[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدود الدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة. وستنشر النصوص تباعاً]
محمد ماجد العتّابي: ذاكرة المونديالات: «وتروح وتجي (الأحلام)»
“لقد ضيّع شيئاً عظيماً. . .عظيماً جداً يا حمّودي!"، هذا ما قاله لي والدي إثر تعجبي من تصنّم باجيو بعد إهدار ركلة الجزاء التاريخية - وهي الكابوس الذي ظلّ يؤرقه طوال حياته كما يقول - في مونديال ٩٤ أمام البرازيل التي حصدت اللقب، ضيّع باجيو حلمه يومها، وأنا الضائع مع التعليق بالفارسية التي لم أكن أفهمها تماماً آنذاك وأنا إبن الخامسة، إبن العائلة المهاجرة أو اللاجئة في طهران.
مونديال ٩٤: مسحوراً بالكرة. . .تائهاً عن النشيد
معجباً حينها بالثنائي الألماني الأشقر يورغن كلينسمان ورودي فولر ابتدأت حكاية تشجيعي للمانشافت الألماني وليومنا هذا، رغم خسارةٍ مفاجئةٍ أمام بلغاريا في ربع النهائي، أتذكر متابعتي لذلك المونديال في شقةٍ صغيرةٍ مُستأجرة في إحدى ضواحي طهران، كعادة هذه الشقق التي تفتقر لنظام تبريد، نُغالب فيها حرارة الصيف - بمرواح السقف والاكتفاء بالملابس الداخلية - والحر أغلبُ، نقطة الإرتكاز في بهو البيت طاولةٌ خشبيةٌ يتربع عليها جهاز تلفاز ضخم، تُقابلها وسائدٌ مُسندةٌ على الجدار الإسمنتي الأبيض، متكئاً عليها ممداً رجليَّ الصغيرتين، أتابع بشغفٍ وسعادةٍ اللاعبين وهم يسجلون، أقفز مثلهم، أقلّد طرق احتفالهم وأصفق لفوزهم، كطفلٍ فضولي لا شك أني أزعجت من حولي بالسؤال عن بديهيات كروية مثل: التسلل، البطاقة الحمراء، الأشواط الإضافية وغيرها، كنت حينها أسيرَ هذه المستديرة الساحرة، مشدوهاً بالحماس، مسحوراً بالتفاصيل، مسحوراً بفكرة البث المباشر- الذي كان يؤخره التلفزيون الإيراني ٥ دقائق ليحذفوا مشاهد القُبل والحسناوات اللاتي يرتدين ملابساً لا تُعجبهم -، مسحوراً بهذا الكرنڤال العالمي، مسحوراً بصيحات المدربين وأهازيج الجماهير، مسحوراً باحتفال بيبتو الشهير بعد أنّ بُشّر بمولودٍ - صار لاعباً محترفاً الآن-، مسحوراً بالدموع أثناء السلامات الوطنية، مسحوراً بأعلام الدول، مسحوراً أكثر شيء بحلمي أن أكون يوماً لاعباً في منتخب البلاد، البلادُ التي لا يتحدث عنها والديَ إلاّ والدموع في قلبيهما حبيسة.
مونديال ٩٨: الوعود لا تصنع الفرح
كان هدفي الوحيد منذ بداية عامي الدراسي: التفوق ونيل المركز الأول نظير حزمة وعود مونديالية، أبرزها متابعة كل مباريات كأس العالم في الصيف دون التهديد بتغيير القناة الرياضية الثالثة في تلفزيون الكويت، الكويت التي كنا قدمنا إليها - بالتقسيط - قبل ٣ أعوام، وشراء فانيلة المنتخب الألماني بالرقم ١٨ الخاصة بكلينسمان، في ذلك الصيف تابعت مبارياتي وحصلت على فانيلتي وبكيت خسارةً مذلة أمام كرواتيا بثلاثية نظيفة في ربع نهائي أيضاً، مع نهاية الصيف أدركت بأن الوعود - وإن حُقّقت - لا تصنع دوماً فرح.
مونديال ٢٠٠٢: الزمن المفقود يهزم رأس المال
انتظرت بشوقٍ ولهفةٍ المونديال الآسيوي في ٢٠٠٢، تزامنت المباراة الإفتتاحية مع امتحانات نهاية العام الدراسي، ذلك العام لا وعود لتُوفى، ولا قناة ثالثة تنقل كأس العالم مجاناً!، ولم يشفع لي نيلي المركز الأول بأن أحظى باشتراك قناة الأوائل البالغ ٤٠٠ دولار، مبلغٌ مثل هذا لن يدفعه والديَ لمشاهدة كرة قدم، لكني لست ممن يفوتون المونديال، ومن له حيلةٌ فليحتال، أخرجت من خزانتي ثلاثة أشرطة فيديو VHS فارغة، توجهت لمنزل صديقٍ يمتلك الاشتراك، طلبت منه أن يُقسم لي بأن يُسجّل المباريات كل يوم، وأستلمها منه ليلاً دون أن يُخبرني بالنتائج، وأعود إليه في الصباح الباكر بالأشرطة ليُسجل عليها مباريات اليوم الجديد وهكذا دواليك، ظللت طوال الصيف أتابع كل شيءٍ قد مضى، المباريات التي غادرت، الدموع التي جفت، الأصوات والأهازيج التي لم يتبق منها سوى الصدى، الآمال التي تبخرت، وخسارة النهائي وحسرة أوليڤر كان ومايكل بالاك، في ذلك الصيف أيضاً وُلد فيَّ يساريٌ صغيرٌ حانقٌ على سرقة لعبة الفقراء من الفقراء، يساريٌ صغيرٌ حاولَ أن يُحارب رأس المال في الزمن المفقود.
مونديال ٢٠٠٦: تاكسي يحملك لنطحةِ برلين
مستقلاً التكاسي (سيارات الأجرة) أصل لمقاهي الأرجيلة التي تبث المباريات عبر شاشات ضخمة، أحياناً أضطر للوقوف في ظهيرة الكويت - حيث تصل درجات الحرارة للخمسين مئوية - في انتظار إحدى هذه السيارات، إذا أردت الحصول على مكانٍ جيدٍ في هذه المقاهي عليك أن تدفع ضريبة الحضور باكراً قبل ساعاتٍ من المباراة، لا صوت هنا يعلو صوت المباراة وسحب النفس من الأراجيل، العاملون في المقاهي حريصون على أن تطلب باستمرار فلكل مقعدٍ ثمنٌ هنا، تُعاتب أحدهم على إلحاحه فيخبرك بصوتٍ خافتٍ أنها تعليمات صاحب المقهى، تشرب الشاي والقهوة وتسرقٌ بعضاً من دُخان وأنت تحدّق في الشاشة منتظراً فريقك، المونديال التي كنت واثقا أن الألمان سيفعلوها هذه المرة على أرضهم، تعود خائباً إلى البيت بعد أن هزمك الطليان العدو اللدود، يحملك التكسي مرةً أخرى على حُلم أن يأخذ زيدان ورفاقه بثأرك، يبتدؤها زيدان بضربة جزاء لا تغادر ذاكرتك على بوفون، ويختتمها بنطحةٍ لماتيراتزي وتتويجٍ لإيطاليا، يعود بك التكسي وقد ودّعت هناك حلماً ومدينةً ونطحة!
ما بعد المونديال. . .ما قبل الحُلم
"وتروح وتجي الأيام" كما يقول مظفّر، أحلامي تكبر، أحلامي تتغير، الحياةُ تزداد تعقيداً، فرحت حد الرقص حين تُوّج الألمان في المونديال السابق، لكن حينها ما عاد ذاك حلمي الوحيد ولا هميَ الأكبر، لا تتويجهم ولا تمثيل البلاد التي ما عادت مثل البلاد!
حينما طُلب مني كتابة موضوع هنا في جدلية ضمن ملفٍ خاص عن كأس العالم، استرجعت جميع البطولات التي شهدتها، لطالما ارتبطت كل بطولةٍ بتحدٍ ما أواجهه، بذكرياتِ الزمان والمكان، وجوه الأصدقاء، الأفكار والمعتقدات، الكتب التي أقرؤها، تسريحة الشعر، تجاربي العاطفية، الظروف المادية، مراحل الدراسة، العطر الذي أقتنيه، شكل دولاب الملابس، لون الجدران، الأحداث السياسية، الأغاني التي أحفظها عن ظهر قلبٍ وأحلاميَ الأخرى التي تشيخُ أحياناً لكن لا تموت.