[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدود الدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة. وستنشر النصوص تباعاً]
حمزة عليوي: ما لم يقله حمودي المدريدي عن هزيمة البرازيل
بلا فلسفة، ولا نظريات كبرى وجدت نفسي مشجعا للبرازيل. لا أتذكر متى أصبحت مشجعا للبرازيل. صرت فجأة مشجعا ومحبا للبرازيل، وربما أكون قد صرت مشجعا للزوراء والمنتخب الوطني في الوقت ذاته؛ ففي بلاد العجائب ليس مهما أن تتذكر متى بدأت الاشياء، ومتى انتهت؛ فنحن شعب نخترع الأشياء كيفما نشاء، أو كيفما تُفرض علينا. ربما أتذكر أنه لم يكن في بيتنا تلفزيون، وقد أرى نفسي الآن متسللا، بين أشجار كثيرة شكَّلت سياق البيت المقابل لنا. بين تلك الأشجار المتشابكة كنت أخبئ نفسي وأنظر إلى اللاعبين الراكضين خلف الكرة. وكم خذلني تلفزيون بغداد عندما أحجم عن نقل مباراة البرازيل وايطاليا؛ فقط لأن حكمها كان إسرائيليا. في الصباح قال حارس مرمى فريقنا: لقد عرضوا المباراة في الثانية ليلا. وكان بإمكاني أن أسهر حتى وقتها، لكن تلفزيون جارنا سيعود به أحدهم إلى مكانه في غرفة الضيف. فيما بعد سأحمل الرجل، صاحب التلفزيون، ملفوفا بكفنه وأضعه في قبره. وبلا إرادة ستصدر مني جملة اعتذار سمعها مني ابنه: ارقد بسلام.. فقد كنت أترصد حركاتك كل ليلة، كل مباراة. وكنت أراك من مكاني بين أشجار السياج. أنا آسف، أتفهم الآن غضبك وحزنك بعد خسارة البرازيل كأس العالم.
ليلة أمس جلست بين شباب كثيرين، أشاهد لعبة البرازيل من جديد. كان الصراخ الهستيري على أشده، ضد البرازيل غالبا؛ فكم تغيرت دنيانا! ذهبت أيام البرازيل، ذهب مشجعوها العديدون. ذهبت الصرخات الملتاعة، الغاضبة، فقط لأن البرازيل خسرت كأس العالم. من مكاني، في المقهى بالطبع وليس بين أشجار حائط جارنا، كنت أتأمل الوجوه الغاضبة، الشامتة؛ لأن البرازيل خسرت كأس العالم مجددا. أكثر الشامتين صراخا كان جالسا خلفي. دمَّر أعصابي بصراخه، فطلبته منه، من حمودي المديدري شخصيا، أن يصمت، في الأقل أن يخفض صوته. لكن هيهات، هيهات أن يصمت المديدري أبداً. هيهات؛ فلا أحد يريد أن يتذكر البرازيل، لا أحد يريد أن يتذكر صديقنا نسيم. سألني شاب يجلس جواري، ولكن من هو نسيم؟ نظرت إليه وأجبته باقتضاب: لا تهتم، إنه مجرد صديق مفترض، كان محبا للبرازيل! ولم يكن صديقنا نسيم مشجعا للمنتخب الوطني البرازيلي؛ فمن يدري ربما يسميه المعلق المحلي في البرازيل أو باهيا أو حتى في (إيليوس).. من يدري ربما يُسمى هناك بالمنتخب الوطني أيضا، بالضبط مثلما كان يسميه السيد مؤيد البدري عندنا في عهود المنتخبات الوطنية، من يدري؛ فقد مات صاحب (غابرييلا.. قرنفل وقرفة)، مات فارس الأمل، تركنا دون أن يخبرنا حقيقة الامر. ولـ"المديدري" أن "يجعر" الآن بصوته عاليا؛ فلا أحد مع البرازيل، لا أحد من المنتخب الوطني، لا أحد مع نادي الزوراء. وسيضحك صديقنا الشاب، وسيقول لي: والآن يا عم، عليك أن تجد عذرا لأسلافي عندما أحبوا وشجعوا فريق الشرطة. ابتسم بوجهه، وأقول له: بحق الشيطان؛ هل هناك من يشجع الشرطة؟! وأكمل كلامي فيما يغص الشاب بضحكه: قحط أندية، قحط منتخبات، قحط برازيل، تحيا الشرطة وهي بخدمة هذا الشعب!!