[تثير مباريات كأس العالم مشاعر حادّة وردود فعل واستقطابات قويّة. كما تؤجّج عصبيّات وتحيّزات قد يتقاطع فيها الرياضي مع السياسي. وهي أيضاً مناسبة استثنائيّة يمحو أثناءها المشجعون والمشجعات الحدود الدولية لتشجيع فريق بلد آخر ورفع علمه. بمناسبة النهائيات الجارية حالياً في روسيا تنشر «جدلية» ملفاً خاصاً يتأمّل فيه الكتاب والكاتبات هذا الحدث من زوايا مختلفة. وستنشر النصوص تباعاً]
هل كرة القدم لعبة فقط؟
أجزم أنّها أكبر من ذلك بكثير، هي حياة متكاملة، مصدر للثراء والعشق والجنون. حين ينتصر الفريق الذي تشجّعه تغمرك السعادة، وحين يخسر ينتابك غمّ وهمّ.
لعلّ أخطر ما في كرة القدم أن يتمّ توظيفها كعامل للفرقة والانقسام، وأن تذكّي العصبيّة لدى أنصار هذا الفريق أو ذاك.
تقلب كرة القدم الانتماءات وهي تدور بحركة دائبة في الملاعب، أقدام اللاعبين ترسم خرائط الفرح والسعادة والنصر على وجوه الناس، بالموازاة مع قدرتها على إغراقهم بالحزن والخيبة والهزيمة.
تخلق نوعاً من إذكاء العصبية والتعصّب والعنصرية لدى المشجّعين الحماسيين، و تخلق كذلك صيغة من الانتماء والولاء لدول بعيدة، لا لشيء إلّا للتعلّق بأحد اللاعبين أو الإعجاب بآخر.
يتعصّب البعض للفريق الذي يدافع عنه، يشعر بالانتماء إليه، تراه يتماهى معه، ويغرق نفسه في الحالة، يقسّم الناس إلى مَن هم معه ومن هم ضدّه، حين يشير إلى فريقه، سواء كان نادياً أو منتتخباً أجنبياً، فإنه يقول نحن، وحين يتحدث عن الآخرين فيحضر مفهوم الـ"هم"، الآخر المستعدَى لأنه مختلف، ولا يتعصّب لتعصّبه، أو يساير مزاجه المتعصّب.
المستغرب أن بعض المشجّعين المبالغين في حماستهم يتجاوزون ما يفترض بأنه روح تنافسية، ينزلقون إلى حالة عدائية، ويتناسون أنّ الروح التي توصَف بأنها رياضية هي أساس اللعبة الذي من دونه تغدو عدوانية واستقتالاً لسحق الغرماء.
كرة القدم تجارة عالمية مربحة، صناعة متشعّبة، سياسة واقتصاد ومال وأعمال، سوق سوداء من أسواق العالم السوداء، وهي بالإضافة إلى ذلك كلّه تبقى شغف الملايين وساحرتهم التي تتحكّم بمزاجهم، تمسك بتلابيب أفراحهم وأحزانهم، تقودهم في علاقاتهم الشخصية، ترسم لهم خطوط نحركهم الاجتماعية، تبرمج لهم أوقاتهم، تبقيهم متأهّبين دوماً لمنافسات لاحقة، وتبقي آمالهم بسعادة مؤجّلة قائمة دوماً.
أتابع ما يتسنّى لي من مباريات كأس العالم، من دون أن أخصّص وقتاً لها، كما أتابع بين الوقت والآخر نتائج مباريات الدوريات الأوروبية، وذلك كي أبقي خيط التواصل معي بعض الناس ممّن تشكّل الكرة هاجسهم، ووسواسهم..
ولعلّ أفضل ما في الكرة والمباريات أنّها تعيد المرء إلى طفولته، تبقي الطفل الغافي حيّاً في روحه ونفسه، ناهيك عن أنها تخلق موضوعاً لا منتهياً، قضية للنقاش، نافذة ليعبّر من خلالها الناس عن أنفسهم، وتلغي الحديث عن الطقس كرابط للتعارف أو التحادث، بل تفسح الدروب للتقارب وتزجية الأوقات بالتسلية والجدّ معاً. وذلك بحسب المرء وطريقة تعاطيه معها.
كرة القدم تبلور جانباً من جوانب الشخصية، وقد تلعب دوراً في بلورة هوية المرء نفسه..
ألوم نفسي أحياناً أنّني أسيّس كثيراً من الأشياء، ومنها كرة القدم التي تشكّل عالماً من الشغف للملايين في كلّ مكان، لكن لا أملك إلّا ذلك، وأنا القادم من بلاد دمّرتها السياسة ونخرتها الألاعيب السياسيّة تاريخيّاً.
لا أذيع سرّاً حين أقول بأنّ تشجيعي للمنتخبات العالمية يكون مبنيّاً على موقفي السياسيّ منها. مثلاً حين تلعب روسيا أو إيران لا أملك إلّا تمنّي الخسارة لهما، وإذا صدف أنّ لعب فريقان ممّن أمقت سياسة بلادهما أتمنّى الخسارة للطرفين معاً، مع أنّي أعلم قوانين اللعبة وعدم جواز ذلك.
أحتاج إلى وقت للتصالح مع فكرة عدم تسييس الكرة، وأعتقد أنّ هذا الوقت سيطول بالنسبة إليّ، لأنّ كلّ شيء مسيّس في عالمنا للأسف، ولأنّ السياسة تتدخّل في كلّ ما من شأنه إفساد حياتنا وتبديد سعادتنا المأمولة وأماننا المنشود..