جدليّات كأس العالم: ملف خاص
[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدود الدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة. وستنشر النصوص تباعاً]
دنى غالي: هناك الكثير الذي لا يمكن للمرأة فهمه
هناك يانصيب دنماركي يخصّ المراهنات على الألعاب الرياضية الدنماركية وكان قد أطلق سلسلة من الدعايات التي حققت نجاحا كبيرا قبل بضع سنوات تحمل العنوان "هناك الكثير الذي لايمكن للمرأة فهمه". أفلام هذه الدعاية تدور حول زوجات أو حبيبات شابات ينصتن إلى المعلقين الرياضيين أثناء المباريات بينما هن منشغلات بأعمالهن اليومية. تظهر الدعاية بالطبع التصنيف النمطي للجنسين، لهواية الرجل وهي كرة القدم حيث يجتمع الرجال من الأهل والأصدقاء في البيت مع قناني البيرة والبيتزا أمام شاشة التلفزيون مع صراخهم وانفعالاتهم، بينما تدور المرأة بهدوء في البيت وهي تتخيل الصور من خلال سماعها لمايقوله المعلّق، فهي غير حريصة تماما على مشاهدة اللعبة. على سبيل المثال يذكر المعلّق من ضمن المصطلحات الرياضية أن الفريق يوقف باصه أمام المرمى (يقف كجدار) فتتخيل المرأة بينما هي تخيط الثوب دخول باص المواصلات الأصفر الدنماركي المعروف أمام المرمى! هذه الدعايات بطل مفعولها بشكل واضح، (رغم اعترافي أنا عن نفسي بعدم فهمي للكثير بما يخص اللعبة)، إذ بالمقابل يبرز دور الصحفية المراسلة الدنماركية في التغطية هذا العام، والأخرى التي تحتل الاستوديو الثابت مع جملة من المحللين في كوبنهاجن. عدا عن شهرة نادية نديم واكتساحها الساحة أصلا وتصدّرها الأخبار الرياضية، وهي من أصل أفغاني، وتلعب مهاجِمة لفريق كرة القدم الدنماركي للنساء. ولكن ألا تكرّس كرة القدم حقا الروح التعصب وتظهر أسوا ما في الدواخل للمتطرفين! صادفتني تعليقات ذكورية بحتة، رجال هم بالفعل من عتاة الفكر الرياضي السلفي، شوارب تسبّ وتشتم حشر النساء لأنفسهن في المونديال هذا العام. وكأنهن أفسدن عليهم رجولتهم وخيلائهم وهيمنتهم وتفرّدهم.
ولكني حقا لا أفهم مالذي تثيره هذه اللعبة في النفوس! مدير العلاقات العامة لاتحاد الكرة الدنماركي يقول إنه لم يشهد من قبل هكذا حملة شعواء أطلقها الدنماركيون من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وذلك بسبب خسارة الدنمارك أمام كرواتيا حيث صبّ متطرفو كرة القدم جام غضبهم ليس بالشتم والسبّ فقط بل ألحقوها بالتهديدات لنيكولاي يورغنسن الذي كان السبب في خروج الدنمارك من المونديال حين أخفق بتسجيل الهدف الفاصل. اضطر اتحاد الكرة الدنماركي إلى تسجيل بلاغات لدى الشرطة من أجل حماية اللاعب وعائلته. وحين قرأت التعليقات صعقت: يا خنزير، سبب دمارنا، دمرت كل شيء ياخنزير، أنت خرا، يلعنك يا هومو، عَلى الجايات خليك بالبيت. والشأن ذاته حصل مع اللاعب السويدي من أصل تركي- سوري جيمي دورماز بتعرضه لشتائم عنصرية ووصفه بالأرهابي والانتحاري والداعشي إثر خسارة المنتخب مع ألمانيا. التطرف بأشكاله مكروه، سواء القومي أو الوطني، أو الأيديولوجي (أذكر التوجيهات من قبل بعض الشيوعيين في أوائل الثمانينات بمقاطعة منتخب كرة القدم العراقي لأنه فريق صدام وبعدها عدي). المفارقة في هذا المونديال إقامته على أرض الخصم لأكثر من نصف العالم! روسيا وإشكالية مواقفها السياسية مع العالم، كيف تتجاوز الشعوب على سبيل المثال هذه المسألة؟ هل يحسب ذلك لصالح كرة القدم أم ضدها؟ هل نكتشف تركيبتنا المتناقضة كبشر، أم الرياضة قادرة بالفعل على فصل الأمور، على غرار فصل الدين عن السياسة!
ولكن كوبنهاجن تسع لحسن الحظ لفرق أخرى وأمزجة أخرى تستمتع بسحر الصيف وبسمائه المضيئة لساعة متأخرة. أنصرف بسهولة وحالي من حال تلك المرأة في الدعاية منقطعة إلى شأني، في مراجعة صفحات للترجمة قد أنجزتها، وقد لفتت نظري رسالة ترامب الموجهة الى رئيس وزراء الدنمارك التي يضغط فيها من أجل تخصيص ميزانية أكبر للدفاع، بينما أحاول جاهدة لأفهم حملة مثقفي العراق التي أطلقوها في تمجيد اليأس وتعريف قوة اليأس وظلال مفردة اليأس، متمهلة بانتظار أن تتوضح.