الجزء الأول من مقال يبحث في ظاهرة القبيسيات في السياق المجتمعي السوري
يحتدم النقاش، من جديد، في الأوساط الثقافية والحقوقية في سوريا حول “القبيسيات”، مفجراً تساؤلات قديمة، لكنها متجددة، عن ظاهرة عُرفت من منتقديها أكثر بكثير مما عُرفت من قبل صاحباتها المقلّات جدا في الظهور الإعلامي أو من قبل المتعاطفين معها الذين لا يظهر منهم إلا القلة في الساحات الإعلامية. ولكن المختلف الآن هو أن جهة حكومية، وزارة الأوقاف في الحكومة السورية، قد انبرت للرد على “حملة افتراءات ممنهجة ونشر أكاذيب لتضليل الرأي العام وإلهائه بمعارك فارغة لا جدوى منها”1 وفي مقدمة ما ردت عليه الوزارة موضوع القبيسيات، حيث أكدت الوزارة في بيانها “أنه لا وجود لتنظيم اسمه القبيسيات كما أن هذه التسمية التي كانت تعود لفترة معينة لم تعد موجودة الآن، وإنما توجد حاليا معلمات القرآن الكريم مهمتهم تحفيظ القرآن وتفسيره ويعملن فقط في المساجد بناء على معايير وتراخيص ممنوحة من الوزارة ووفق منهج موحد وفي النور2” وقالت الوزارة إن “عدد المعلمات ١٢٠٠ امرأة فقط. مع العلم إنَّ هؤلاء المعلمات لا يتقاضين أي راتب من وزارة الأوقاف وإنما هُن متطوعات ويعملن تحت إشراف الوزارة.”3
فمن هن “القبيسيات” اللواتي يعرف الجميع بوجودهن القوي والمؤثر في المجتمع السوري، وفي الوقت نفسه، تُضطر مؤسسة حكومية بنفي هذا الوجود في محاولة للدفاع عن نفسها، وليس عن “القبيسيات”؟
النشأة
يتفق جميع من يتحدث في هذا الموضوع على أن “القبيسيات” وجدن في أوائل أو منتصف سبعينيات القرن الماضي4 ولكن دون تحديد سنة بعينها لهذه النشأة. كما يتفق الجميع في أن تسمية الجماعة بهذا الاسم يعود إلى مؤسسة هذه الجماعة النسائية وهي المدرسة منيرة القبيسي التي تخرجت من “جامعة دمشق، كلية العلوم الطبيعية، وعملت بعدها كمدرسة لمادة العلوم في إحدى مدارس دمشق، حيث عُرفت بشخصيتها الكاريزمية، وذكائها، وقدرتها على التأثير بمن حولها، وجذبهم للاستماع لأفكارها. ولم تكتفِ منيرة القبيسي بدراستها للعلوم، بل قررت متابعة دراستها بكلية الشريعة الإسلامية في جامعة دمشق”؛5 وأخذت القبيسي عقيدتها الدينية، كما والدها وعمها من قبلها، من الشيخ أحمد كفتارو، مفتي سوريا سابقًا، وشيخ الطريقة الصوفية النقشبندية في دمشق.
وكانت نشأة هذه الحركة في ظروف داخلية معقدة، شهدت أمرين متناقضين:
الأول، تقرّب السلطة الجديدة من التيارات الإسلامية لمواجهة تحديات تثبيت أركان الحكم، وخطب ود التيارات التي استاءت من راديكالية التيار البعثي الذي حكم سوريا بعد حركة 23 شباط 1966، وكان لا بد من استخدام الكثير من البراغماتية السياسية لتثبيت أركان هذه السلطة الجديدة، وكان في مقدمة التيارات التي استهدفتها السلطة الحاكمة التجار وكبار رجال الدين السنة بالإضافة إلى التيارات السياسية النشطة في ذلك الوقت. وكان من المنطقي، ومن السهل أيضا، أن تقوم هذه السلطة بعقد تحالف مؤسساتي مع التيارات الأيديولوجية القريبة منها، القومية والشيوعية، فكان تأسيس “الجبهة الوطنية التقدمية” عام 1972؛ أما التيارات الأيديولوجية المخالفة لها فكان لا بد من البحث عن أشكال شعبوية تضمن، على الأقل، حياد هذه التيارات تجاه السلطة الجديدة، وكسب ودها في أحسن الأحوال. وفي هذا السياق قامت السلطة الحاكمة بنقل أعداد كبيرة من المعلمات والمعلمين الشيوعيين من وزارة التربية إلى وزارات الدولة المختلفة، على الرغم من أن أولئك المعلمات والمعلمين كانوا أعضاء في حزب حليف ضمن الجبهة، التي كان دستور 1973 يضمن لها، نظريا، مواقع متنفذة في إدارة البلاد؛ وكان موقف الحزب الشيوعي السوري الرافض للتدخل السوري في لبنان (1976) ذريعة لهذه الإجراءات التعسفية.
شكّلت هذه الإجراءات الحكومية فرصة ذهبية للمعلمات والمعلمين ذوي المرجعيات الدينية، التي شهدت نهوضا كبيرا بعد هزيمة حزيران (1967)، لملء الفراغ الناشئ في السلك التعليمي، وغصت المدارس بالمدرسات القبيسيات وفق شهادة سيدة6 جذبتها الحركة القبيسية من خلال زميلاتها وبنات حيها، وبتوجيه من مدرساتها القويات.
الثاني، تصاعد التهديد الإخواني للنظام الحاكم، والذي تطور إلى حركة مسلحة تزعمتها “الطليعة المقاتلة” للإخوان المسلمين في سوريا، وانتهت بصراع دموي (1979-1982) ما زالت الأعداد الحقيقية لضحايا هذا الصراع غائبة عن التداول. وكانت حادثة نزع الشبيبيات المظليات لأغطية رؤوس النساء في شوارع دمشق (29 أيلول 1981) علامة فارقة في ذلك النزاع. فعلى الرغم من أن السلاح لم يُستخدم في هذه الحادثة إلا أنها حملت دلالات عدائية كانت أشد مضاضة من القتل بحد ذاته؛ لقد جرت إهانة النساء المحجبات على الملأ ومن قبل فتيات يافعات غُسلت أدمغتهن وهيمنت عليها فكرة واحدة: كل محجبة هي “إخونجية” وعدوة للثورة تجب معاقبتها! ورغم أن المظليات كنّ من أديان وطوائف مختلفة إلا أن هذه الحادثة أخذت بعدا طائفيا كبيرا لم يخفف اعتذار الرئيس حافظ الأسد غير المباشر7 من آثارها، لا سيما بعد منع طالبات المدارس من ارتداء الحجاب في المدارس، فابتدأت حركة تحجب وتديّن في المجتمع السوري كردة فعل لهذه الحادثة، تعزّزت هذه الحركة مع بدء تدفق المال الخليجي من المغتربين السوريين الذين نقلوا جزءاً من ثقافة تلك المنطقة خلال زياراتهم المتكررة لبلدهم.
وفي هذا السياق انتعشت حركة “القبيسيات” وبدأت تتغلغل بين بنات العائلات الدمشقيات اللواتي رغبن بالتأكيد على هويتهن الثقافية الاجتماعية للتمايز عن “أخريات” قادمات من الريف البعيد ليستوطنّ دمشق التي لم تعد تشبه نفسها. وانتشر الحجاب بفعل حركة “القبيسيات” التي انتعشت باحتجابها عن عيون أجهزة الأمن السورية، وركزت نشاطها في المدارس التي أنشأتها وفي “استقبالات” و”موالد” الدمشقيات الثريات.
في هذه الظروف المضطربة نشأت حركة القبيسيات، واشتد عودها بعد أن تعلمت درسا قاسيا خسرت فيه عددا من قياداتها اللواتي التحقن بالإخوان المسلمين فسُجن البعض وغادر البعض الآخر مع من غادروا هربا من بطش أجهزة الأمن، وكان منهن “الآنسة سمية أبو الشامات”. وفي الوقت نفسه كان ذلك الدرس مفيدا لهذه الحركة الفتية: السياسة خط أحمر في سوريا، وبما أنها كذلك فالفضاء المجتمعي فضاء مفتوح لمن يكتشف، أو تكتشف، الفرص المخبأة وراء أبواب أصحاب وصاحبات النفوذ، المالي أو السياسي أو الديني. واستفادت حركة “القبيسيات” من حاجة النظام في سوريا إلى حركة دينية اجتماعية تخفف من النقمة التي تولدت إثر الصراع الدامي مع “الطليعة المقاتلة” ومن ساندها، وسارت منيرة القبيسي على خطى أستاذها الشيخ أحمد كفتارو، الذي أشاد أحد تلامذته بنهجه البراغماتي قائلا: “ففي تلك الظروف اتخذ الشيخ أحمد كفتارو موقف الحكمة في تخفيف حدة العداوة البعثية للدين، وتمكن خلال تلك الفترة من تعطيل قرار إغلاق المعاهد الشرعية وأقنع حافظ الأسد بافتتاح معاهد تحفيظ القرآن الكريم، وتمكن الشيخ كفتارو من افتتاح كلية الدعوة الإسلامية وكليات الشريعة وأصول الدين وأنتجت المعاهد والكليات الشرعية عشرات الآلاف من الخريجين والخريجات”.8
كما استفادت هذه الحركة من الصفات المتميزة عند منيرة القبيسي، التي يشهد د. محمد حبش بأن نشاطها قد تميز “بالضبط الإداري، وحسن توظيف الطاقات والجهود.”9
الانتشار
لم تقف الحدود عائقا أمام انتشار هذه الحركة التي وصلت إلى كل الأمكنة التي وصلت إليها منتسباتها، خاصة أن الدفاع عن معتقدات أولئك المهاجرات في بلدان “الكفار” كان صنوا للدفاع عن الهوية التي يُخشى عليها من الضياع في تلك البلاد الغريبة، أما المهاجرات إلى البلدان الخليجية فوجدن بيئة خصبة للتمسك بهذه العقيدة، وإن لم يحظين بفرصة العمل العلني لأن بلدان الخليج، كما سوريا، تحظر النشاطات الاجتماعية، خاصة للوافدين. كما أن “الدعوة” إلى التعمق في دين الله لم تكن أمرا مستهجنا في بلدان “الكفار” التي تنعم بالحرية الدينية لجميع القاطنين فيها، مواطنين ومهاجرين؛ أما بالنسبة لبلدان الخليج فكانت تجربة “التقيّة” (العمل السري)، التي خاضتها القبيسيات في سوريا، مفيدة في البلدان الجديدة، وعلى سبيل المثال استطاعت القبيسيات الوصول إلى الشيخة منيرة زوجة الأمير مشعل بن عبد العزيز، وكسبها إلى جانبهن.”10
بقي المركز الرئيسي لحركة القبيسيات في دمشق مكان انطلاقتها الأولى، مكان إقامة “الآنسة الأم”، منيرة القبيسي، وكانت مدينة حمص هي المدينة الثانية بعد دمشق في نسبة الانتشار. أما انتشار القبيسيات في البلدان المجاورة11 “فكان في لبنان عن طريق الآنسة أميرة جبريل (شقيقة أحمد جبريل)، المنحدرة من أسرة فلسطينية يسارية، والتي تُعد أقرب الآنسات للشيخة الكبرى. فقد أسست أميرة جبريل الجماعة في لبنان، ومن ثم تركت القيادة لآنسة لبنانية تدعى سحر حلبي، التي نشأت في فترة السبعينات، ودرست علم النفس في جامعة القديس يوسف (اليسوعية)، ثم توجهت إلى دمشق لتتلمذ على يد منيرة القبيسي، وكانت الشخص الأكفأ لحمل عَبء الدعوة القبيسية في لبنان. حتى أنه قد أُطلق على أتباعها اسم “السحريات” من قبل اللبنانيين.
وبعد تأسيسها للتنظيم في بيروت، عملت أميرة جبريل على تأسيس جمعية “بيادر السلام” المعروفة في الكويت عام 1981 م، وذلك بمساعدةٍ كبيرةٍ من يوسف سيد هاشم الرفاعي المرجع الصوفي الكويتي، ومن ثم عملت أميرة جبريل على تسليم مجلس إدارة الجمعية لدلال عبد الله عثمان. ويختلف تنظيم الكويت عن باقي التنظيمات، فجمعية “بيادر السلام” جمعية مرخصة ضمن منظمات وجمعيات النفع العام التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وربما كان الترخيص لجمعية “بيادر السلام” بسبب الانفتاح السياسي النسبي في الكويت. أما في الأردن فقد انبرت الآنسة، ذات الأصول الدمشقية، فادية الطباع لحمل راية الدعوة، وعملت على نشر أفكار القبيسيات في عمان، فاستطاعت بشكل سريع اختراق أهم العائلات في عمان، وأطلق على أتباعها اسم “الطباعيات”، وما يشير إلى أنهن على علاقة بالتنظيم الرئيسي في دمشق، هو اتباعهن لنفس النظام من ملابس وتنظيم إداري وجلسات الذكر، إضافة إلى اهتمامهن بالمدارس والتعليم، حيث تُعد الآنسة فادية الطباع إحدى المساهمات في مدرسة “الدر المنثور” في عمان، والتي تُركز بشكل أساسي على تحفيظ القرآن.
في فلسطين حملت الحاجة فدوى حميّض، وهي من عائلة مرموقة في مدينة نابلس، راية الحركة بعد أن درست اللغة الإنكليزية في العاصمة السورية دمشق، والتي يبدو أنها كانت على اتصال بمنيرة القبيسي أو إحدى الآنسات المقربات منها، خلال تواجدها في دمشق، فعملت على تطبيق هذه التجربة بعد عودتها إلى فلسطين، مع إضافة بعض التعديلات؛ فنرى إحدى الآنسات المقربات من الحاجة فدوى وهي الحاجة رغد الأغبر تقوم بلقاء صحفي لِتردَّ على بعض التهم الموجهة لبنات فدوى، من أن الحركة تمنع الزوجة من التعري والتزين لزوجها، على خلاف ما جرت العادة لدى القبيسيات عند تعرضهن للانتقادات بالرد غير المباشر، من خلال تصريحات رجال دين مقربين منهن. وتنفي الأغبر أي اتصال مباشر مع الحركة الأم، فتقول: “لسنا امتدادًا لأحد على الاطلاق، سواء في سوريا أو غيرها، ولا اتصال بيننا وبين القبيسيات في سوريا وغيرها. أما في مصر، فقد انتشرت عدة إشاعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حول وجود آنسات قبيسيات في مصر يعملن تحت اسم “جمعية الزهروان”، ورئيسة هذه الجمعية شيرين فتحي، وهي زوجة أحد كبار المسؤولين في نظام مبارك السابق. وتسيطر هذه الجمعية على مساجد كبيرة ومهمة يرتادها الأغنياء فقط؛ بهدف جمع الأموال لدعم دعوتهم. ويكمن وجه الشبه بين جمعية الزهروان وتنظيم القبيسيات بأنهما تنظيمان نسائيان ينشطان في المجال الديني النسائي الخيري والتعليمي. لكن لا يوجد ما يثبت أي ارتباط أو تبعية لهذه الجمعية بقبيسيات سوريا، ومع كونها جمعيةً نسائيةً، إلّا أنَّ لديها العديد من النشاطات الموجهة للذكور، ولا تلتزم نساء الجمعية بزي معين وهو أمر في غاية الأهمية، بالإضافة إلى اختلاف البيئة الاجتماعية، والحالة الدينية بين بلاد الشام ومصر، فمن الممكن أن تكون البيئة الاجتماعية المصرية غير مناسبة لنشوء مثل هذه الحركات.”
أما حديثا فلم يكن غريبا خروج عدد من القبيسيات من سوريا بسبب النزاع المسلح الدائر فيها، وأن يبدأن بنشر دعوتهن في مخيمات اللجوء في لبنان، لكن اللافت أن دعوتهن هذه لم تلق القبول والرواج اللذين كانت تلقاهما في الوطن.12 وربما يعود هذا الفتور إلى ضعف في إمكانيات “الآنسات اللاجئات” المادية، أو إلى ظروف اللجوء القاسية التي تجعلهن غريبات حتى عن الجوامع المنتشرة في أماكن تواجدهن، أو إلى انشغال اللاجئات.
العقيدة
الصوفية النقشبندية:
“الصوفية هي مذهب إسلامي وهو منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به، وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات واجتناب المُنهيات، وتربية النفس وتطهير القلب من الأخلاق السيئة، وتحليته بالأخلاق الحسنة. وهذا المنهج يقولون أنه يستمد أصوله وفروعه من القرآن والسنة النبوية واجتهاد العلماء فيما لم يرد فيه نص…”13 وانتشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري ولها طرق متعددة. أما النقشبندية فهي طريقة من الطرق الصوفية، “أسسها الشيخ محمد بهاء الدين شاه نقشبند الذي توفي سنة 791 للهجرة، وانتشرت في آسيا الوسطى وسوريا والقوقاز وبين سنة العراق وكردستان والحجاز وسنة إيران والبوسنة وباكستان“.14
النقشبندية “هي الطريقة الوحيدة التي تدّعي تتبع السلسلة الروحية المباشرة مع النبي محمد… وقد تبنى الشيخ محمد أمين كفتارو لواء النقشبندية في دمشق، حيث قام بتأسيس نواة إصلاحية قوامها العلم الشرعي والطريقة النقشبندية في جامع أبي النور”.15
ويؤكد د. محمد حبش على أن القبيسيات هنّ “صورة دقيقة للمجتمع السوري المحافظ، الدمشقي خاصة، وأن مبادئهن وأفكارهن ليست إلا خطاب المشايخ التقليديين المستمر في اتجاه الخضوع للسلطان منذ خمسين عاماً ولا زال”.16
وأتباع الصوفية “لا يكتفون بأن يوضحوا للناس أحكام الشرع وآدابه بمجرد الكلام النظري، ولكنهم بالإضافة إلى ذلك يأخذون بيد تلميذهم ويسيرون به في مدارج الترقي، ويرافقونه في جميع مراحل سيره إلى الله، يحيطونه برعايتهم وعنايتهم، ويوجهونه بحالهم وقولهم، يذكرونه إذا نسي، ويقوِّمونه إذا انحرف، ويتفقدونه إذا غاب، وينشطونه إذا فتر”.17
وتقوم الصوفية على آليتين رئيسيتين تستخدمها بغية إيصال من يستهدفهم الصوفيون إلى أعلى مراتب الإيمان؛ وهي: العلم، وبالأحرى التعليم الذي يقومون به لطلابهم، ف “السالك في طريق الإيمان والتعرف على الله والوصول إلى رضاه لا يستغني عن العلم في أية مرحلة من مراحل سلوكه. ففي ابتداء سيره لا بد له من علم العقائد وتصحيح العبادات واستقامة المعاملات، وفي أثناء سلوكه لا يستغني عن علم أحوال القلب وحسن الأخلاق وتزكية النفس”؛18 والصحبة لأن لها “أثراً عميقاً في شخصية المرء وأخلاقه وسلوكه، وأن الصاحب يكتسب صفات صاحبه بالتأثر الروحي والاقتداء العملي”.19 وظهر جمع “العلم” مع “الصحبة” عند عدد من المتصوفين الأئمة، ومنهم أبو حامد الغزالي وابن عطاء الله السكندري.
وتتعزز ضرورة الجمع بين “العلم” و”الصحبة” عند الصوفية النقشبندية للارتقاء بنفس “السالك في طريق الإيمان” من “النفس الأمارة (تميل للشهوات وترغب في اللذات… وهي منبع للشر والأخلاق الذميمة)، إلى النفس اللوّامة (تنورت بنور القلب فهي تارة تقترف المعاصي ثم تندم وتلوم نفسها)، وبعدها النفس المطمئنة (تخلت عن صفاتها الذميمة ووصلت للكمالات)، ومن ثم النفس الملهمة (ألهمها الله تعالى العلم والتواضع والقناعة والسخاء)، فالنفس الراضية (رضيت عن الله وتحقق فيها قوله تعالى: “رضي الله عنهم ورضوا عنه”)، مرورا بالنفس المرضية (رضي الله تعالى عنها ويبدو فيها أثر رضاه وهي منبع الكرامة والإخلاص والذكر ويقال إن السالك في هذه المرتبة يضع الخطوة الأولى في معرفة الله تعالى ويظهر فيها تجلى الأفعال) وصولا إلى النفس الكاملة (صارت للكمالات طبعا وسجية ولا زالت ترتقي في الكمال وتؤمر بالرجوع للعباد لإرشادهم وتكميلهم”.20
وإذا كان الاعتقاد السائد عند العامة من المسلمين بأن “من لا شيخ له فشيخه الشيطان” فمن البديهي أن مكانة الشيخ ستكون عند الصوفيين، عامة، والنقشبندية منهم خاصة، ستكون مكانة “سامية”، فالتبحر في علوم الدين من أجل الارتقاء بالنفس على درجات سلّم النفس البشرية يحتاج إلى صحبة غوّاص متبحّر في هذه العلوم وذي نفس “كاملة”، أو في طريقها للكمال، وسيكون “الثواب” “ثوابين”، “ثوابا” لطالب العلم و”ثوابا” للمعلم. ومن هنا جاءت المكانة المتميزة للشيخ أو للشيخة، وجاءت حالة الارتباط الكبيرة بين الشيخ والمريد. “ومع أنَّ الطريقة النقشبندية قد بالغت في هذه العلاقة، إلا أنَّ القبيسيات بشكل خاص، وصَلْنَ بها إلى درجة كبيرة من الغلو”.21
مكانة استثنائية لـ “الخالة الكبيرة” ومن بعدها لـ “الآنسة”
كما جرت الإشارة من قبل كانت منيرة القبيسي تلميذة للشيخ كفتارو وأخذت الطريقة النقشبندية الصوفية عنه، وهذا ما جعل لها مكانة استثنائية عند كل من كانت من جماعتها، وساعدت صفاتها الشخصية في جعل ولائهن لها ولاء غير مشروط، فهي القدوة التي يتمنى الجميع أن يتشبه بها وأن يجتهد يقترب من صفاتها.
و”تحتل الشيخة الكبرى، أو الآنسة الأم، منيرة القبيسي أعلى مرتبة دينية في هرم الجماعة التنظيمي؛ مما يمنحها صفة التقديس المبالغ فيه إلى حد التأليه، فهي الوسيط لدى المريدات، والطريق للوصول إلى الله.”22
وكان هناك الكثير من المبالغات في إضفاء صفات “قدسية” على الشيخة الأم، فلم تكن منيرة القبيسي لتغيب لحظة عن مريداتها، خاصة في اجتماعاتهن، “ومن أقوالهن الشهيرة: شيختنا لو كنَّا أينما كنَّا فهي معنا لا تُضَيِّعُنا. ومع انتشار تلميذات القبيسي في بلدان مختلفة، أصبحت زيارة الشام عندهن واجباً مقدساً. لدرجة أنهنّ أطلقن على زيارة الشام اسم “رحلة كعبة المعاني.” وللقبيسيات عند مقابلة الآنسة أو الشيخة الكبرى دعاء خاص وهو “اللهم اجمعنا على ألمها واجمعنا على أملها”.23
وضمن هذه المبالغة بتقديس الشيخة الأم تقول لمى راجح: “غير أن ما أثار دهشتي هو اعتقاد الطالبات بمقدرات “الخالة الكبير” الروحية؛ فما زلتُ أذكرُ كلام إحداهن عندما قالت لي: “الخالة تستطيع قراءة أفكارنا…”، وحذرتني من تحدثي في سري عنها، لأنها ستسمع ما أقول، والغريب في الأمر أن باقي الطالبات أكّدنَ كلامها. وكما اعتقدت الطالبات أن الله كشف الغيب عن “لخالة الكبير”؛ فقد اعتدن أن يشاورنها علّها ترشدهن لما سوف يأتي في الامتحانات النصفية والنهائية، حيث تقوم بإمساك المقررات المدرسية والجامعية، ومن ثم تغمض عينها وتتمتم بعض الآيات، لتفتح بعد ذلك تلك المقررات، وتحدد الفقرات التي سوف تأتي الأسئلة منها.24
وبما أن الآنسات هن ممثلات “الشيخة الأم” فسيكون لكل منهن نصيب كبير من هذه النظرة التقديرية الخاصة، والتي غالبا ما تضيف إليها المريدات قليلا من الصفات التي يجب أن تكون خاصة ب “الشيخة الأم”، وينسحب “التقديس” إلى “الآنسات” اللواتي يأخذن بيد الطالبات للوصول إلى الله، فقد ورد في دراسة سلام إسماعيل25: “كما نجد أيضًا العديد من الشهادات لمنشقات عن التنظيم يتحدثن عن المبالغة في تقديس الآنسات، فعند دخول الآنسة للدرس تتسابق الحاضرات لتقبيل يدها وتبجيلها، حتى عندما تشرب من كأس الماء فإن ما يتبقى من كأسها طاهر؛ ومن تشرب من بعدها تكون صاحبة حظ سعيد”.
ولا يعني “التقديس” إسباغ الصفات الإيجابية الكاملة والقدرات الخارقة على “الآنسات” فقط، بل يستتبعه، منطقيا، “تقديس” كل ما تقوله “الآنسة” وكل ما تقوم به أيضا، وكأننا نقوم باستنساخ مسيرة الأنبياء مع أن هذا الاستنساخ مناقض بالأصل لفكرة تفرد الأنبياء وخصوصيتهم.
الابتعاد عن السياسة
جرت القبيسيات على عادة المتصوفة النقشبندية في سوريا بالابتعاد عن مناهضة الحاكم، وأحيانا الدعاء له من فوق المنابر، وهذان الأمران، عدم مناهضة الحاكم أو الدعاء له، هما موقفان سياسيان بامتياز. وعلى الرغم من ذلك فالحكم بشكل قطعي على المواقف السياسية للقبيسيات يبدو أمرا معقدا للغاية، خاصة في بلد مثل سوريا حيث العمل بالسياسة يعني مخاطر لها أول وليس لها آخر. وخبرت القبيسيات تجربة مريرة عندما انخرطت بعض العضوات مع الإخوان المسلمين خلال النزاع الدموي مع السلطة، وكان نصيبهن مثل نصيب الآلاف من السوريات والسوريين: الملاحقة والاعتقال والموت أو الهروب خارج البلاد.
وعلى الرغم من اشتداد القبضة الأمنية بعد انتهاء هذا النزاع الدموي إلا أن تلك القبضة الأمنية كانت قد هيمنت على الحياة في سوريا منذ قيام الوحدة بينها وبين مصر عام 1958 عند تأسيس “الجمهورية العربية المتحدة”، حيث جرى حل جميع الأحزاب والجمعيات غير الحكومية في سوريا، وأصبح حق تأسيس الجمعيات مقيدا بقيود إدارية فرضها قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة (93/1958) الذي ألغى العمل بحق تأسيس الجمعيات وفق مبدأ “علم وخبر”؛ وفوق هذه القيود الإدارية كانت القيود الأمنية التي تجبر كل من يرغب بالترخيص لجمعية بتقديم استمارات أمنية. وبدأت مسيرة الهيمنة على المجتمع واحتكار العمل المجتمعي في سوريا مع استكمال تأسيس الاتحادات العامة والتي تحولت بعد ذلك إلى المنظمات الشعبية، وأخذت إجراءات تشكيل الجمعيات تتعقد أكثر فأكثر خاصة مع المرسوم التشريعي رقم /121/ لسنة 1970 الذي حظر ترخيص أي جمعية نسائية لأن الاتحاد العام النسائي أصبح “الوكيل الخاص” للعمل بين النساء، ومع التعليمات التنفيذية لقانون الجمعيات، رقم (9/ د/ 62) تاريخ 8/8/1974، التي نصت على:
“14-على المكاتب التنفيذية التقيد بما يلي عند البت بطلب شهر أنظمة الجمعيات:
1-رفض طلب شهر أنظمة الروابط والجمعيات والأندية ذات الأهداف المتماثلة مع أهداف المنظمات الشعبية.
2-عدم شهر أي جمعيات نسائية عملاً بالمرسوم التشريعي رقم /121/ لسنة 1970.”
ولم يكن أمام المجموعات النسائية إلا أمران: الاستمرار بالعمل وتحمل مسؤولية عواقبه، وهو ما قامت به “رابطة النساء السوريات لحماية الأمومة والطفولة”، أو “التلطي” خلف الهيئات المتاحة وهذا ما لجأت إليه منيرة القبيسي التي أنشأت حركتها في المساجد، وترعرعت هذه الحركة في البيوت عندما كان التضييق الأمني يشتد عليها وتعود للمساجد عندما يضعف هذا التشديد.
إذا، هل يمكننا أن نتساءل إن كان تأسيس هذه الحركة، بحد ذاته، يحمل رسالة سياسية احتجاجية على احتكار العمل المجتمعي وحصر حق العمل بين النساء بمنظمة ذات توجه علماني (نظرياً)، وعلى ارتفاع الصوت النسائي الذي راح يطالب بمقاربة قضايا النساء وفق المقاربة الحقوقية مع بروز الدعوات الأممية لتخصيص عقد للمرأة (1975-1985) والذي شهد تنظيم ثلاثة مؤتمرات عالمية للمرأة، مع ملاحظة أن ” القبيسيات يشتمن الغرب والحضارة”،26 كما يعتبرن كل دعوة من أجل مساواة النساء استهدافا للأمة وأخلاقها. وفي الوقت نفسه، شهدت سوريا عام 1974 إحداث أول مركز لرعاية الأمومة والطفولة،27 وكان من ضمن مهماته: “تأسيس عيادة طبية لتنظيم الأسرة”، وتنظيم الأسرة يعني، فيما يعنيه، المباعدة بين الحمول وتخفيض خصوبة النساء؛ وفي عام 1975 جرى أول تعديل لقانون الأحوال الشخصية، بموجب القانون رقم 34 لعام 1975، والذي جاء في الأسباب الموجبة له”. انطلاقا من أنه من واجبات الدولة بنص الدستور… رفع القيود التي تمنع تطور المرأة فضلا عن مساهمتها في تطور حياة المواطنين، فإن قانون الأحوال الشخصية الحالي يغدو واجب التعديل بما يتفق وما وصل إليه ركب الحضارة…” وتضمنت التعديلات (السطحية بالنسبة للمنظمات النسوية) السماح للمرأة بالاحتفاظ بحقها بحضانة أولادها إذا عملت! وهنا أيضا يمكن أن يكون تأسيس ونشاط القبيسيات ردا مباشرا على سياسة جديدة للحكومة السورية بدأت بتعديل ما كان يجب أن يكون “مقدسا”، لذلك كان لا بد من التصدي لأية محاولات لاحقة للتعديل يمكن أن يدعم مسيرة النساء السوريات في سبيل نيل حقوقهن الإنسانية.
وعلى الرغم من كل الأقاويل التي تتحدث عن الملاحقات الأمنية، وهي أمر شائع في الحياة السياسية في سوريا وكذلك في النشاطات الاجتماعية التي كانت تجري خارج إطار المنظمات الشعبية، إلا أن الاعتقالات طالت النساء المنخرطات بالعمل السياسي بشكله المباشر، ولم تعرف الموافقات الأمنية على التوظيف تمييزا ضد صاحبات المرجعيات الدينية إلا خلال النزاع مع الإخوان المسلمين، في الوقت الذي كانت تُحرم فيه بعض الناشطات السياسيات العلمانيات من فرص التوظيف استنادا لموافقات أمنية، كما أن العمل في السلك التعليمي كان مشرع الأبواب أمام النساء ذوات المرجعيات الدينية، على اختلاف هذه المرجعيات (الإسلامية أو المسيحية)، ما عدا النساء المنتميات إلى طائفة “شهود يهوه.”
كان التجمع محظوراً في سوريا على الجميع باستثناء منظمات “الحزب القائد”، وكان من تبعات هذا الحظر ملاحقة القبيسيات اللواتي كنّ يعملن خارج إطار المنظمات الشعبية. وتقول سيدة كانت ضمن القبيسيات:28 تعرضت بعض عضواته للملاحقة والاعتقال، مثلما حدث مع الشيخة التي أشرفت على تدريسي العلوم الشرعية ضمن إحدى الحلقات. أما السيدة ك فتقول: “في أواخر السبعينيات كنا نضطر لاستخدام كلمات مشفرة في اتصالاتنا، وأحيانا كنا ننقطع عن اللقاءات لأسابيع.”29
وفي عام 2006 جرى تبليغ أجهزة الأمن بالتوقف عن مضايقة القبيسيات، وسرت شائعات في البلد تقول إن الشيخ البوطي قد توسط لهن عند الرئيس بشار الأسد وقال له “إن القبيسيات يدعون لك في صلواتهن”، فجرى رفع الحظر عنهن “شريطة أن تقام حلقاتهن ضمن ما يسمى المعاهد الشرعية في المساجد.”30
ولم تكن هذه الإجراءات التسهيلية خاصة بالقبيسيات أو بالنساء ذوات المرجعيات الدينية فقط، بل شملت أيضا المشايخ والنشاطات الدينية عامة، بينما صدر تعميم بحل جمعية “المبادرة الاجتماعية” وصدر تعميم من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بعدم التعامل مع “رابطة النساء السوريات”، كما طلبت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل من وزارة الثقافة عدم السماح لأي سيدة تحمل صفة “ناشطة نسوية” بتقديم أي محاضرة في المراكز الثقافية!31 كما جرى رفض ترخيص جمعيات تدعو لنشر العلمانية. وقبل 2006 لم يُعط إلا ترخيص واحد لجمعية “تطوير دور المرأة” التي أسستها زوجة فراس طلاس.
إذا، كانت المقايضة واضحة وجلية للعيان: جمعية مدنية جاءت من مراكز النفوذ السياسية، وجمعية دينية جاءت من مراكز النفوذ الدينية.
كانت السلطة بحاجة إليهن بعد قضية اغتيال الرئيس الحريري (2005) وبعد حرب تموز 2006 التي وقفت معظم البلدان العربية ضدها، وفي المقابل كانت القبيسيات مستعدات لتقديم الدعم المجتمعي لهذه السلطة مقابل التضييق على الاتجاهات العلمانية النسوية، والحد من أي تعديلات قانونية تقرّب النساء السوريات من حقوقهن بالمساواة في المجالات كافة.
ويقول د. محمد حبش في علاقة القبيسيات بالسياسة: “خلال خدمتي في مجلس الشعب كنت دائم المواجهة مع المخابرات بشأن القبيسيات، فقد كان المخابرات يرون فيهن خلية إخوانية نائمة، وأن موقفهن المتسامح من الحاكم لا يعني بحال من الأحوال الاطمئنان لعملهن، وخلال خدمتي في مجلس الشعب تبنيت مبدأ إخراج القبيسيات من الغموض إلى العلانية، وكان موقفي يستند إلى قناعتي بأن المجموعة هي في الواقع مجموعة تعليمية ناجحة لا تمتلك أي برنامج سياسي وأن ممارسة إرعابها ومحاصرتها قد يدفع كثيراً من أبناء الجماعة للتطرف، وبالفعل فقد تمكنت من الحصول على عدد من الرخص لشيخات قبيسيات لممارسة العمل العلني في المساجد في سوريا وكان ذلك بداية خروجهن إلى العلانية منذ عام 2005.”32
وبعد انتفاضة 2011 اختلف المشهد العلني بشكل كبير في ظل الانقسام المجتمعي الحاد الذي شهده المجتمع السوري، خاصة مع صورة لاجتماع عدد من القبيسيات مع وزير الأوقاف في القصر الجمهوري في لقاء خاص مع الرئيس السوري بشار الأسد، ومع تعيين الداعية سلمى عياش معاونة لوزير الأوقاف، والتي قالت إن الرئيس بشار الأسد قد “نقل العمل الديني النسائي من البيوت حيث الظلام والضبابية، إلى المساجد حيث النور والضبط“، ويوضح د. محمد حبش أن برنامج نقل العمل الديني النسائي إلى المساجد وترخيص هذا العمل قد “كلف به وزير الأوقاف الذي قام بإحداث إدارة خاصة للنساء في الأوقاف، واختار قريبة له من القبيسيات، سلمى عياش، لتكون مشرفة الإدارة النسائية في الأوقاف، وهذه الرخص تصدر حصراً من المكتب النسائي في وزارة الأوقاف.”33
ومع ظهور الحشد النسائي الكبير في الجامع الأموي عشية انتخاب الرئيس بشار الأسد (2014). وأدت هذه التطورات إلى انقسام واضح في صفوف القبيسيات، فالبعض منهن أعلنّ عن مواقف علنية داعمة للنظام، وتقول لمى راجح: “توجد بينهن مواليات للنظام السوري”34، وأكد بيان وزارة الأوقاف الأخير هذا الأمر عندما ذكر: “كان لهنَّ دور مشهود وبارز أثناء الحرب على سورية في مواجهة التطرّف والطروحات الطائفية التقسيمية، بل وكان لهن الدور الرائد في الدفاع عن الدولة ووحدة الوطن“؛35 بينما ظهرت مواقف بين القبيسيات تبرر ما حصل من باب درء المفاسد، “فتروي إحداهن، كيف أنهن ذهبن تلبيةً لدعوة اعتيادية من وزارة الأوقاف كونهن مديرات مدارس شرعية للبنات ومعاهد حفظ القرآن وتم ذلك في المسجد الكويتي بشكل طبيعي. وبعد انتهاء اللقاء تم نقلهنّ بباصات، ثم وجدنَ أنفسهنّ في قصر بشار الأسد، وقد ذكرت واصفةً اللقاءً بأنه عادي؛ وأن الكثيرَ من الحاضرات استأن من أسلوب إحضارهن ثم تتفاجأ الداعيات بعد الانتهاء بنشر وكالة الأنباء خبرًا حول الموضوع مرفقًا بالصور!”36
ويورد د. محمد حبش تبريرات أخرى فيقول: “إن التجمع النسائي الكبير الذي ظهر في الجامع الأموي لتأييد الانتخابات ليس تجمعاً قبيسياً وإنما هو حشد لكل العاملات في الأوقاف، وهؤلاء بالطبع لسن موظفات مأجورات، ولكن من المؤكد أن تراخيصهن في العمل الديني مؤقتة وتخضع للتمديد والتجديد بشكل دوري ومن المؤكد أن غياب أي واحدة منهن عن هذا الحشد يعتبر نهاية ترخيصها ووقف عملها الدعوي، وبالتالي مضايقتها بشكل مستمر وهذا أمر بدهي لدى كل من يعمل في الحقل الديني في سورية.”37
ولم تخف معاونة وزير الأوقاف سلمى عياش موضوع الانقسام الحاصل بين القبيسيات، بل افتخرت بأنه ليس كبيرا خلال كلمة لها في اجتماع مخصص لبحث موضوع فقه الأزمة، حيث قالت: “أحب أن أطمئنكم، لا توجد أزمة واقعية بين صفوف داعياتنا في سوريا أبدًا وإن وجدت فهي لا تتجاوز اثنين بالمائة ممن هن خارج صفوف الداعيات المنضبطات بشروط الوزارة”.38 كما أنه جرى الحديث في العديد من المرات عن “حرائر القبيسيات”، أي القبيسيات اللواتي عارضن النظام بشكل واضح. وتقول السيدة ك: “هناك نقمة من القبيسيات على من قابلن الرئيس، ولم أسمع أيا من الآنسات تدعو لولي الأمر، بل إنهن يعبرن في السر عن نقمتهن على هذا الحكم لأنه غير مسلم.”39
ومن اللافت أن علاقة السلطة الحاكمة مع “القبيسيات”، شأنها شأن العلاقة مع التيارات الدينية، عامةً، قد خضعت لحركة تنوس بين “غض النظر”، الذي يعني في بلد يحكمه الأمن شبه تصريح بالعمل، وبين السماح بشكل علني بالعمل.
وبعد هذا الاستعراض هل يمكن القول إن القبيسيات لا يقمن بأي دور سياسي؟ ربما كان دورهنّ دوراً سياسياُ غير مباشر، لكنه بالتأكيد أثّر، وبشكل كبير، على سياسات الدولة تجاه حقوق النساء، خاصة أن المنابر المتاحة لهن ولدعوتهن لا تُعد ولا تُحصى، كما أنهن أيضاً حيث يقوم العديد من التجار بالتبرع للتجمع كزكاة أو صدقة، أو من خلال نسائهم وبناتهم المنخرطات في التجمع، وهؤلاء التجار تربطهم علاقات قوية مع النظام السوري مما سينعكس حتماً على موقف القبيسيات.
المراجع:
1– وزارة الأوقاف، بيان صادر عن وزارة الأوقاف، دمشق في 5 رمضان 1439، 21 أيار 2018
2- المصدر السابق: وزارة الأوقاف، بيان صادر عن وزارة الأوقاف، دمشق في 5 رمضان 1439، 21 أيار 2018
3- المصدر السابق، وزارة الأوقاف، بيان صادر عن وزارة الأوقاف، دمشق في 5 رمضان 1439، 21 أيار 2018
4- أشار بحث مركز “جسور للدراسات” في بحثه المعنون ب “جماعة القبيسيات، النشأة والتكوين” إلى أن منيرة القبيسي قد بدأت نشاطها الدعوي في ستينيات القرن الماضي، ولم نجد أية إشارة أخرى تؤكد هذا التاريخ.
5- سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.
6- مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.
7- قال الرئيس حافظ الأسد في خطابه في ذلك الوقت: “أنا أفهم تطلعات رفيقاتنا، أفهم تطلعات هذا الجيل، من الشابات بشكل خاص، .. وأفهم تمردهن على بعض الظواهر التي يرين فيها دلائل على ماض مظلم .. أنا أقول لرفيقاتنا بصدق الأب وصراحة الأب، إنني قلقت للحادث عندما سمعت به، وتأثرت له، سيما وكما ذكرت عرفت إن النسوة اللواتي شعرن ببعض الإساءة إليهن كن من المتقدمات سنا، وهؤلاء النسوة لسن معاديات للثورة، وربما بينهن كما علمت ما يمكن أن أقول عنه أم البعض، وبينهن أخوات البعض من فتياتنا الشابات الممارسات للتدريب والموجودات الآن بيننا”.
8- facebook.com/AlshykhAhmdKftarw/photos/a.145175868948126.30784.145150298950683/198570833608629
9- محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات، 2014/06/09
10- مرجع سابق، مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.
11- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي، جرى الاقتباس بتصرف من الباحثة.
12- مقابلة خاصة لغرض هذا البحث مع السيدة و غ التي تلقت علومها الدينية في صغرها عند القبيسيات في ضاحية من ضواحي دمشق.
13- ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، صوفية.
14- المرجع السابق، ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، صوفية.
15- لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.
16- مرجع سابق، محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات، 2014/06/09.
17- مرجع سابق، ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، صوفية.
18- مرجع سابق، ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، صوفية.
19- مرجع سابق، ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، صوفية.
20- النقشبندية، ويكيبيديا نقشبندية.
21- مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.
22- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.
23- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.
24- مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.
25- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.
26- مرجع سابق، مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.
27- القرار التنظيمي رقم 10 لعام 1974.
28- مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.
29- مرجع سبق ذكره: مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.
30- مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.
31- يمكن أن يكون هذا الأمر موضوعا لمقالة لاحقة.
32- مرجع سابق، محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات، 2014/06/09.
33- المرجع السابق، محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات، 2014/06/09.
34- مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.
35- مرجع سابق، وزارة الأوقاف، بيان صادر عن وزارة الأوقاف، دمشق في 5 رمضان 1439، 21 أيار 2018.
36- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.
37- مرجع سابق، محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات، 2014/06/09.
38- المرجع السابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.
39- مرجع سابق، مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.