بعد جولة وفد الولايات المتحدة برئاسة جاريد كوشنير في المنطقة في نهاية شهر حزيران الماضي، ظهرت في عدد من وسائل الإعلام أخبار مفادها أن الوفد عائد بعد الجولة بتوقعات منخفضة حيال إمكانية تنفيذ "صفقة القرن". وظهرت أيضا تصريحات متفائلة من قبل بعض المسؤولين الفلسطينيين حول فشل هذه الخطة. غير أن هذه الأخبار في الواقع غير صحيحة أو، كحد أدنى، غير دقيقة. والتصريحات المتفائلة مبكرة وتغفل أمرا أساسيا في الخطة، وهو أنه ليس من الضروري لها أن تنفذ دفعة واحدة كصفقة متكاملة، وأنه من الممكن تنفيذها على مرحلتين على الأقل بعد خلق أمر واقع جديد يفرض نفسه على جميع الأطراف.
وصحيح أن الموقف الفلسطيني القوي في رفضه الخطة قد أفشل الجانب المتعلق بالعودة إلى المفاوضات دون وقف الاستيطان أو بمرجعية حدود عام 1967 ودون القدس كعاصمة لدولة فلسطين، وهي البنود الأساسية في الموقف الفلسطيني الرسمي. وقد كان الموقف الفلسطيني معروفا للوفد عند زيارته الأخيرة نظرا لأن الرئيس أبو مازن قد أعلن عن هذا الموقف مرارا. وحتى لا يفهم أن الموقف الفلسطيني قد تغير، فقد أعاد الناطق بلسان الرئاسة الفلسطينية السيد نبيل أبو ردينة تأكيد الموقف الفلسطيني خلال زيارة الوفد. بالتالي: كيف يمكن القول إن الوفد الأمريكي عاد بتوقعات منخفضة بعد أن كان يعرف تماما ما هو الموقف الفلسطيني قبل الزيارة، وكان يعرف أيضا رفض الجانب الفلسطيني حتى الاجتماع معه، وكان يعرف هذا قبل الجولة الأخيرة، إذ أن برنامج الجولة الذي أعلن عنه قبل حضور الوفد لم يتضمن أي لقاء مع الجانب الفلسطيني؟
ماذا إذا كان هدف الزيارة؟ قطعا ليس تنفيذ خطة ترمب كما هي بكاملها بما في ذلك مسار سياسي جديد مع الجانب الفلسطيني. وتوجد أدلة كافية تشير إلى أن الهدف هو أن يتم تنفيذها على مرحلتين على الأقل حتى وإن تم ذلك في زمن يطول. ويهدف تنفيذ المرحلة الأولى منها إلى خلق أمر واقع محدد يتم البناء عليه لاحقا، خاصة وأن هذه المرحلة لا تلزمها موافقة فلسطينية، ولن تطلب مثل هذه الموافقة، سواء من قبل السلطة في غزة أو في الضفة، ولكن يلزمها تمويل عربي لتنفيذها وموافقة أطراف عربية أساسية.
تتعلق المرحلة ألأولى بغزة تحديدا وتتكون من ستة عناصر على الأقل، وستنفذ جميعها خارج قطاع غزة في شمال سيناء وقرب العريش: إقامة محطة لتحلية مياه البحر، وإقامة محطة كهرباء، وإقامة مدينة أو مدن صناعية تستوعب عددا من العمال الفلسطينيين من القطاع إضافة لليد العاملة المصرية، فتح معبر رفح بشكل مستمر، السماح باستخدام مطار العريش من قبل سكان قطاع غزة للتواصل مع العالم الخارجي، وإقامة مرفأ خاص للتبادل التجاري مع غزة إما في مصر أو في قبرص وتحت إشراف أمني إسرائيلي إضافة لإشراف مصري أو قبرصي. وقد يسبق ذلك تسوية موضوع جثامين الإسرائيليين "المفقودين" في غزة وترتيبات "أمنية" محددة ستطلبها إسرائيل، منها عدم حفر أنفاق تصل إلى داخل إسرائيل واستمرار تولي حماس المسؤولية الأمنية على القطاع.
هذا الجانب الأخير قد لا يتطلب اتفاقا نظرا لأن إسرائيل كانت وما زالت تحمّل حماس هذه المسؤولية. فكما هو معروف، دأبت إسرائيل على قصف مواقع لحماس ردا على إطلاق نار أو صواريخ من القطاع، من أي طرف كان، على اعتبار أنها السلطة الفعلية القائمة وأن هذه مسؤوليتها من منظور إسرائيلي.
والهدف من إتمام هذه المرحلة الأولى من الخطة من منظور الولايات المتحدة وإسرائيل "تحييد" جبهة غزة في صراعات المنطقة والتفرغ لحصار إيران الذي من غير المستحيل أن ينتهي بصراع عسكري، وإن كان يبدو بعيدا الآن. خاصة أن الوضع في غزة قابل للاشتعال بسبب الضائقة غير المحتملة التي يعاني منها المواطنون الفلسطينيون والتي تزداد سوءا، أو خشية أن يتحول هذا الوضع إلى محور للتضامن العالمي يعزز حملة المقاطعة العالمية وسحب الاستثمارات. وكانت مسيرات العودة باتجاه الشريط الحدودي مؤشرا هاما لم تفت معانيه على إسرائيل والولايات المتحدة.
وإن تمت هذه المرحلة، سينشأ وضع فيه استقرار نسبي في قطاع غزة وفي الضفة الغربية أيضا، وبقدر ما شبيه في الحالتين: حكم ذاتي محدود الصلاحيات في ظل سيادة إسرائيلية، دون تسوية سياسية في هذه المرحلة، واستمرار المشروع الصهيوني في الضفة الغربية من ناحية سرقة الأرض والاستيطان، بعد أن استكمل في مناطق ال48.
لكن، هل يعني هذا استبعاد أي حل سياسي من منظور الولايات المتحدة وإسرائيل، أي الشق الثاني من خطة ترمب؟ ليس بالضرورة وإنما يؤجل ربما إلى ما بعد مرحلة القيادة الفلسطينية الحالية. في الأثناء وبعد مرور بعض الوقت، قد يجري العمل على إقناع نخب فلسطينية متنوعة بأن الشق الثاني لخطة ترمب، ربما مع بعض التعديلات، أفضل من الوضع الحالي خاصة مع استمرار الاستيطان والمصادرة المستمرة للأراضي في الضفة الغربية. طبعا، لا توجد ضمانات لنجاح هذه المساعي، ولكن الهدف هو التضييق المستمر للخيارات الفلسطينية كأمر واقع يصعب تغييره، وهو ما دأبت إسرائيل على القيام به منذ إنشائها وحتى الآن.
أخيرا، قد ينشأ الاعتراض التالي على هذا السيناريو: إذا كانت هذه خطة بمراحل قد تطول، ولا توجد ضمانات لكسب ترمب جولة ثانية من رئاسة الولايات المتحدة بعد عامين ونصف تقريبا، فماذا الذي يضمن من منظور الإدارة الأمريكية الحالية عدم تغيير السياسة الأمريكية إن خسر ترمب الانتخابات فيما يتعلق بالشق الثاني من "صفقة القرن"؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في أن أي إدارة أمريكية بعد إدارة ترمب ستواجه هي بأمر واقع قائم ومستمر ومتزايد مع مرور الوقت يصعب عليها تغييره، خاصة نظرا لنفوذ إسرائيل المعروف داخل الولايات المتحدة وسطوتها على الكونغرس. وتاريخ المفاوضات عبر السنوات يشهد لهذا بما في ذلك الموافقة على بقاء "الكتل الكبيرة" من المستوطنات، والتي سيضاف إليها مستوطنات أخرى و"حقائق" أخرى مع مرور الوقت، والاستمرار المتوقع لسطوة اليمين داخل إسرائيل. ولا يوجد أي سبب للاعتقاد أن أي إدارة أمريكية قادمة لن تبدأ من الوضع القائم على الأرض كما هو. وجريا أيضا على السوابق، من غير المتوقع أن لا تتساوق السياسة الأمريكية في المستقبل مع العناصر الرئيسية في خطة ترمب، كما فعلت إدارة الرئيس السابق أوباما مع "محددات" الرئيس الأسبق كلينتون. فالسياسة الداخلية الأمريكية لن تسمح بذلك. هذه هي العبرة الأساسية من مواقف الولايات المتحدة عبر السنوات والعقود الماضية.
لذا، فإن السؤال الأساسي الذي يواجه الفلسطينيين اليوم والذي ما زال ينتظر الإجابة: ما الذي يمكن فعله إزاء الوضع الراهن والمستقبلي عدا عن الانتظار دون أفق سياسي. ولعل نقطة البدء تكمن في الصورة الكبرى: إن الرصيد الفلسطيني الاستراتيجي هو وجود شعب على أرضه يصل عدده الآن إلى نصف عدد السكان في فلسطين التاريخية. لولا هذا لانتهت القضية لأن جوهر المشروع الصهيوني هو الأرض بدون السكان. فالسؤال إذا: كيف يمكن البناء على هذا الرصيد وكيف يمكن تفعيله باتجاهات مختلفة، وما هي المستلزمات الداخلية والخارجية لذلك ؟ هنا تكمن بداية الإجابة نحو مشروع وطني متجدد. وصحيح أن الخيارات صعبة، ولكل خيار ثمن، لكن الثمن الأكبر هو بقاء الوضع الراهن كما هو دون أي مبادرات فلسطينية فاعلة ومدروسة.