جدليّات كأس العالم: ملف خاص
[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدود الدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة. وستنشر النصوص تباعاً]
لعل أول دورة لكأس العالم تابعتها تعود للعام 1978. وكان انتباهي قد بدأ قبل بدء البطولة بعدة أشهر؛ حيث وجدت لدى إحدى المكتبات ألبومات صور وملصقات تتضمن أسماء الفرق والدول المشاركة، وأبرز اللاعبين، وبدا لي الأمر لافتًا ليس على مستوى فكرة لعبة كرة القدم نفسها، بل على مستوى آخر له طابع قومي. بدأت أتعرف على أسماء دول أسمع عنها لأول مرة ربما مثل بيرو وأورجواي، وبعض دول أوربا غير المركزية الشهيرة. وانتبهت إلى وجود تونس بين الفرق المشاركة، وكان ذلك حدثا استنفر الحماس القومي لدى الصبي الذي كان يتعلم ويراقب الأشياء من حوله بفضول عمر الحادية عشر.
تبينت أن السياسة لها تأثير واضح ليس فقط في عدم تواجد المنتخب المصري آنذاك بين المشاركين، بل وفي استبعاد التعلق بالمنتخب الوطني نفسه لسنوات طويلة. فقد أدى توقف نشاط الكرة في مصر بين عامي 1967 وربما حتى 1973 إلى غياب تأثير وجود المنتخب في الأنشطة الرياضية وكان الاهتمام يتعلق فقط بالدوري المحلي.
على أية حال، ظلت سحب السياسة مستمرة أيضًا خصوصًا بعد زيارة السادات للكنيست الإسرائيلي في 1977. ولهذا ظل تعلقي، وربما الكثير من رفاق جيلي، بحدث كأس العالم مرتبطا بهذا الألق العالمي لكأس العالم ومشاهدة مباريات كرة عالية المستوى، ومتابعة أسماء رهيبة مثل ريفيلينو وكارلوس وإيدينو وأوسكار، في البرازيل، وبلاتيني فرنسا، ورومينيجه ألمانيا، ثم روسي ومارادونا وسواهم ممن تابعنا التعرف عليهم لاحقا في الدورات المتتالية.
استمرت معاناة مصر في الوصول لكأس العالم دراما مؤلمة وعقدة كبيرة لم تنحل إلا في العام 1990 على يد مدرب المنتخب الوطني محمود الجوهري الذي ساهم في إسعاد جماهير مصر بشكل غير مسبوق بعد سنوات من الإحباط. ثم تعاقبت 28 عاما متتالية لم تعرف فيها مصر بطولة كأس العالم، إلا هذا العام أخيرا.
لكن المحبط أن ظلال السياسة ألقت بثقلها مرة أخرى، وكان حظ الفريق المصري منها يفوق غيره، بسبب الاستقطاب الرهيب الذي تعيش مصر تحت ثقله، الذي يحول كل عطاس أو سعال موضوعا للاستقطاب السياسي، فما بالك بفريق في كأس العالم! المهم، خرجت مصر من الدور الأول للبطولة وتبعتها الدول العربية تباعا ومع الأسف.
كان الدرس الكبير الذي يقدمه كأس العالم باستمرار، أن اللعب الجميل في النهاية لا علاقة له بالسياسة، فقد كانت كرة أمريكا اللاتينية بزعامة البرازيل الأجمل بلا منازع وبامتياز، رغم كل المشاكل السياسية المروعة التي عاشتها تلك القارة خلال السبعينات والثمانينات، وظل أساطير لعب الكرة منذ بيليه في الستينات وحتى اليوم أغلبهم نجوم المنتخب البرازيلي، وكذلك في الأرجنتين، وصحيح أنه بعد تطور مفاهيم الاحتراف ومناهج التدريب والاعتماد على التكتيك أصبحت هناك مدارس وأساليب لعب مختلفة ومنافسة؛ خصوصًا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا، وبريطانيا.
وصحيح أننا بتنا منذ سنوات أكثر وعيا لما يفعله رأس المال العالمي تجاه المنطقة العربية والذي لا يمكن وصفه إلا بشكل جديد من أشكال الاستعمار ، وصحيح أن العالم تغير وكرة القدم أيضًا، حيث شهدنا في الدورة الماضية من بطولة كأس العالم الخروج الأكثر مهانة؛ ليس للبرازيل كفريق لا ينافسه أحد في عدد الحصول على البطولة (5 مرات)، ناهيك عن عدد مرات الوصول للنهائي، بل الإهانة لكرة القدم الجميلة، لصالح القوة والتكتيك والتركيز والتخطيط الاستراتيجي للمدربين.
أقول رغم تأثير الإدارة الحديثة على تغيير مفاهيم كرة القدم، لكن على الأقل كان لدينا الأمل، خلال هذه الدورة تحديدا، في بعض العدل، بسبب تقنية حق إعادة اللقطات الحساسة من قبل لجنة تحكيم خاصة في غرف معدّة بشاشات تعرض المباريات من كافة الزوايا، فطالما كنا شهودا على مظالم وأخطاء أخرجت منتخبات عريقة إما بسبب ضربة جزاء ظالمة أو عدم احتساب أخرى مستحقة. ولعل أشهر هذه الأحداث هدف فوز الأرجنيتن على بريطانيا العام 1986 بهدف مارادونا الذي أحرزه بيده ولم ينتبه له الحكم.
لكن الملاحظة المدهشة أن استخدام هذه التقنية المعرفة باسم (VAR ) أو Video Assistants Referee ، أو حكم الفيديو المساعد، بدت أنها لم تنصف أبدا منتخبا عربيا أو إفريقيا مهما كانت اللعبة مستحقة. وإذا كنا نحن العرب نعاني من عقدة الشعور بالاضطهاد، يعززها مؤامرات شهيرة في تاريخ كأس العالم من مثل مشاركة ألمانيا والنمسا إقصاء الجزائر التي كانت فازت على ألمانيا 3-1 في دورة 1982، وعلى المغرب من البرازيل عام 1998، وكثير من دول إفريقيا في دورات مختلفة، فبات الفرد يشعر في هذه الدورة أن الدائرة الآن بدأت تنسحب على أمريكا اللاتينية أيضا، كأن رأس المال يريدها كأسا أوربية بامتياز!
فقد مرت أربعة عقود بين الدورة الأولى التي تابعتها والتي كان الفريق الوحيد الممثل لإفريقيا فيها هو تونس، والفريق الوحيد الممثل لآسيا إيران، وبين الدورة التي أتابعها اليوم وتمثل إفريقيا فيها خمسة فرق بينما تمثل آسيا أربعة، لكن الظروف كلها لا تزال تلعب ضد أغلب فرق القارتين، سوء التخطيط وعدم الجدية وتأخر مفاهيم الاحتراف بشكلها الأوربي. وحتى من رحم ربي من بينها، وتمكن من التغلب على هذا كله، وقدم كرة عالمية مثل الفريق المغربي والسنغال ونيجيريا، وقفت له المركزية الأوربية بالمرصاد لتفقده حقه العادل؛ من خلال الاستخدام السلبي لتقنية Var. هذه التقنية التي ينبغي حقا أن يطبق عليها القول: فإما أن تَعْدِل وإما حق عليها الاعتزال!