها فيما بينها، أو تبدو وكأنها تعلمت لغةً مشتركة ونهلت من منبعٍ ثقافيٍ اجتماعيٍ واحد ومدرسة حياةٍ واحدة.
رغم انحدار مستواها الفني في السنوات الماضية عادت دراما البيئة الشامية هذا الموسم بغزارةٍ إلى الشاشات عبر أعمالٍ مترهلةٍ ومتوارثةٍ عن بعضها البعض، لتعيدنا إلى قصص الحارات وصراع العائلات والخلافات النسائية على أمورٍ تافهة، إضافة لبطولات الزعيم والعقيد ورجال الحارة في محاربة الشر لينتصر الخير في النهاية.
ولأن هذه الدراما تحظى بتسويقٍ جيدٍ عبر المحطات اللبنانية والخليجية، واصل صناعها ومنتجوها استنساخ مسلسلاتها كيف ما اتفق وشحنها بأجزاءٍ جديدةٍ، مفضلين المعايير التجارية الربحية على المعايير الفنية والمهنية، على الرغم من إساءة معظم تلك الأعمال للتاريخ السوري وإظهارها للمرأة كجاريةٍ وعبدةٍ لسيدها الرجل، وإظهار الأخير كرجلٍ غوغائي لا يفكر سوى بقيم العرض والشرف، المحصورة عنده بجسد المرأة، ولا يتقن سوى لغة العضلات والخناجر والعنتريات.
“وردة وشامية” عملٌ وحيد حاول الخروج، نسبياً، عن السيناريو المعتاد لأعمال البيئة الشامية، حيث استمد تفرده من كونه مقتبساً عن “ريا وسكينة” الحكاية المصرية المعروفة التي قُدمت سابقاً كمسرحيةٍ ومسلسلٍ، لكن ذلك لم يشفع له ليرقى إلى المستوى الفني المطلوب؛ فهو يفتقر إلى عنصري التشويق والإثارة وتبدو صراعاته وأحداثه متوقعة سلفاً تخلو من عنصر المفاجأة، ليبدو العمل لبعض المشاهدين وكأن “ريا وسكينة” تقتحمان دراما البيئة الشامية.
أما المسلسل التاريخي “هارون الرشيد” العمل الأضخم إنتاجياً، فقد كان حديث النقاد الأول، فهو، بحسب آراء كثيرة، يشوِّه حقيقة تاريخ الخليفة العباسي ويقع في هفواتٍ تاريخيةٍ كبيرة، إذ يتجاهل تناول محطات التطور ومظاهر الحضارة والازدهار التي شهدها عصر الرشيد أو الفتوحات والمعارك التي خاضها الخليفة، لتزدحم الحلقات بقصص النساء والجواري والجلسات الغنائية والمؤامرات المحاكة من أجل النزاع على سلطة الحكم، وذلك على حساب أحداثٍ تاريخيةٍ هامةٍ، ما جعل بعض الساخرين من العمل يمنحونه عنوان “جواري هارون الرشيد.”
يفتقر العمل إلى الغنى والإقناع البصري، حيث تنحصر معظم مشاهده في كوادر داخلية ضمن القصر وأروقته وعبر لقطاتٍ قريبة وهو ما ظهر كضعفٍ إخراجي يتجنب المشاهد الخارجية التي تحتاج إلى جهدٍ فنيٍ تقنيٍ كبير وبراعةٍ في الرؤيا، بالإضافة إلى كوادر بشرية وديكورات ضخمة وإكسسوارات وغيرها. كما يقع العمل بأخطاءٍ مهنيةٍ أخرى منها الأخطاء اللغويةٍ وأخرى تتعلق باختيار ممثلين لا يعبِّرون عن العمر الحقيقي للشخصيات، وليس آخراً الخطأ الذي أثار ضجةً كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، “هارون الرشيد يلقي قصيدةً للشاعر المصري المعاصر هشام الجخ!”
دراما بعينٍ واحدة
يرى كثيرٌ من السوريين، جمهوراً ونقاداً ومهتمين، أن الدراما السورية قد فقدت هويتها، وصار بعضها مسيَّسا وتابعاً، فهي ترى بعينٍ واحدة، عين الإعلام السوري الموالي للنظام، وتنطق بلسانه وتبث رسائله السياسية، وتتبنى الحقائق من وجهة نظره. ففي السنوات الماضية أنتجت أعمالاً كثيرة حاولت من خلالها إظهار جميع المعارضين للنظام كإرهابين تكفيرين أو عملاء أو مغرراً بهم، وحمَّلتهم مسؤولية القتل والخراب والدمار الحاصل في البلاد. من هذه الأعمال: مسلسل “تحت سقف الوطن” لنجدت أنزور، “عناية مشددة” لأحمد ابراهيم أحمد، و”شوق” لرشا شربتجي وغيرها.
واليوم تواصل تلك الدراما مهمتها الإيديولوجية لتطل هذا الموسم عبر أعمالٍ تحاكي سابقتها، من بينها عملان لقيا جدلاً وانتقاداً واسعاً من قبل بعض النقاد والمشاهدين، الأول “روزانا” لمخرجه عارف الطويل، والآخر”يوميات المختار” لمخرجه علي شاهين.
يتحدث “روزانا” عن عائلةٍ حلبيةٍ كانت تملك معملاً صناعياً دمّرته “المجموعات الإرهابية”، التي قصفت المدينة بالقذائف، وخلال نزوح العائلة هرباً من الحرب نحو دمشق، يلاقي كل فردٍ من أفرادها مصيراً مختلفاً، ليتعرض أحدهم للقنص من قبل “إرهابيين”. يرى منتقدو هذا العمل أنه يروج لخطاب الإعلام السوري حول نظرية “المؤامرة والإرهاب” و”الصمود الوطني الأسطوري للشعب في مواجهة الإرهاب”، ويُحمِّل المعارضة مسؤولية ما جرى في حلب من قتل ودمار، بينما يغفل عن تناول موضوع الأبرياء الذين ماتوا جراء قصف الطيران أو الذين قضوا في المعتقلات دون ذنب، كما يتجاهل ذكر البيوت التي دُمِّرت فوق ساكنيها أو التي تم (تعفيشها).
“يوميات المختار”، عُرِّف عنه بأنه (مسلسل كوميدي)، يطل فيه الفنان زهير رمضان عبر شخصية المختار “عبد السلام بيسه” المقتبسة من مسلسل “ضيعة ضايعة”، ليتحدث عن الوضع السوري من وجهة نظر النظام ومؤيديه.
لاقى العمل نقداً وسخريةً كبيرة من قبل بعض المشاهدين، فهو من حيث القالب لا يمت للدراما بصلة، إنما يشبه برنامجاً تلفزيونياً سياسياً، ويظهر الممثل كمقدم برنامج أكثر من كونه ممثلاً.
أما من حيث المضمون فهو لا يخرج عن كونه تهريجاً خطابياً يُقدم دروساً وطنية تلقينية فجة، تستقي مواضيعها من لغة وإيديولوجية الإعلام السوري وتتشبه بنشرات أخباره وتذكرنا بمادة التربية القومية.
يتحدث العمل عن شكل التعايش بين السوريين قبل “الأزمة” بشكلٍ أقرب إلى من يلقي محاضرةً في الوطنية، ويستغل حجم المناطق المدمَّرة في سوريا ليحاول الرقص على جراح الناس، فيطل “المختار” من وسط الدمار في بعض الحلقات سارداً ما فعله “الإرهابيون التكفيريون” وكيف دمروا الجوامع والكنائس والبيوت.
كما يلقي العمل في معظم حلقاته باللوم على السوريين وتحميلهم مسؤولية الحرب الدائرة في بلادهم ومسؤولية تردي الوضع الاقتصادي وغلاء الأسعار، دون ذكر تجار ومافيات الحروب التي نهبت البلاد طولاً وعرضاً.
ولأن مسلسل “ترجمان الأشواق” قد حاول أن يرى بعينٍ درامية أخرى ويبصر شيئاً من حقيقة الواقع، لم يخرج إلى النور.
فقد أثار العمل جدلاً واسعاً بعد منع عرضه من قبل الرقابة التي وافقت على تصويره في البداية. تلك الرقابة التي قمعت أعين وخيال صناع الدراما لم تتوان حتى عن قمع نفسها.
المنع جاء بناءً على اعتباراتٍ سياسية، لأن العمل حاول التطرق للفساد والأحزاب السياسية وتحدث عن شخصيات بعض المسؤولين، ولم يشفع له وجود ممثلين مؤيدين للنظام كعباس النوري وفايز قزق وغسان مسعود وغيرهم.
الهروب نحو الدراما المشتركة
خلال السنوات الماضية هرب كثيرٌ من صناع ونجوم الدراما السورية من محاكاة الواقع السوري بتوجيه بوصلتهم نحو لبنان، لإنتاج ما يسمى بالدراما المشتركة التي تحظى بالطلب والتسويق، فكان لهذه التوأمة تأثيرها السلبي على الدراما السورية إذ خطفت معظم نجوم الأخيرة عن ساحاتهم الفنية وقزّمتهم وحدت من نجوميتهم لتنهض الدراما اللبنانية بفضل جهودهم وعلى حساب نظيرتها السورية، حتى أصبحت بعض الأعمال (المشتركة) تنسب للدراما اللبنانية، من قبل بعض النقاد والفنانين، لمجرد أنها أُنتجت في لبنان وضمت بعض فنانيه، على الرغم من أن كتابها ومخرجيها وأهم ممثليها سوريون.
أنتجت هذه الشراكة أعمالاً تفتقد إلى هويةٍ واضحةٍ أو بصمةٍ فريدة، فعند مشاهدتها ستبدو للوهلة الأولى وكأنها دراما تركية مدبلجة، كونها وبشكلٍ ببغائي تحاول محاكاة وتقمص الدراما التركية والمكسيكية وغيرهما، من حيث حركات الكاميرا وشكل الإخراج واختيار أماكن التصوير وانتقاء الممثلين، فهي تستدرج المشاهد من خلال الحضور الملفت والإطلالات المثيرة لشخصيات العمل، المبالغ في جمالها وأناقتها المفرطة وكأنها في مهرجانٍ لعرض الأزياء، وأيضاً من خلال منازلها وسياراتها المترفة بالفخامة والثراء، فلا عجب أن يحظى مسلسل كـ “الهيبة” بتلك المشاهدة لمجرد حضور نجم وسيم كتيم حسن ونجمة مثيرة كنيكول سابا، ومثله مسلسل “طريق” الذي يضم النجمين عابد فهد ونادين نجيم.
تطل هذا الموسم عبر الشاشات أكثر من خمسة أعمالٍ (مشتركة). بنظرةٍ سريعةٍ عليها ستكتشف كم التشابه بينها من حيث مضمون السيناريو وحبكة الحدث والمشهد البصري، لتتداخل أحداثها في رأس المشاهد ولا يكاد يميّز بين عملٍ وآخر، فهي بمعظمها تتحدث عن حالات الخيانة الزوجية وقصص الحب الخيالية، التي تحدث في مجتمع الطبقات المخملية، بالإضافة لبعض القصص البوليسية التي تحمل طابع الآكشن.
مشهدٌ يؤكد مجدداً افتقار أعمال الدراما المشتركة إلى سيناريوهات ناجحة، تحظى بشيءٍ من الحرفية والتشويق، واعتمادها على المشهد البصري وأداء بعض النجوم لملء الفراغ الذي يخلِّفه ضعف السيناريو، ضعفٌ يتجلى بلجوء معظم الأعمال إلى تقمص سيناريوهاتٍ جاهزة والاقتباس من أخرى أو تعريب قصصٍ مسلسلاتٍ وأفلامٍ غربية، أو اللجوء إلى بعض الروايات والقصص وإعدادها درامياً.
وهذا ما شهدناه عبر فيضٍ من أعمال السنوات الماضية، فمسلسل “تشيلو” اقتبس من الفيلم الأجنبي “عرض غير لائق”، ومسلسل “لو” من فيلم “الخائنة”، بينما اقتُبس مسلسل “نص يوم” من فيلم ” الخطيئة الكبرى”.
يتكرر الأمر في هذا الموسم لنجد أن مسلسل” تانغو” مأخوذ عن المسلسل الأرجنتيني”حب بعد حب”، بينما اقتُبس سيناريو مسلسل “طريق” من روايةٍ لنجيب محفوظ، أما مسلسل “الهيبة” فقد اتهمه بعض النقاد بأن معظم مشاهده مقتبسة من فيلم “العراب”، واتهمه آخرون أنه يحاكي المسلسل الأمريكي “ناركوس” وأن شخصية “جبل/ تيم حسن”، هي ذاتها شخصية “اسكوبار” بطل مسلسل “ناركوس”.
تم تصوير تلك المسلسلات بمحاذاة مخيمات اللاجئين السوريين، المكتظة بأحداث الدراما الملحمية، وفي حاراتٍ وبناياتٍ يقطنها سوريون مهجرون يعيشون كل يومٍ عشرات القصص الدرامية التراجيدية.
لماذا أشاح صناع الدراما المشتركة بوجوههم عن رصد ظاهرة الوجود السوري في لبنان خلال سنوات الحرب، على الرغم من أن هذه الظاهرة يمكنها إنتاج عشرات السيناريوهات المليئة بالأحداث والصراعات؟
أين هم من أوضاع اللاجئين والعمال والمتسولين في الشوارع ومن ظاهرة استغلال النساء السوريات والاتجار بهن وتشغيلهن في بيوت الدعارة؟
يبدو أن الأمر متعلقٌ بسوق العرض والطلب، فالاعتبارات التسويقية الربحية ورؤية المحطات التلفزيونية هما من يتحكمان بخيال الكاتب وكاميرا المخرج، بعد تخلي الدراما عن مهمتها الإبداعية والفنية وتحولها إلى تجارةٍ تحكمها أسواق المنتجين.