جدليّات كأس العالم: ملف خاص
[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدود الدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة. وستنشر النصوص تباعاً]
محمد العباس: مونديال روسيا … تأملات ما بعد حداثية
أتابع مونديال روسيا من موقع المتفرج لا المشجع. المتفرج المتأمل خلف الشاشات، الموجه عبر العدسات فائقة الحداثة، لا المشجع المحترق في المدرجات. وإذ كانت المنتخبات العربية الأربعة (مصر، السعودية، تونس، المغرب) قد وشت منذ أول إطلالاتها بعلامات الضعف الأدائي انخفض عندي منسوب الانفعال القومي على إيقاع يقين الخروج المبكر بعد الدور الأول. كذلك لم أرهن حواسي لأصنام اللحظة الكروية ليونيل ميسي، وكريستيانو رونالدو، ومحمد صلاح، ونيمار جونيور، فالآلهة لا تلعب بالنيابة عن الفريق المتكامل الذي صار عنوانًا للعب الجماعي الحديث. وأيضًا لم أشاهد التصفيات الأولى وكأنها تحصيل حاصل في خدمة الفرق الكبرى ذات السمعة الكروية. ولذلك لم أستغرب ولم استشعر انتهاء متعة المونديال بعطالة الماكينات الألمانية في الجولة الأولى، وخروج الماتادور الأسباني وملاحي البرتغال في المرحلة اللاحقة باعتبارهم أركان البهجة المفترضة للمونديال.
كل ذلك لم يقتل متعة مشاهدتي لحُمى المنافسة ما بين الفرق المتقاتلة من أجل التأهل. فمشاهدة المونديال بقلب خالٍ من الولاءات العاطفية وذاكرة معقلنة ومتخففة من الميول السياسية قد يأخذ من مشهد المبارزات بعض ألقه وحماسته، ولكنه يكفل لي متابعة المباريات كنص جمالي فيه من السرد ما يوازيه من الشعر. وهذا ما تفترضه مجازات المستطيل الأخضر. حيث البحث عن المعنى الذي لم يقر بوجوده امبرتو ايكو في لعبة كرة القدم، التي تترتب -من وجهة نظره- بواسطة وبين شركات، وتتأسس الفُرجة فيها على نماذج محدّثة من المتصارعين (غلادياتورز). وهذا بدوره لم يغب عن بالي فالمونديال كرنفال استثماري كوني يتطلب تحييد كل عناصر التوظيف السياسي والتجاري لاعتصار رحيق المتعة الكروية الصرفة الخالية من نكهات البروباغاندا بكل تجلياتها.
لم أتعمد مشاهدة هذا المونديال من منظور ما بعد حداثي، ولكن يبدو أن اللحظة المابعد حداثية فرضت نفسها على صيرورة المونديال وعلى مزاجي وآليات استقبالي للحدث. فكما تموت النخبة في مشهد ما بعد الحداثة الثقافي تساقطت نخبة الفن الكروي تباعًا: محمد صلاح، ليونيل ميسي، كريستيانو رونالدو، وهكذا. حتى دييغو مارادونا الذي نفض عنه غبار الزمن وعاد إلى فترينة المدرجات كتمثال مقدس، انتهى دوره الاستعراضي بمجرد خروج منتخب الارجنتين من المنافسة. بمعنى أن اللاعب المعياري المتأتي من أفق الحداثة وما قبلها لم يعد له ذلك الأثر الحاسم. وأن اللاعب السوبر لم يعد قابلًا للتأليه أو حتى التصنيم بمقتضى نتائج المباريات وحيثيات الجمالية الأحدث لكرة القدم.
ذلك بالتحديد هو ما جعل صمود بعض الفرق الصغيرة القادمة من الهامش تشكل الفارق في أفق التوقع عوضًا عن برودة النتائج المتوقعة أو المحسومة سلفًا في أذهان الجمهور. وهذا الصمود كان بمثابة الإعلان عن صعود الهامش وظهور التنوع والتعدد ضد الأحادية والمركزوية الكروية. وكذلك الأهداف الغفل المسددة بأقدام صديقة كانت هي الأخرى مكمنًا من مكامن الدهشة الكروية. مقارنة بالرأسيات والمقصات والتسديدات القذائفية عن بعد. حيث اختزنت تلك الأهداف بارتفاع منسوبها جماليات اللوعة وتجليات الخيبة، التي جعلت الفريق المكلوم يتبدى كلوحة مزدحمة بالندم واليأس والارتباك مرتسمة بألم على وجوه اللاعبين. والأهم هو تلك الأهداف التي سُجلت في الوقت الضائع، أي دقائق ما بعد التسعين دقيقة. حيث العودة بالمباراة إلى درجة الصفر على مستوى الشعور والنتيجة، إذا كان الهدف ترجيحيًا في كفة التعادل، أو الإجهاز القاتل على الفريق الخصم إذا كان الهدف إيذانًا بالفوز وانقضاء الأمل بالتعويض. وكذلك لحظات التوتر الدرامي التي الدرامي التي كانت تتخلل المباريات عندما يتم اللجوء إلى الحكم الفيديوي المساعد VAR.
تلك هي امبراطورية علامات الدهشة بالمعنى البارتي، إذ لا وجود لآلهة تنتصر لهذا الفريق أو ذاك. كما أن السرديات الكبرى للمنتخبات التاريخية شهدت أفولًا صريحًا أشبه مايكون بسقوط الأيدلوجيات، حيث كانت الهزيمة الثقيلة للسامبا البرازيلي في المونديال السابق، وعدم تأهل الآزوري الإيطالي لهذا المونديال، وأفول مجد الطواحين الهولندية إشارة لذلك التفكك. ليظل المشاهد أو المتفرج يعيش لحظة متحركة ومزدحمة بالتفاصيل الصغيرة الهامشية التي تشكل لوحة بانورامية من لوحات فن الحدوث. إذ لا معنى خارج مسرح القسوة المتمثل في المدان. وحيث الجمهور يمتلك كل مقومات المشاهدة والتقويم بمعزل عن إملاءات استوديو التحليل. فعندما تتحطم أصنام الملاعب وتهترىء أيدلوجيات المراكز الكروية تتماهى الجماهير تلقائيًا مع ذلك التحول وبذلك تستلم حق إبداء الرأي، وإطلاق أحكام القيمة.
وهنا كان مكمن التحدي اللاشعوري بالنسبة لي. أي أن أخرج من غرائزيتي، ومن الإحساس الشعبوي الذي يفرض نفسه على كل تفاصيل الحدث. وكذلك الغاء فكرة أن أي حديث عن كرة القدم هو حديث موارب عن السياسة، أو تعويضًا لا إراديًا عن الخوض فيها. فكرة القدم ليست هدنة بين أحداث سياسية وليست قناعًا شفافًا لوقائع مرئية، بقدر ما هي نص جمالي له أبعاده الواقعية والرمزية، فالحقيقة الكروية ضمن هذا المونديال بدت مخدومة بما بعد الحداثة التكنولوجية التي تسمح للحواس ليس بتأمل المشهد أو اللقطة وحسب، بل الاشتراك الحسي في الاستمتاع بها وتفكيك ألياف الصورة بحثًا فردانيًا عن الحقيقة الجمالية المتفصدة في شظايا نسبية. وهذا هو ما يفسر لي كيف وجد الكائن البشري المستعجل، المزدحم بيوميات الحياة المتسارعة فائضًا من الوقت ليتابع مونديال كأس العالم في روسيا، مشاهدة، وتحليلًا.